جاثية على الأرض، صامتة، خائفة.. تبكي بلا دموع، تصرخ بلا صوت، تعلم ألّا أحد سيسمعها في كل الأحوال، كانت آية علي، الممرضة بمستشفى الحسينية في محافظة الشرقية تحاول أن تنقذ ما لن يمكن إنقاذه، ألقوا بها في الحرب بلا عتاد، الموت في كل مكان يتخطف المرضى من حولها، الجميع يصرخون، لكنها لا تسمع أحداً، هم أنفسهم ماتوا من هول الصدمة، حتى وإن ظلوا أحياء، مات أربعة من المرضى بكل بساطة، لم يموتوا من الفيروس اللعين، وإن كان يحاول أن يقوم بتلك المهمة بالتأكيد، لكن نقص الرعاية الصحية، والإهمال الحكومي، تكفلا بالأمر، ووقف فيروس كورونا يشاهد بحسرة وقته الذي ضاع في مصر، بينما المصريون يموتون بكل بساطة.
كل الطرق تؤدي إلى مشرحة زينهم
"كل اللي في الرعاية مات"، بتلك الكلمات القليلة حاول أحد شهود العيان وصف ما حدث لعل أحدهم في قصره يهتم، والحقيقة لا أحد سيهتم، انقطع إمداد الأكسجين عن غرف الرعاية المكتظة بمصابي فيروس كورونا، ماتوا جميعاً، كانت لحظة فاصلة بين الموت والحياة، ولكن لا حياة لمن تنادي، يموت المصريون الآن بلا أسباب واضحة، تعطيك مصر كل فرص الموت، وتمنع عنك أي طريقة للنجاة، صدقني ستموت في مصر بسرعة وإن اختلفت الطريقة، شبكة الطرق التي ستمسك مصر هكذا، أو كما قال عبدالفتاح السيسي ستتكفل بالأمر، ربما في مدرجات كرة القدم بأحد ملاعب المحروسة، لكنها خالية من الجمهور وقبل كورونا بسنوات، حوادث القطارات، قلة الدواء والرعاية، إعدام، أو قتل خطأ في أحد الشوارع، ربما بالوعة صرف صحي تبتلعك في ثوان، أسباب أكثر من أن تحصى، لكن المؤكد أن في مصر كل الطرق تؤدي إلى مشرحة زينهم.
"كله تمام يا فندم".. الخيار الأمني هو الحل
حاولت الحكومة المصرية أن تتعامل مع الأزمة، لكنها دائماً تسيء الاختيار، فبدأت بنفي الواقعة كاملة، ثم تحدثت عن خطأ سيتم محاسبة مرتكبه، ولم تكتفِ بذلك، فاعتقلت الشاب الذي قام بتصوير الواقعة، وأعطت توجيهاتها للإعلام المصري بتناول أزمات ومواقف مشابهة، حتى وإن كانت في جنوب إفريقيا، أو في بلاد لا يعرفها سوى قاطنيها، عمرو أديب وأصدقاؤه نفذوا المهمة بنجاح، لكن الفشل الحقيقي هو أن هذا التعامل هو السائد من قِبل الحكومة والنظام بشكل عام؛ نفيٌ في البداية، حدث ذلك أيضاً مع انتشار فيروس كورونا بمصر، ثم الحديث عن مشكلة بسيطة سيتم حلها، وقبل وبعد وأثناء ذلك، الخيار الأمني هو الحل، اعتقلت مجموعة من الأطباء بتهم نشر أخبار كاذبة تمس أمن البلاد وتنشر الفزع بين أبنائه، ألقي بأفراد الجيش الأبيض -كما زعموا- في السجون، وراح الإعلام يقارن أرقام مصر غير الحقيقية من الأساس، مع أرقام دول العالم التي تحترم نفسها، قبل أن تحترم الإنسان، وبين أزمة نقص الأكسجين في الحسينية، وانتشار فيروس كورونا بشكل مخيف في ربوع مصر، تعيش الحكومة حالة من الفشل الكبير في إدارة الأزمة، ويعيش كل من قال الحقيقة في السجون، ويموت المصريون.
لماذا يهتم النظام بمصر "اللي في التلفزيون"؟
بناء المستشفيات، تقدير الأطقم الطبية، توفير الدواء للمرضى، مصارحة الشعب بحقيقة الأزمة التي تعيشها مصر مع فيروس كورونا.. ملفات لا تُطرح على طاولة الحكومة المصرية، فقط تهتم بصناعة صورة جميلة غير حقيقية، عن مصر التي يراها المصريون على شاشات التلفاز، صورة يعيشها المصريون في أحلامهم، بينما يموتون على أبواب المستشفيات، كل يوم منذ الموجة الأولى للفيروس، وحتى تصبح مصر دولة تحترم الإنسان، كباري تُبنى في كل مكان وبلا تخطيط، العاصمة الإدارية الجديدة، مسجد الفتاح العليم، أكبر مائدة إفطار، وأكبر سارية علم، وأكبر وأكبر وأكبر.. ومصر تحتاج مستشفى مؤهلاً في كل قرية، يغطي احتياجات أهلها من العلاج، مدرسة ولو صغيرة في كل نجع بالصعيد تعلم أطفالها القراءة والكتابة، وحب الوطن، مخبز عيش في كل منطقة بضواحي الجيزة، يؤمّن الخبز لسكانها، خرج المصريون منذ 10 أعوام يهتفون: "عيش، حرية، كرامة إنسانية"، على الأقل أين العيش للفقراء ومعدومي الدخل، قبل أن نبحث عن الحرية والكرامة.
"كل اللي معاك في الثورة غاب"
عاشت مصر بعد ثورة يناير/كانون الثاني فترة قصيرة بحرية وكرامة، وإن كانت منقوصة، لكنها كانت راضية، ومنذ الثالث من يوليو/تموز عام 2013، غابت الكثير من الاحتياجات الهامة للمصريين، على سبيل المثال لا الحصر غابت الحرية والكرامة والعدل، غابت الانتخابات الحرة النزيهة، وغاب تداول السلطة، وغابت منظمات المجتمع المدني، وحرية الرأي والتعبير، وأغلقت الميادين أمام الغاضبين، وغاب المصريون أنفسهم في السجون، وغاب كل متنفس حرية في مصر، وضاقت البلاد بأهلها، والجميع يعيشون حالةً من الرعب والقهر.. فكيف لنا أن نسأل عن غياب الأكسجين، بينما الشعب يصرخ: "افتح بنموت".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.