لعبت التدخلات الخارجية في الربيع العربي دوراً أكبر مما يبدو في إفساد محاولة الشعوب العربية لنيل الحرية والديمقراطية.
إذ التدخلات الخارجية في الربيع العربي، سواء كان من قبل قوى إقليمية أو دولية، لعبت دوراً مهماً مع قوى محلية لتحديد مصير موجة الانتفاضات الشعبية العارمة التي اجتاحت المنطقة المشار إليها باسم "الربيع العربي".
أبرز التدخلات الخارجية في الربيع العربي
الولايات المتحدة.. الأسطول الخامس أهم من الحرية
اضطلعت الولايات المتحدة، بقيادة إدارة باراك أوباما، بدور بارز في توجيه بوصلة الربيع العربي. تُرجمت الاحتجاجات في مصر إلى المطالبة بتغيير النظام بمجرد انقلاب أوباما على حليفه الرئيس محمد حسني مبارك ومطالبته بمغادرة السلطة.
وبالمثل، أدى قرار أوباما بدعم الخطط البريطانية والفرنسية لتدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) عسكرياً في ليبيا، بذريعة منع معمَّر القذافي من سحق المحتجين إلى سقوط الديكتاتور الليبي وموته في نهاية المطاف، لكن على الرغم من كل هذه التحرّكات الأمريكية التي تبدو إيجابية، أسهمت الولايات المتحدة بنفس القدر في إفشال انتفاضات الربيع العربي، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
تُمثل المواقف الأمريكية نموذجاً لتناقضات العرب والتدخلات الخارجية في الربيع العربي.
التزمت واشنطن الصمت، في 14 مارس/آذار 2011، عندما سحقت الحكومة البحرينية الحركة الاحتجاجية الناشئة في البلاد بمساعدة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. في ضوء أنَّ البحرين هي مقر الأسطول الخامس الأمريكي، وحرص إدارة أوباما على الاحتفاظ بدعم الرياض وأبوظبي للحملة في ليبيا، أظهر البيت الأبيض أنَّ الأولويات الجيوسياسية في بعض الأحيان تتفوق على دعم المحتجين المطالبين بالديمقراطية.
وبالمثل، عندما أُطيح بجماعة الإخوان المسلمين بمصر في عام 2013 بدعم من السعودية والإمارات، لم تفعل الولايات المتحدة شيئاً للدفاع عن الحكومة المنتخبة ديمقراطياً، وأيّدت في نهاية المطاف النظام الجديد الذي أرساه عبدالفتاح السيسي.
خيانة الثورة السورية
جادل البعض بأنَّ الخيار الأمريكي، سواء بالتحرّك أو التقاعس، أدّى أيضاً إلى تداعي مصير الانتفاضات في سوريا وليبيا.
طالب أوباما الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي عندما شن حملة هجوم وحشية ضد المتظاهرين، وأرسلت الإدارة الأمريكية أسلحة وأموالاً إلى الجماعات المسلحة المناهضة له.
أسهمت الولايات المتحدة في تأجيج الحرب في سوريا، من خلال دعمها للفصائل المسلحة بالقدر الكافي لمواصلة للقتال، لكن ليس لتحقيق الانتصار. وبعد تدخّلها للإطاحة بالقذافي في ليبيا، أحجمت الولايات المتحدة عن تقديم الدعم المؤسسي الكافي للحكومة الديمقراطية الجديدة، الأمر الذي أسهم في انزلاق البلاد إلى صراعات أهلية مريرة.
وروسيا قلبت المعادلة
لم تكن الولايات المتحدة القوة الدولية الوحيدة المؤذية.
إذ كان أبرز التدخلات الخارجية في الربيع العربي هو التدخل الروسي.
استخدمت روسيا والصين مراراً حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لإحباط محاولات عديدة لمعاقبة بشار الأسد على قمعه للاحتجاجات في سوريا.
