في أربعينيات القرن الماضي، كان إغناسيو "ناتشو" أنايا يعمل في ملهى في مدينة حدودية في المكسيك، عندما وصلت مجموعة زوار من ولاية تكساس الأمريكية؛ بحثاً عن شيء ليأكلوه كان الطاهي غائباً، واضطر أن يحضر أي شيء للزبائن، لكن الطبق الذي قدمه أصبح من أشهر الأطباق وألذها حول العالم.
وبدلاً من رفض طلب مرتادي الملهى، دخل أنايا إلى المطبخ لتحضير وجبة سريعة باستخدام قليل من المكونات التي يستطيع العثور عليها. والنتيجة كانت طبقاً من رقائق التورتيلا تعلوها طبقة من الجبن المبشور مع شرائح فلفل الهلابينو.
احتاج الطبق إلى اسم، ليظل اسم "ناتشوز سبيشالز" ملتصقاً به، تكريماً لصانعه.
لا تبدأ قصة الناتشوز المكسيكي بموظف واسع الحيلة في أحد المطاعم، استطاع تجميع قليل من المكونات الأساسية، بل إن تاريخ الناتشوز يستطيع سرد ما هو أكثر بكثير مما تحمله قائمة المكونات البسيطة، ويعكس في مكوناته مزيج الثقافات وحتى التاريخ الأمريكي..
من الذرة إلى التورتيلا إلى الرقائق
جرى استساغة الذرة وانتشارها محلياً عن طريق الشعوب الأصلية التي كانت تعيش فيما يعرف الآن بوسط المكسيك تقريباً في عام 7000 قبل الميلاد.
صارت الذرة لاحقاً جزءاً أساسياً من الأنظمة الغذائية لحضارات الأزتك والمايا. لكن أول محاصيل الذرة لم تنتج حبوب الذرة الذهبية الجميلة التي تباع اليوم معلبة على أرفف الأسواق التجارية.
إذ إن الذرة في صورتها البدائية كانت عبارة عن كيزان صغيرة مغلفة بطبقات قوية صعّبت تناولها، بحسب ما نشرت مجلة Time.
ومن أجل تحويل الذرة إلى شيء مستساغ للأكل، طور سكان أمريكا الوسطى عملية تسمى انتزاع الحبوب (Nixtamalization) تقريباً في عام 1500 قبل الميلاد.
تتضمن هذه العملية تجفيف حبوب الذرة ثم نقعها في ماء دافئ مخلوط بمادة قلوية، مثل الرماد أو الجير المطفأ. إذ تحمل درجة الحموضة المرتفعة سمات كاوية، وتفتت جزئياً جدران الخلايا القوية للذرة، مما يجعلها أسهل في المضغ والهضم.
أضاف انتزاع حبوب الذرة ميزة إضافية أخرى تجعلها مغذية بدرجة أكبر. من المعروف أن الذرة غنية بالنياسين، أو فيتامين بي3، لكنه يكون مرتبطاً بمواد كيميائية أخرى في الهيئة الخام من الحبوب.
عندما يمر النياسين المرتبط بالمواد الكيميائية عبر الجهاز الهضمي، لا تستطيع الأمعاء الدقيقة امتصاصه، ولذا يمر عبر الجسم بدون أي فائدة غذائية. وكثير من الأشخاص الذين يعتمدون على الذرة الخام بوصفها مصدراً غذائياً أساسياً يعانون من نقص النياسين، الذي يتسبب في سوء التغذية وأمراض أخرى مثل البلاغرا، التي تتميز بأعراض على شاكلة التهاب الجلد والإسهال والأوهام.
تحرر عملية انتزاع الحبوب (Nixtamalization) النياسين من المواد الكيميائية المرتبطة به. وفي أعقاب تطوير عملية انتزاع الحبوب، انخفضت حالات نقص النياسين، فبدأ ظهور أولى الحضارات الرئيسية في المنطقة.
