في صباح شتوي يلفه الضباب المُتجمد غادرت أليسا روبين مدينة دهوك صحبة رفيقين، هما كامل كاكول، وهو صحفي عراقي يتحدث بعدد من اللغات، وخلف شمدين، وهو سائق أيزيدي لم يكن يتحدث الإنكليزية لكن كان بإمكانه ترجمة اللهجة الأيزيدية إلى اللغة الكردية، وكان من سنجار ويعرف الطرق والممرات المُختصرة.
ما بين دهوك، في كردستان العراق وسنجار على الحدود السورية، حوالي 209 كيلومترات، ويمكن قطع المسافة في رحلة تستغرق ثلاث ساعات في الظروف العادية.
غير أن المنطقة الآن ورغم انتهاء الحرب ضد تنظيم داعش، إلا أنها تعرف تواجداً عسكرياً كثيفاً في مناطق ذات طابعٍ عشائري، وأثناء قيادة السيارة من الشرق إلى الغرب، تتغير المجموعات التي تراقب الطرق من قوات البيشمركة الكردية إلى الجيش العراقي إلى مجموعةٍ متنوعة من المليشيات المُرتبطة بالشيعة، وأخيراً إلى ميليشيات يُديرها الأكراد السوريون والأكراد الأتراك، ولكلٍ منهم أعلامهم، وتحالفاتهم، وأسباب وجودهم.
أليسا روبين المديرة السابقة لمكتب نيويورك تايمز في العراق، قامت بالرحلة بين المدينتين وقبل أن تغادر، سألت عن الطريق إلى هناك. وكانت الإجابات مُنذرةً بالسوء. إذ قال لها أحدهم: "من المستحيل الوصول إلى هناك". وأيَّد آخر هذا القول بأنها لن تتمكن من الوصول إلى هناك أبداً، وأكد الأخير: "هناك 40 نقطة تفتيش".
من البيشمركة إلى الجيش العراقي
كانت نقاط التفتيش الأولى تخضع لإدارة البيشمركة، القوة الكردية القتالية، كان الأمر بسيطاً معه، لوَّحوا لهم كي تمُرّ. وأُرسِلت أسماؤهم إلى كل نقطة تفتيش خاضعة للسيطرة الكردية، تماماً كما وعد المسؤولون الأكراد قبل الرحلة.
بعد آخر نقطة تفتيش كردية، تغيَّر كل شيء، إذ تحول مسارهم إلى طريقٍ ثانوي كان يلتف عبر الصحراء في سهول نينوى، إلى أن وصلوا عند نقطة تفتيش كبيرة للجيش العراقي بها سيارات وشاحنات متوقفة بصورة عشوائية على كلا الجانبين.
جندي سأل أليسا ما إذا كانت أجنبية، وحينما أجابته بالتأكيد لم يسمح لهم بالمرور.
تم اقتيادهم إلى مبنى أسمنتي مُتهدم مُحاط بشاحنات كبيرة وسيارات نقل صغيرة، والكثير من العابرين المنتظرين لإذن المرور.
في غرفة ذات جدران مُغطاة، انتشرت أرائك مُبللة ومُتسخة على الجانبين، وكان هناك مكتب كبير مُحطم بمحاذاة الجدار الثالث. وأمام الجدار الرابع كان يوجد سرير عسكري. والضوء الوحيد الذي يدخل المكان قادم عبر النوافذ التي كانت قذرة لدرجة أنَّه كان من الصعب رؤية الخارج من خلالها، وقربها كان هناك جندي يُدخن أرجيلة من دون اهتمام بما يجري حوله.
بعد مدة جاء رجل يرتدي سروالاً من الجينز وسترة جلدية ويسير بخطى منزعجة، اتضح أنه المسؤول، اتجه نحو أليسا ورفيقيها وصاح في وجوههم بنرفزة "الأوراق".
حين مدوا له بطاقاتهم الصحفية، أظهر بعض اللطف وقال إنَّه سيتصل برئيسه، وإذا حصلوا على إذن، يمكنهم العبور.
في انتظار الإذن الموعود اتصلت أليسا بمكتب الصحيفة في بغداد، فقد كانت لديهم موافقة من الحكومة، طلبوا من مدير مكتبهم أن يحاول التواصل مع شخصٍ لديه سلطة ليتصل بنقطة التفتيش من أجلهم.
انتظروا ثم انتظروا وقتاً أكثر.. جاء مسافرون آخرون وذهبوا. وأوصاهم مكتبهم في بغداد بالاتصال بقادة الجيش المحليين. عملوا بنصيحته وأرسلوا رسائل نصية، ثُمَّ توسلوا إلى رئيس نقطة التفتيش. لكنَّ شيئاً لم يحدث.
كانت قد مرَّت ساعة وخمس دقائق منذ وجودهم هناك، سألت أليسا رفيقها كامل بحيرة: "ماذا يمكننا أن نفعل؟".
فقال: "أنتِ تعرفين جبوري، أليس كذلك؟" فأجابته بالنفي.