كانت موسكو مُصمّمة على منع انهيار نظام بشار الأسد في دمشق، وقدّمت في سبيل ذلك الأسلحة والمال لدعم قوات الأسد المستنزفة، قبل أن تتدخل مباشرةً في عام 2015 بقواتها الجوية وقواتها الخاصة لقلب دفة الحرب لصالح النظام السوري.
منذ ذلك الحين، اتسعت طموحات الرئيس فلاديمير بوتين في الشرق الأوسط، لكن دعمه كان موجهاً بشكل أساسي للمستبدين، مثل القائد الليبي خليفة حفتر، الذي يسعى للإطاحة بالحكومة الليبية الضعيفة المدعومة من الأمم المتحدة.
المُخرّبون الإقليميون
كانت أكثر التدخلات الخارجية في الربيع العربي تكراراً تأتي من قبل اللاعبين الإقليميين، التي كانت أيضاً بعيدة كل البعد عن الإيجابية والنوايا المخلصة.
تولّت إيران مسؤولية إبقاء الأسد في السلطة قبل فترة طويلة من تدخل بوتين في سوريا. سعت طهران إلى تقويض الاحتجاجات السورية فور اندلاعها من خلال إمداد النظام السوري بأموال وأسلحة ومقاتلين وقادة من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وميليشيات شيعية من العراق وأفغانستان وباكستان لتعزيز جيش الأسد المتداعي.
دعمت طهران أيضاً الحوثيين في اليمن، وأدّت التوترات الأمريكية-الإيرانية في العراق إلى تقويض حركة الاحتجاج السلمي.
سعت المملكة العربية السعودية على نطاق واسع إلى خنق الانتفاضات العربية، على الرغم من دورها في التوسط لإنهاء حكم الديكتاتور اليمني علي عبدالله صالح في عام 2012، ودعم فصائل المعارضة المناهضة للأسد في سوريا.
اتخذت الرياض العديد من الإجراءات الاستباقية خشية وصول احتجاجات عام 2011 إلى أراضيها. أنفق الملك عبدالله بن عبدالعزيز ببذخ على تدابير الرعاية الاجتماعية محلياً، بالإضافة إلى تقديم دعم مالي بلغ 21 مليار دولار إلى دول الجوار البحرين وعمان والأردن، لمساعدة حكّامها المحاصرين في شراء ذمم المعارضين.
وبالمثل، قدّمت السعودية الدعم المالي لعملية الإطاحة بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي عام 2013، جنباً إلى جنب مع دولة الإمارات، الأمر الذي أسهم في انهيار التجربة الديمقراطية الوليدة هناك.
علاوة على ذلك، أظهر قرار المملكة بإرسال قواتها العسكرية إلى البحرين في 2011، وإلى اليمن في 2015 استعداد الرياض لتجاوز دبلوماسية "دفتر الشيكات" التقليدية، لكي تضمن تحويل مسار الانتفاضات العربية لصالحها.
على هذا النحو، تكون الرياض قد أسهمت بدور رئيسي في عودة الاستبداد إلى البحرين ومصر، بالإضافة إلى إشعال حرب فتّاكة لا تزال مستمرة في اليمن.
الإمارات وإيران معاً خلف الأسد
المفارقة أن المملكة العربية السعودية وإيران تتنافسان في الشرق الأوسط، إلا أن القوتين تجمعهما مصلحة واحدة، تتمثل في منع "ربيع عربي" جديد في المنطقة، كما يرى الكاتب راينر زولش.
اتفق المحوران السعودي والإيراني على العداء للربيع العربي خوفاً من الديمقراطية، وصعود الإسلام السياسي السني ونفوذ قطر وتركيا.
ظهر أثر ذلك في الموقف الإماراتي من سوريا، بشكل أوضح من السعودية، كان الموقف الإماراتي الأغرب بين التدخلات الخارجية في الربيع العربي.
فالإمارات هي جزء من دول الخليج السنية، التي تعادي تقليدياً نظام الأسد ذا النخبة العلوية، الذي يرفع شعارات العروبة والمقاومة، كما أنه يفترض أن أبوظبي تحديداً يجب أن تكون لديها علاقة أكثر حساسية مع الأسد، باعتباره تابعاً أو حليفاً لإيران التي تحتل جزر الإمارات الثلاث.
