بعد إعلانه التطبيع مع إسرائيل يبدو أن المغرب قد دق آخر مسمار في نعش اتحاد المغرب العربي الذي ظل هيكلاً بلا روح منذ 1994 تاريخ إغلاق الحدود بين الجزائر والمملكة المغربية على خلفية اتهام المغرب أجهزة الاستخبارات الجزائرية بالوقوف وراء تفجيرات مراكش.
وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على إنشائه عام 1989 ظلت قضية الصحراء تعرقل مساره وظلت تقف عائقاً لتحقيق الاندماج المغاربي المنشود وحجر عثرة أمام انفراج علاقات التعاون بين الجزائر والمغرب.
ويأتي اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية ليزيد من حجم التوتر بين البلدين والمنطقة عموماً ويزيد الغموض حول مصير الجسم المحتضر.
كما يجيء هذا التطور في وقت شهدت منطقة الصحراء تجدد الأعمال المسلحة عندما أطلق الجيش المغربي عملية عسكرية بمعبر الكركرات وهو منطقة عازلة في أقصى الجنوب تخضع لمراقبة قوات حفظ السلام الأممية المينورسو.
وتصنف الأمم المتحدة الصحراء الغربية في قائمة "الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي" وتراقب بعثة الأمم المتحدة (مينورسو) منذ 1991 احترام اتفاق وقف إطلاق النار من خلال دوريات برية وجوية، وتضم البعثة ومقرّها في مدينة العيون نحو 240 موظفاً.
والصحراء الغربية منطقة صحراوية شاسعة على الساحل الأطلسي لإفريقيا ومستعمرة إسبانية سابقة يسيطر المغرب على 80% منها، ويقترح منحها
حكماً ذاتياً تحت سيادته، في حين تطالب جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر، بإجراء استفتاء لتقرير مصيرها وفقاً للوائح الأمم المتحدة.
فهل يرهن قرار التطبيع مستقبل اتحاد المغربي العربي؟ وكيف تنظر له دول وشعوب المغرب العربي؟ وكيف ستتعامل الجزائر مع قضية الصحراء بعد الخطوة الأمريكية؟
مخاوف ومزيد من التوجس ترهن مستقبل الاتحاد المغاربي
شكل تباين طبيعة الأنظمة السياسية بين البلدان المغاربية عائقاً أمام تكاملها، إذ تبنت الدول المغاربية بعد الاستقلال أنظمة سياسية مختلفة كالجماهيري في ليبيا والجمهوري في كل من الجزائر، تونس وموريتانيا، بينما يتبنى المغرب النظام الملكي.
فالتعارض بين هذه النظم له أسس أيديولوجية سياسية جسدتها مجموعة من التوترات التي لا تزال تؤثر على علاقات البلدان المغاربية إلى جانب الخلافات الحدودية الموروثة عن الاستعمار الفرنسي. فضلاً عن اختلاف النظم والهياكل الاقتصادية للأقطار المغاربية.
لقد شهدت تونس تجربة الربيع العربي، وعرفت ليبيا صراعاً مسلحاً، كما شهدت الجزائر حراكاً شعبياً، بينما مرَّت التجربة المغربية بالإصلاح السياسي من داخل النظام، إلا أن قضية الصحراء تبقى العقبة الكؤود التي تسمم العلاقات الجزائرية المغربية بسبب اختلاف وجهات النظر بخصوصها الأمر الذي يحول دون حدوث تكامل اقتصادي بين الأقطار المغاربية الخمس على اعتبار أنهما القوتان الاقتصاديتين والعسكريتين الأكبر في المنطقة والقاطرة الحقيقية للصرح المغاربي.
وتأتي مسألة التطبيع لتضيف عقبة أخرى إلى جملة العقبات التي تعرقل مسار الاتحاد المغاربي وتعمق الشرخ القائم بين بلدانه، خصوصاً بين الجزائر والمغرب بسبب قضية الصحراء.
وتشي تصريحات المسؤولين الجزائريين مؤخراً بتنامي المخاوف بخصوص مشاريع التفكيك التي تتربص بالمغرب العربي بعد افتتاح الإمارات قنصلية في مدينة العيون التي تتبع الصحراء.
وقد يعني التطبيع المغربي بالنسبة للجزائر تهيئة موطئ قدم في منطقة المغرب العربي لإسرائيل ودول الخليج خصوصاً الإمارات، التي يبدو أن حبل الود الذي جمعها بالجزائر قد انقطع منذ رحيل عبدالعزيز بوتفليقة عن سدة الحكم وتسعى بكل الطرق لاستفزاز الجزائر، كما يرى باحثون.