وتأتي عملية انتزاع الذرة بميزة إضافية، إذ تصنع "الماسا" من الذرة، وهي في الأساس عجين الذرة. والماسا هي المكون الأساسي للتاكو والتامال والبوبوسا، إضافة إلى كثير من الأطباق الرائعة.
وفي العصر الحديث، تتضمن هذه التشكيلة الأطباق المفضلة في المطبخ المكسيكي الأمريكي، مثل الناتشوز.
كان الناس في المكسيك يفردون كرات عجين الماسا ويطهونها لتحضير رقائق التورتيلا على مدى سنوات. وكان الطهاة يحضرون كتلاً إضافية من التورتيلا لتحضير طبق الشيلاكويليس.
تُغطى قطع التورتيلا المطهية بالصلصة وتُقدم مع طبقات شهية من جبن كوتيخا واللحم. ولعلها النظائر الأقرب إلى الناتشوز، التي يمكن العثور عليها في المكسيك.
عندما تُقلى التورتيلا المحضرة بحبوب الذرة الكاملة في السمن، فإنها تسمى "توستادا"، وهي كلمة إسبانية تشبه كلمة "توست" الإنجليزية، وتعني محمصاً.
تُغطى التوستادا دائماً بمكونات لذيذة، سواء من المأكولات البحرية أو الفاصوليا، لكنها في جوهرها رقائق تورتيلا ضخمة. وأما عن تاريخ التورتيلا المقلية، فلعله يعود إلى أزمنة بعيدة للغاية.
بحسب أطروحة دكتوراه لفانيسا فونسيكا نشرها موقع مجلة Mental Floss، ثمة رواية تعود إلى القرن السادس عشر تشير إلى تورتيلا بيدازوس فريتوس دي، أو شرائط التورتيلا المقلية، لكن هذه الأنواع ربما كانت محمصة عن طريق التجفيف وليس عن طريق القلي.
البداية مع التورتيلا
وفي كل الأحوال، فإن النسخة المعاصرة الصغيرة من التورتيلا المقلية لم تبدأ في الظهور حقاً بوصفها تصنيفاً مميزاً من تصنيفات الطعام، قبل العقد الأول من القرن العشرين.
كان تحضير التورتيلا يصير تجارياً مع بداية القرن الجديد، وكان مالكو المصانع يبحثون عن طرق لإعادة توظيف رقائق التورتيلا الزائدة التي كانت تُلقى في القمامة. فكانت هذه القطع تُقلى وتقطع إلى رقائق، وتوزع على مطاعم المنطقة.
لذا كيف تحولت هذه الرقائق من مصانع التورتيلا بعد هذه الفكرة لتصبح لاحقاً وجبة خفيفة شائعة؟
يعزى الفضل في هذا دائماً إلى ريبيكا ويب كارانزا. في أواخر أربعينيات القرن الماضي، كانت ريبيكا ترأس مصنع إل زرابي للتورتيلا في لوس أنجلس. وكانت تُحول قطع التورتيلا إلى رقائق وتقليها، وبعد تقديمها في حفل عائلي، وجدت أن الناس أحبوها جداً.
في البداية، بيعت "رقائق التورت" أو Tort Chips، حسبما كانت تسميها، مغلفة داخل حقيبة مقابل 10 سنتات من منافذ البيع الخاصة بالمصنع. وبحلول ستينيات القرن الماضي، حلت هذه الرقائق محل التورتيلا التقليدية، لتصير المنتج الرئيسي للمصنع.
لم تكن ريبيكا أول شخص يصنع رقائق التورتيلا ويبيعها إلى الجمهور، بل كان هناك بقال في كاليفورنيا يسوّق رقائق التورتيلا المكسيكية في عبوات بلاستيكية، وفي العقد الثاني من القرن الماضي، كانت إحدى الشركات المملوكة لبارتولو مارتينيز تبيع رقائق التورتيلا في تكساس.
مع أن ريبيكا لم تكن مخترعة رقائق التورتيلا، فقد قادت انطلاقة تصنيعها على نطاق ضخم.