ولكن الواقع أن الإمارات كان يجمعها مع الأسد أكثر مما يفرقها.
كان العداء للديمقراطية والربيع العربي وتيار الإسلام المعتدل يجمع النظامين أكبر.
وبدا الموقف الإماراتي من الأزمة السورية منذ بدايتها مثيراً للريبة، ونموذجاً فجاً يكشف تناقضات التدخلات الخارجية في الربيع العربي.
فبعد انضمام الإمارات الفاتر إلى مناهضي النظام السوري، بدأت تضخ أموالها لدعم المعارضة، وسايرت بذلك أيضاً الرغبة السعودية في الانتقام من الإهانة الشخصية التي وجهها بشار الأسد لمسؤولين عرب، بعد حرب يوليو/تموز 2006، عندما وصفهم بـ "أنصاف الرجال"، واعتبرت إهانة للدول التي انتقدت سوريا وحزب الله، وكانت السعودية ومصر والإمارات أبرزها.
وقدّمت الإمارات دعماً دائماً للشخصيات والمجموعات التي تعارض سياسات الإخوان المسلمين، أو لا تدعمها، ضمن الهيئات المُعارِضة سياسياً والمسلّحة في سوريا.
ولعب رجالها في سوريا دوراً في سقوط الجنوب السوري، وتحديداً منطقة درعا، مهد الثورة السورية في يد النظام.
كانت معظم فصائل الجنوب السوري ممولة إماراتياً وسعودياً بشكل شبه كامل، وتخضع لإشراف مخابراتي أردني مباشر، وتتولى مهمة تحريك الفصائل وضبط إيقاع عملياتها وبما يتناسب مع الدور المطلوب منها.
وبالفعل توقفت عن خوض أي معارك ضد نظام الأسد بشكل كامل بعد اجتماع موسكو الرباعي، الذي ضم كلاً من (روسيا ومصر والأردن والإمارات) وعقد في شهر أغسطس/آب عام 2015، لتلتحق السعودية بالمحور الجديد بعد زيارة ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو.
كيف أسهمت الإمارات في انهيار الثورة السورية في مهدها؟
لعب الإماراتيون دوراً خفياً في اقتحام الروس والأسد لدرعا معقل الثورة السورية.
إذ شهدت المنطقة انهياراً كاملاً وسريعاً لفصائل مهد الثورة، خاصة القسم الشرقي من المحافظة.
وقاد رجل الإمارات في سوريا أحمد العودة عملية الانهيار وتسليم درعا لروسيا وميليشيا الأسد دون قتال.
فشرقُ حوران يخضع بالكامل لسيطرته، فهو قائد ما يسمى "قوات شباب السنة"، التي نشأت كـ"سرية" بدعم إماراتي، وتم تقديمها كفصيل وكأحد مكونات الجيش الحر، ولكن بصبغة إسلامية معتدلة.
بعد سلسلة اجتماعات قيل إنها مفاوضات فاشلة بين الروس وممثلين عن كبريات فصائل المعارضة في درعا، أعلن "العودة" عن توصله لاتفاق مع الروس لتسليم ما يسيطر عليه من أرض، حيث قضى الاتفاق بتسليم منطقة شرق حوران إضافة للسلاح الثقيل والمتوسط، مقابل تعهد الجانب الروسي بعدم دخول ميليشيا الأسد للمناطق التي اتفق على تسليمها، لكن عملياً كانت ميليشيات الأسد أضعف من أن تفرض سيطرتها على هذه المناطق فضلاً عن تأمينها، حسب تقرير لموقع "الجزيرة".
فلقد كانت الرسائل الواردة من درعا ونتيجة لتصدي بعض الفصائل لميليشيات الأسد، تفيد بأنه عاجز عن إحراز أي تقدم، وأن قتلاه وجرحاه بالعشرات، لكن ومع ذلك نجحت قواته في الوصول إلى معبر نصيب بعد تفريغ المنطقة من الفصائل العاملة فيها وفتح الطريق الحربي المحاذي للحدود مع الأردن، والواصل بين السويداء ومعبر نصيب، ليعلن الأسد سيطرته على المعبر الحدودي، وليعلن الأردن عن ترحيبه وسروره بالحدث الهام.