كما أنه من وجهة نظر الجزائر فإن التطبيع سينجم عنه تعاون عسكري مغربي إسرائيلي سيترتب عنه حضوراً إسرائيلياً على الحدود الجزائرية المشتعلة كلها تقريبا ما يعني مزيد من التوتر وعدم الاستقرار.
كما أنه سيفتح الباب واسعاً أمام سباق تسلح بين الجزائر والمغرب الذي يبدو أن موقفه قد تعزز في أعقاب صفقة السلاح التي يعتزم المغرب ابرامها مع الولايات المتحدة وقوامها الأساسي طائرات بدون طيار أمريكية متطورة.
هل يستغل تبون هذه الأحداث لتعزيز موقفه؟
تقدم الجزائر نفسها على أنها قلعة من قلاع الصمود في وجه كل أشكال الاحتلال وتقوم سياستها الخارجية على نصرة حركات التحرر ما يجعل الانضمام إلى فريق المطبعين مستبعد.
كما أن النظام الجزائري بقيادة الرئيس عبدالمجيد تبون الذي وصل للرئاسة عبر انتخابات رفضتها المعارضة والحراك، قد يستثمر هذه التطورات لتوحيد الشعب الجزائري خلف التهديدات المحتملة للتطبيع المغربي، والاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء
وهو ما بدا في دعوة الوزير الأول عبدالعزيز جراد "إلى تضامن حقيقي لمجابهة التحديات المحيطة بالبلاد".
وحذر جراد قائلاً: "هناك إرادة أجنبية حقيقية اليوم لوصول الكيان الصهيوني قرب حدودنا، يتعين على الطبقة السياسية والثقافية العمل على استقرار البلاد"، في إشارة إلى تطبيع العلاقات بين المغرب (الجارة الغربية للجزائر) وإسرائيل.
واعتبر أن "الجزائر مستهدفة بالذات"، قائلاً إن عمليات أجنبية "تريد ضرب استقرار البلاد".
ويبدو أن الإمارات التي تعد رأس الحربة لمشروع الثورات المضادة والتطبيع تتحرك في اتجاه جعل الجزائر تدفع فاتورة مواقفها التاريخية من القضية الفلسطينية ورفضها ركوب موجة التطبيع مع إسرائيل.
وألقى قرار المغرب التطبيع مع إسرائيل بظلال ثقيلة على مزاج الشعوب المغاربية، حيث ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بردود الفعل المستنكرة للخطوة حتى داخل المغرب.
و قال رئيس الوزراء التونسي هشام المشيشي إن تطبيع علاقات بلده مع إسرائيل "ليس مسألة مطروحة"، وذلك بعد أيام من قرار المغرب تطبيع علاقاته مع تل أبيب.
وأدان الرئيس السابق المنصف المرزوقي الخطوة المغربية بقوله: "أدين بوضوح تطبيع النظام المغربي مع إسرائيل في الوقت الذي تتصاعد فيه سياستها في الاستيطان والضم وانتهاك كل حقوق الفلسطينيين، لك الله يا فلسطين".
ما المتوقع؟
وأضاف في تدوينة على صفحته في فيسبوك، أنه وبوصفه مواطناً تونسياً ومغاربياً "كما أدنت سياسة النظام الجزائري تجاه ملف الصحراء المغربية واعتبرتها استنزافاً لطاقات الشعبين الشقيقين الجزائري والمغربي، وارتهاناً لمستقبل أجيال متتالية، وحكماً بالإعدام على الاتحاد المغاربي الذي هو ضرورة قصوى لتقدم شعوبنا، فإني أدين التطبيع الذي قام به النظام المغربي".
واعتبر الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي أن "حلم المغرب العربي كان بعيداً، ولكن بالخطوة التي قام بها المغرب تم وأده تماماً"، مشيراً إلى أن "المغرب طعن القضية الفلسطينية ووأد الحلم في إقامة اتحاد مغاربي".
وأوضح الشابي أن "ما حصل سيعمق الخلافات ويعزز موقف الجزائر التي كانت دائماً تتحفظ على العلاقات مع المغرب، ويؤجج الصراعات في المنطقة، ويبعد إمكانية البحث عن حل سلمي لقضية الصحراء، أو إقامة سوق مغاربية مشتركة ووحدة مغاربية".
وأكد الشابي أن "السيادة الوطنية والمنطق يفرضان على دول المغرب العربي، وفي المقدمة تونس، أن تطلب تغيير مقر الأمانة العامة لاتحاد المغرب العربي من المغرب، والتي لم يعد مؤهلاً لاحتضانه، ونقله إلى منطقة أخرى".