تبنت شركة Frito-Lay رؤيتها وذهبت بها إلى نقطة أبعد. ففي عام 1966، قدمت الشركة إلى الأسواق المحلية منتج دوريتوس، وهي في الأساس كلمة إسبانية تعني أشياء ذهبية صغيرة.
جاء هذا المنتج في الأساس بطعم الذرة المحمصة فقط. استغرق الأمر 6 سنوات أخرى ليأتي دوريتوس بطعم جبن الناتشو، وهو الطعم الأشهر على الإطلاق لهذه العلامة التجارية.
مرحى بالجبن!
بغض النظر عن الطبقات التي تعلو الناتشوز المكسيكي، تأكد أنك ستجد دائماً جبناً في صورة ما. لكن الصورة التي يأتي بها هذا الجبن يمكن أن تتنوع بطرق عدة.
كان الناتشوز الأصلي الذي حضره إغناسيو غارسيا في ملهى كلوب فيكتوريا مغطىً بنوع من الجبن الأمريكي، ثم أصبح الخيار الأكثر شيوعاً هو جبن مونتري جاك.
تعود أصول هذا النوع من الجبن إلى أديرة الفرنسيسكان في مدينة مونتيري بولاية كاليفورنيا، خلال العقد الأول من القرن الثامن عشر. صار هذا النوع من جبن حليب الأبقار شبه المتماسك منذ ذلك الحين جزءاً أساسياً في المطبخ المكسيكي الأمريكي.
إذ يذوب بسهولة، ويقدم قواماً يسيل له اللعاب، وهو شيء مهم بالنسبة للناتشوز، وهي كذلك أخف من الأجبان الأخرى.
ولكن عندما تسمع كلمة "جبن الناتشو"، فلعلك لن تفكر في جبن مونتري جاك، بل يتبادر إلى ذهنك ذلك الشيء الأصفر شبه السائل؛ لكن هذه النسخة من جبن الناتشو لم تظهر إلا بعد 30 عاماً من توقيت ابتكار إغناسيو غارسيا.
كان محبو الناتشوز المكسيكي بحاجة إلى نوع من الجبن يمكن تحضيره بسرعة، لذا ابتكر جبن الناتشو: وهو منتج جاهز يُبقي على القوام المغري للناتشوز وكان جاهزاً ومعداً لإغراق رقائق التورتيلا في نفس اللحظة التي يطلبه فيها مثلاً جماهير المباريات الرياضية.
لاقى الناتشوز الجاهز استحساناً كبيراً عندما ظهر لأول مرة في إحدى مباريات تكساس رينجرز عام 1976، لكن انطلاقته الحقيقية كانت في عام 1978. وحينها، أشار المعلق الرياضي على مباراة تُقام في تكساس إلى الناتشوز في لحظات عديدة خلال هذه الليلة، بل استخدم الكلمة لوصف أي لعبة أعجبته.
ومع انتهاء الربع الرابع من المباراة، رسّخ الناتشوز أقدامه في الثقافة الأمريكية.
طبقات الناتشوز المكسيكي حالياً
يفضل محبو الصورة الأصلية من الناتشوز المكسيكي الأصل أن تقدم الرقائق مع الجبن مع بعض شرائح فلفل الهلابينو، مثلما قُدم لأول مرة عام 1943، لكن الطبق تطور بعيداً عن طريقته الأصلية التي قدمها بها غارسيا.
وفي يومنا الحالي، من الشائع أن نجد طبقة من الفاصوليا أعلى الناتشوز، أو حتى طبقة صلصة غواكامولي، أو اللحم المفروم، أو الصلصة، أو القشدة الحامضة.
يبدو أن رقائق الناتشوز المكسيكي الأصل تجسد بطريقة ما تاريخ أمريكا. فهي نتاج مكونات محلية وتبادلٌ عابرٌ للثقافات. وهذه الرقائق تدمج النجاح العلمي مع النجاح التجاري لتحضير شيء ينتشر الآن في جميع أنحاء العالم.