إضافة إلى المساعدة في استيلاء الأسد على الجنوب السوري لعبت الإمارات دوراً في مساعدته على التخلص من قيادات معارضة عديدة.
فقد نسقت الإمارات مع دمشق لمساعدة جيش الأسد لقتل بعض قادة الجماعات المناهضة للنظام في الفترة بين عاميّ 2012 و2014 وفقاً لتقارير إعلامية تركية.
ومن هؤلاء زهران علوش وحسان عبود وأبو خالد السوري، وعبدالقادر صالح. وفضلاً عن ذلك طوال الحرب الأهلية السورية، لم يكن سراً أن الإماراتيين تركوا أبوابهم مفتوحة لرجال الأعمال السوريين الأثرياء المرتبطين بالنظام وأفراد عائلة الأسد.
وبحلول عام 2018، كانت الإمارات تسعى إلى تقارب علني مع النظام السوري بعدما كان يفترض أنها تدعم المعارضة، وأعادت فتح سفارتها في دمشق، في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام.
وانتهى الأمر بأبوظبي من حليف مفترض للمعارضة السورية، إلى المحرض الأول للنظام للقضاء على آخر معاقلها في إدلب، إضافة إلى تخليها عن السعودية في حرب اليمن وعلاقتها المتنامية مع طهران، لتبدو الإمارات وكأنها تساعد طهران على بناء إمبراطوريتها في المنطقة، أو أنها عضو خفي بالمحور الإيراني في المنطقة.
تدخل ملتبس
حاولت قوتان إقليميتان أخريان -قطر وتركيا- دعم انتفاضات الربيع العربي، ووقف في الجانب الآخر من ضفة التدخلات الخارجية في الربيع العربي.
كانت قطر من أوائل الداعمين لتلك الانتفاضات العربية، إذ لعبت قناة "الجزيرة" القطرية دوراً رئيسياً في تغطية الاحتجاجات وتوفير منصة لإلهام الناشطين المؤيدين للديمقراطية في جميع أنحاء العالم العربي.
كما ناشدت الدوحة حلف الناتو التدخل في ليبيا من أجل إنقاذ المتظاهرين من القذافي، ودعمت المعارضين المسلحين في سوريا وقدّمت هبات سخية للأنظمة المنتخبة حديثاً في طرابلس والقاهرة.
عندما اندلعت شرارة الربيع العربي في تونس، كانت تركيا أبطأ في تأييد المحتجين مقارنةً بحليفتها قطر. ورغم ذلك أصبحت أنقرة في نهاية المطاف داعماً بارزاً لحكومة جماعة الإخوان المسلمين في مصر والحكومة الليبية الجديدة في طرابلس والعديد من الجماعات المناهضة للنظام في سوريا.
ومع ذلك، لم ينجح هذا الدعم القطري والتركي في منع عودة الديكتاتورية في مصر وتفكّك المعارضة السورية.
بينما تواصل تركيا الدفاع عن بعض المناطق في سوريا من هجمات بشار الأسد، يمكن القول إنَّها لم تستطع منع تحقيق النظام السوري لانتصارات شاملة في الحرب خاصة بعد تدخل قوى عظمى كروسيا بثقلها، وبدا أنها اضطرت لعقد تفاهمات مع روسيا وإيران لتقليل الخسائر، الأمر الذي سمح لدمشق باستعادة العديد من المناطق الرئيسية التي كانت تسيطر عليها المعارضة.
ولكن بقيت إدلب معقل للثورة السورية، وتدخلت أنقرة بقوة لحماية هذا الجيب الأخير للثوار في مطلع 2020، كما تدخلت لمساعدة حكومة الوفاق المعترف بها دولياً في ليبيا أمام هجوم الجنرال خليفة حفتر على طرابلس، في انتصارات نادرة ومتأخرة لبقايا الربيع العربي.