كان كامل يشير إلى اللواء نجم عبد الله الجبوري، قائد الجيش العراقي المسؤول عن الموصل والأراضي المحيطة به، والذي كان يُعرَف عنه أنَّه عقلاني.
أجروا المزيد من المكالمات إلى بغداد. وأُرسِل لهم رقم جبوري. وبينما كانت أليسا تكتب له رسالة نصية، اتصل جندي نقطة التفتيش برقمٍ على هاتفه، وهو يُهمهم باللغة العربية.
وكان كامل يُراقب، ليعلق بصوت خافت: "أجرى الرجل مُكالمة هاتفية الآن وقال: 'إنَّهم الآن يتصلون بجبوري، سأتركهم يذهبون'".
وبعد مرور ساعة و15 دقيقة على وصولهم أصبحوا أحراراً أخيراً فهرعوا لسيارتنا قبل أن يُغير أيٌ منهم رأيه.
على سد الموصل
تُمثِّل نقاط التفتيش، التي غالباً ما تخضع لقواعد غير مفهومة وأهواء المسلحين، أمراً معتاداً في العراق. لذا لم يكن من المستغرب مصادفتهم في رحلتنا كما تكتب أليسا، لكن باستثناء ربما الأسابيع التي تلت استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الموصل في عام 2014، لم تسافر قط عبر منطقة ريفية في العراق بها نقاط تفتيش بهذه الكثافة والولاءات المتغيرة بقدر ما هو الحال مع شبكة نقاط التفتيش المحيطة بسنجار.
كانت نقطتا التفتيش التاليتان اللتان مروا بهما تخضعان لإدارة الجيش العراقي. وبعد فحص بطاقاتهم الصحفية، سمحوا لنا بالمرور هذه المرة.
اقتربوا من سد الموصل، وكانت مياه نهر دجلة تجري بين تلالٍ منخفضة على كلا الجانبين.
ويُصنَّف سد الموصل من ضمن أهم بنيات العراق التحتية. ولو كان داعش فجَّره مثلما كان يخشى سلاح المهندسين بالجيش الأميركي، لكان ذلك ألحق أضراراً لا تُوصف على طول مجرى النهر مُتسبِّباً في إغراق القرى والأراضي الزراعية بالفيضان.
وبمجرد إعادة السيطرة عليه في أغسطس/آب 2014، شُددت الإجراءات الأمنية لدرجة أنَّه لم يكن يُسمَح لأي شخص بعبور الجسر الواقع تحته ما لم يكن من العاملين هناك.
نقطة التفتيش كانت تابعة لقوات مكافحة الإرهاب العراقية المشهورة بأقنعة الوجه التي عليها صورة الهيكل العظمي، ومُسلحةً تقريباً كما لو كانت قوات عمليات خاصة أميركية.
نظر أحدهم إلى سيارة الفريق وقال: "دون شارة، لن يُسمَح لكم بالدخول. عاودوا أدراجكم"، وكان ذلك أمراً إذ لم يكن مُهتماً بخوض نقاشٍ حيال الأمر.
استجابوا وتراجعوا حوالي 150 متراً. وبدأ مدير المكتب في بغداد بالاتصال بضباط مكافحة الإرهاب.
وبعد خمس وعشرين دقيقة، تم استدعاؤهم، إذ اتصل جنرالٌ في قوة مكافحة الإرهاب، وأصبح لديهم إذن بالدخول.. بدا الأمر وكأنَّه مُعجزة.
أسئلة لا تنتهي
ومع تقدُّمهم في المسير، مروا ببيوتٍ على شكل أكواخ يعيش فيها مهندسو السد العراقيون والإيطاليون، وبساحة لعبٍ للأطفال، وأخيراً فوق الجسر نحو نقطة تفتيشٍ إلى الجانب البعيد.
كانت الساعة الواحدة ظهراً. وكان قد مضى على رحلتهم 5 ساعات، وهي التي كان يُفترَض بها أن تستغرق ثلاثاً فقط.
ظهرت نقطة التفتيش التالية بعدما صعدت سيارتهم فوق أحد التلال. لم تكن هناك سيارات بانتظار العبور. لكن حين أخذ الجنود جوازات سفرهم وبطاقاتهم الصحفية للتدقيق فيها عن كثب، حبست أليسا أنفاسها، الوضع أفضل حين كانوا يلقون نظرة سريعة ويلوحون لهم بالعبور.
كان القائد برتبة ملازمٌ ثانٍ من الفرقة الخامسة عشرة بالجيش العراقي، أخبرهم أنه يتعين عليه التباحث مع رؤسائه قبل أن يسمح لأجنبية بالمرور.
كانت حرارة منتصف اليوم الشتوي عالية. وكان الطقس خارج السيارة أدفأ قليلاً من داخلها، ذهب القائد لتناول الغداء فاستغل أعضاء الفريق الثلاثة الفرصة للتجول في الأرجاء.
مرَّ الوقت، وعاود القائد الظهور ومنحهم شاياً مُحلَّى في أكواب بلاستيكية ساخنة بدرجة يصعب معها حملها، لذا أخذوا في نقلها من يدٍ إلى الأخرى.