وعبر حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (إسلامي) -ثاني أكبر الأحزاب الممثلة في البرلمان الموريتاني- عن إدانته لقرار السلطات المغربية التطبيع مع إسرائيل، معتبراً القرار "طعنة لقضية فلسطين، وإسهاماً في تصفيتها".
مما سبق يبدو أنه من المرجح أن مشروع اتحاد المغرب العربي قد يظل موجوداً على الورق فقط وقد يتحول إلى هيكل شبيه بالجامعة العربية، من دون أي مضمون حتى إشعار آخر في ظل تصادم الإرادات.
ورغم التوجه المغربي إلى محاولة تقليل التوتر مع الجزائر، وهو ما بدا واضحاً في الرسالة التي وجهها العاهل المغربي، الملك محمد السادس، بالتزامن مع هذه التطورات إلى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، بعد إعلان إصابته بفيروس كورونا المستجد إلا أن ارتفاع منسوب لغة الشحناء والاتهام في العاصمتين، منذ حادثة الكركرات، لا يساعد على تهدئة النفوس واستتباب الأمن.
أي مستقبل للصحراء وكيف ستتصرف الجزائر؟
المؤكد أن المغرب تمكن من تحقيق اختراق دبلوماسي ملحوظ في قضية الصحراء الغربية منذ 2012 بعد مرض الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ثم انشغال الجزائر بترتيب بيتها الداخلي بعد الزلزال الذي أحدثه الحراك الشعبي. عبر اعتماد ما يعرف بدبلوماسية القنصليات حيث افتتحت عدد من الدول الإفريقية غير الوازنة قنصليات لها بمدينة العيون التي تتبع الصحراء ثم انضمت لها لاحقا الإمارات والبحرين.
غير أن اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء شكل ضربة قوية للدبلوماسية الجزائرية وضعتها في عزلة سياسية تحتاج معها إلى أساليب خلاقة في المستقبل واعادة النظر في استراتيجيتها السياسية لإحداث التوازن المطلوب.
ومن منطلق أن موقفها يستند إلى الشرعية الدولية ترى الجزائر أن اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتعارض مع جميع قرارات مجلس الأمن بشأن الصحراء ولا يغير من قانونيتها.
وأكد ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمم المتحدة، أن موقف الأمين العام أنطونيو غوتيريس "لم يتغير". وتابع: "لا يزال مقتنعاً بإمكانية التوصل إلى حل لمسألة الصحراء، وفقاً لقرارات مجلس الأمن الدولي".
وتدرك الجزائر أن الولايات المتحدة ليست صاحبة التأثير القوي في شمال إفريقيا وستراهن على لاعبين كبار آخرين وأعضاء في مجلس الأمن سيرجحون الكفة كروسيا والصين اللتين تبنيان مواقف أقرب إلى الموقف الجزائري.
ووصفت روسيا، قرار الرئيس الأمريكي بإعلان سيادة المغرب على الصحراء الغربية، بالانتهاك الصارخ للقانون الدولي واللوائح التي صوتت عليها واشنطن بمجلس الأمن.
إلى جانب ذلك تعول الدبلوماسية الجزائرية على مواقف الاتحاد الأوروبي الذي لا يعترف بمغربية الصحراء رغم الدور الفرنسي الداعم للمغرب داخل الجسم الأوروبي.
كما ستضغط الجزائر أيضاً في ملف الصحراء، من خلال الاتحاد الأفريقي، الذي ينص على ألا تعتدي أي دولة على حدود دولة أخرى، وقد اعترف الاتحاد بدولة الصحراء الغربية.
لكن يظل الخيار الأخطر الذي قد تتبنيه الجزائر هو دفع البوليساريو إلى الرد على هذه التطورات عسكرياً، وهو خيار من شأنه المخاطرة بمواجهة في المنطقة لكنه يبقى خياراً مستبعداً في ظل انشغال الجزائر بأوضاعها السياسية الداخلية بعد الحراك الشعبي الذي أطاح بحكم عبدالعزيز بوتفليقة.
لكن هذا لا يعني أن جبهة البوليساريو لن تنخرط في العملية العسكرية بل إن عودتها إلى خيار العمل مسلح واردة وإن على نطاق محدود خصوصاً أنها أعلنت أنها باتت في حل من اتفاق إطلاق النار الموقع في 1991 بعد العملية العسكرية المحدودة للجيش المغربي بمعبر الكركرات.