الآن نحن تحت سيطرة نظام العولمة، الذي يحاول حشر كل شيء في خانته، حتى تُصبح البشرية ذات بعد واحد، لها لغة واحدة (اللغة الإنجليزية) وثقافة واحدة (الثقافة الغربية) واقتصاد واحد (الرأسمالية) وسياسة واحدة (حكومة العالم التي تمثلها الأمم المتحدة) وأيديولوجية واحدة (الليبرالية الجديدة).
بالطبع، العالم الصناعي يرى في العولمة نظاماً عقلانياً، يساهم في القضاء على الفوارق العالمية التي تؤدي إلى الحروب. فهو يَدَّعي أن المجتمع العالمي في حالة فوضى، لهذا لا بد له أن يبني نظاماً يتوافق عليه كل العالم، حيث يكون نظاماً تعاقدياً تتوافق حوله كل الشعوب، حتى يستطيع السلام أن يبزغ ليقضي على ظلمات المشاكل التي تخنق الكرة الأرضية.
لكن، أحقاً يريدون أن يقضوا على مشاكل الكرة الأرضية؟ وهل العولمة هي التي ستكون العصا السحرية لتحقيق ذلك؟ وهل هي نظام توافقي بين الشعوب؟ أم أنها نظام مفروض من جهة على أخرى؟
الإجابة عن هذه الأسئلة ستكون تدريجية وغير مباشرة، فعن طريق تحليل الوضع العالمي تحت سيطرة العولمة ستلمع الأجوبة ببداهة وحدسية وتميز (حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي ديكارت) في عقولنا.
هل ستحل العولمة مشاكل الأرض؟
إن نظام العولمة يساهم في استمرار الإمبريالية، التي تفرض سيطرة العالم الصناعي على العالم التابع أو الثالث، بطرق سلسة لا نُحس بضغطها، ولن نُحس بها إلا مع مرور الوقت. فالعالم الصناعي الذي تقوده الولايات المتحدة، يرى في العالم الثالث التابع له، مصدراً للمواد الأولية وسوقاً مهمة لمنتجاته المختلفة (حتى الحرب تعتبر سوقًا)، فإن نظرنا إلى العالم التابع من هذا المنظور نستنتج أنه تحت ضغط المنافسة الغربية، فأية محاولة منه ليخرج من هذا الوضع، تؤدي به إلى عواقب وخيمة.
فالعالم الصناعي ليس غبياً ليترك العالم الثالث يتحول إلى عالم مصنِّع، يتمكن بذلك من خلق مشاريع صناعية خلاقة ومتقدمة. فهذا يعني – عند العالم الصناعي – أن العالم الثالث يريد الاستقلال بذاته، ومن المنظور السياسي، يعني هذا أن العالم التابع يتمرد على أسياده.
إن تحول العالم التابع إلى عالم مصنع، مستقل اقتصادياً، يعني تغيير قوانين اللعبة فيما يخص الاقتصاد العالمي. فبتحوله إلى قوة صناعية سيؤدي إلى ثلاث نتائج مهمة؛ الأولى هي القدرة على تحويل المواد الأولية صناعياً إلى مواد قابلة للاستهلاك (حسب نوع المادة)، وهذا يعني أن العالم التابع سيُقلص من تصدير مواده الأولية إلى العالم الصناعي إلى أقصى حد ممكن. وهذا سيُؤدي إلى صعوبة حصول هذا العالم (أقصد الصناعي) على المواد الأولية التي يحتاجها في صناعاته (خاصة أن أغلب هذه المواد وأهمها توجد بالعالم التابع).
أما النتيجة الثانية فهي تمكنه (أي العالم التابع) من صناعة سلع ستُنافس سلع العالم الصناعي في الأسواق حول العالم، وهذا يعني أن أرباح هذا العالم (الصناعي) ستتقلص إلى درجة قد تؤدي إلى خلق مشاكل اجتماعية داخل بلدانه (كالبطالة).
أما النتيجة الثالثة، فهي أن العالم الثالث سيتمكن من صناعة تكنولوجيا وسائل إنتاجه بأسلوبه المحلي، مما يعني أنه سيفك التبعية بالعالم الصناعي فيما يخص هذا. فالوسائل التقنية الخاصة بالإنتاج- كما هو معروف- تُستخدم لمدة مُعينة ثم تتعرض للتلف، فيضطر مستخدمها إما إلى استبدالها أو إصلاحها أو تركها وشراء أخرى، وكل هذه الأمور يعتمد فيها العالم التابع على العالم الصناعي، مما يضعه دائماً في موقف المضطر المحتاج، وهذا أمر يضعه دائماً في مرتبة التابع، أما إن تمكن من تحقيق اكتفائه في صناعة تقنياته بنفسه، فسيستطيع أن يفسخ العقد الضمني الملعون الذي يوجد بينه وبين العالم الصناعي (وصناعة تقنيات وسائل الإنتاج هي أهم حدث يمكن أن يقلب معادلة القوة).
ليس هذا فقط، فالعالم الثالث سيستطيع أن يؤدي ديونه، ويتحول إلى عالم مستقل ذاتياً من حيث منتجاته الصناعية، فيصبح قوة اقتصادية يستطيع أن يُدخلها في علاقاته مع العالم الصناعي كوسيلة ضغط، وهذا يعني أن دوره سيُصبح مهماً في الصراع حول المركزية العالمية (وهذا ما يحاول العالم الصناعي إبعاد تحقيقه).
ما هي الطرق التي يستعملها العالم الصناعي ليُفشل نهضة العالم الثالث؟
إن العالم الصناعي بعجرفته، وبما حققه عن طريق نظام الاستعمار سابقاً، وجد أن مكانته لا يستطيع أن يهددها أي موجود. لهذا يحاول ترك الوضع كما هو، من خلال إبعاد العالم التابع عن تحقيق نهضته، سواء عن طريق الضغوطات الاقتصادية (كتهديده بسحب استثماراته من داخله أو بفرض عقوبات اقتصادية عليه كما حدث مع السودان وكوريا الشمالية وكوبا) أو عن طريق الضغوطات السياسية (كتمويل انقلاب كما حدث في إيران على محمد مصدق، وفي تشيلي على الرئيس سلفادور أليندي أو كالانقلاب الفاشل على رئيس فنزويلا هوغو تشافيز، أو كالقيام بالغزو كما حدث مع أفغانستان والعراق وبنما) أو عن طريق ضغوطات "عوالق الاستعمار" التي تخترق مراكز القرار في العالم التابع. إضافة إلى إثارة مشاكل اجتماعية داخله (كالصراعات الطائفية) باستخدام وسائل الإعلام.
إذاً العالم الصناعي يستعمل كل الوسائل الممكنة ليُبقي العالم الثالث قابعاً تحت سيطرته، وأية محاولة من الأخير للخروج من هذا الوضع اللعين، يعني- بالنسبة للعالم الصناعي- إثارة مشاكل، ستكون عواقبها وخيمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.