كان يستهدف أليسا، تدفقت أسئلته مثل طلقات مدفع رشاش من أين؟ ومتى كانت آخر مرة تزور فيها بغداد، وكيف كانت الأحوال هناك، وكيف أمكنها ترك أسرتها والقدوم إلى هنا، وماذا كان رأي زوجها في سفرها وحيدة.
مع الأسئلة خسروا مزيداً من الوقت. 90 دقيقة، ثُمَّ ساعتان، ثُمَّ بدأت الشمس تغيب.. وأخيراً، اتصل أحدهم في التسلسل القيادي للجيش بالقائد وأصبح بمقدورهم الذهاب.
التعايش الصعب
يتميز شمال العراق بمزيجٍ من السكان الذين يتحدثون لغات متعددة، وينتمون إلى العرقيات الكردية والعربية والتركمانية. وهم متنوعون دينياً بنفس قدر تنوعهم اللغوي والعِرقي. واليوم، هم ذوو أغلبية مسلمة من السُنَّة أساساً، لكن هناك أيضاً سكانٌ شيعة، بالرغم من أنَّ الطوائف المسيحية اتخذت من المنطقة موطناً لها منذ الأيام الأولى للديانة المسيحية تقريباً.
والمنطقة موطنٌ أيضاً لديانات أقل شهرة -بما في ذلك ديانة الأيزيديين- يصعب العثور عليها في مناطق أخرى.
وبالرغم من عدم وجود تكامل حقيقي بين هذه المجتمعات، إلا أنَّها عاشت جنباً إلى جنب إلى أن قضى اجتياح داعش للمنطقة على هذا الوفاق وهجَّر الكثير من السكان المحليين. والآن، وحتى برغم رحيل داعش، لا تزال المنطقة مُقسَّمة بين مجموعاتٍ لديها دوافع غير واضحة.
عند نقطة التفتيش التالية، خارج قضاء تلعفر، اختفت كل أعلام الحكومة العراقية، وكان يرفرف في الهواء عَلَمٌ يحمل صورة الإمام علي، وحَمَل عَلَمٌ آخر ألوان العلم العراقي إلى جانب شعارٍ في أسفله.
كان العَلَم يخص قوات الحشد الشعبي، وهو اسم لهيئة جامِعة تضم مجموعة من الميليشيات المُفوَّضة ذات الغالبية الشيعية تأسَّست في 2014 لقتال داعش كقوات مُكمِّلة للوحدات الحكومية، وحصل الكثير من تلك الميليشيات الواقعة عملياً تحت سلطة العراق على مساعداتٍ واسعة من إيران.
وقد ينظر الكثير من السُنَّة إلى نقطة التفتيش تلك باعتبارها طائفية، وحتى تهديداً لهم، بسبب خضوعها لسيطرة مجموعة شيعية ورفعها أعلاماً يُفضِّلها الشيعة عادةً.
كان مقاتلو الحشد شباباً تبدو عليهم القوة، عند نقطة تفتيشهم الأولى، أوقفوا أليسا وزميليها وأخبروهم أنهم ألقوا الليلة الماضية القبض على عنصرين من داعش وبالتالي فلا يمكنهم العبور من هذه الطريق وعليهم تغييرها وأرشدوهم إلى أخرى بديلة.
أصبحت نقاط التفتيش كثيفة ومتقاربة، واحدة كل كيلومتر واحد، والبعض أقرب من ذلك.
كانت إحدى نقاط التفتيش تتكون من صبيين فقط يتكئان على حائط. نظرا إلى السيارة وهما يحملان بندقيتي كلاشينكوف على نحوٍ أخرق، وحينما أخبروهما أنهم صحفيون متجهون إلى سنجار، قال أحدهما: "اكتبوا أنَّهم يجب أن يدفعوا لنا راتباً أكبر".
فيما طلب الآخر طعاماً، وقبل أن يتمكنوا من الإجابة، فتح الباب الخلفي للسيارة ووصل إلى المُبرِّد، وأخذ موزاً ومشروبات.
أكملوا طريقهم، وكانت كل نقطة تفتيش ترفع مجموعة مختلفة قليلاً من الأعلام، وكلها تقريباً كانت شيعية.
نقطة التفتيش قبل الأخيرة ترفع علماً مختلفاً: شمساً برتقالية اللون على خلفية بيضاء وحمراء، كان ذلك عَلَم ميليشيا أيزيدية يقودها حيدر ششو، الذي اشتهر برفضه مغادرة سنجار حين استولى عليها عناصر داعش، وبقي فوق الجبل يخوض حرب عصاباتٍ ضدهم.. ولوَّح لهم مقاتلوه بالعبور.
وبعد أكثر من 24 نقطة تفتيش، امتدت الرحلة التي يُفتَرَض أن تستغرق 3 ساعات إلى 9 ساعات، وحين دخلت أليسا ورفيقيها قرية سنوني عند قاعدة جبل سنجار، كانت الشمس قد غربت منذ وقتٍ طويل؛ وكانت الأجواء حالكة الظلمة.