بدأ العام بعملية اغتيال أمريكية قتلت قاسم سليماني، وقبل شهر اُغتيل العالِم النووي الإيراني فخري زادة والاتهام موجَّه لإسرائيل التي لم تنفِ ولم تؤكد. قائمة الاغتيالات المنسوبة للموساد طويلة، فما مدى تورُّط واشنطن فيها؟
استراتيجية الغموض بشأن الاغتيالات
تتبع إسرائيل سياسة الغموض كاستراتيجية تجعل قادتها يتفاخرون داخلياً بقدرتهم على الفعل وفي الوقت نفسه ينكرون الفعل هرباً من العقاب عند الحاجة، وهذه السياسة متبعة بشكل واضح وممنهج فيما يتعلق بامتلاك تل أبيب لأسلحة نووية وأيضاً فيما يخص عمليات الاغتيال التي يقوم بها الموساد الإسرائيلي.
وفي هذا السياق، لم يصدر تأكيد إسرائيلي رسمي بشأن عملية اغتيال فخري زادة التي تم تنفيذها في قلب طهران نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على الرغم من أن جميع المؤشرات تؤكد ضلوع الموساد في تنفيذ الاغتيال، لكن السؤال هنا يخص مدى تورط الولايات المتحدة في تلك العملية والاغتيالات الأخرى المحسوبة على الموساد بشكل عام.
موقع Responsible Statecraft الأمريكي تناول تلك النقطة تحديداً في تقرير له بعنوان: "الاغتيالات التي ضلعت إسرائيل في تنفيذها: ما مدى تورط الولايات المتحدة حقاً؟"، تناول القائمة الطويلة من الاغتيالات بداية من اغتيال فخري زادة.
بالنظر إلى حملة الضغط القصوى التي تمارسها الولايات المتحدة على إيران، وإلى التعاون الوثيق بين بومبيو ونتنياهو، فإن التساؤل المتعلق بتعاون أمريكا في عملية الاغتيال -أو على الأقل معرفتها المسبقة وموافقتها- يفرض نفسه بقوة على النقاش حول مقتل فخري زادة.
برنامج الاغتيالات، متى بدأ؟
تعود بدايات برنامج الموساد الرامي إلى اغتيال العلماء النوويين الإيرانيين، إلى مايو/أيار 2003. حينها، شرع مدير جهاز الموساد آنذاك، مئير داغان، ونائبه تامير باردو، في إطلاق خطة سرية تستهدف تخريب البرنامج النووي الإيراني. انطوت الخطة على ممارسة ضغط دبلوماسي على الجمهورية الإسلامية، وفرض العقوبات، ودعم جماعات المعارضة الإيرانية التي كانت تسعى إلى تغيير النظام، وتعطيل إمدادات المعدات النووية، وتخريب المنشآت النووية، واغتيال العلماء النوويين.
ومن أجل إنجاح الخطة، وُقِّع اتفاق تعاون شامل -تضمن مشاركة المعلومات الاستخباراتية والمصادر والأساليب- بين رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها إيهود أولمرت والرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش.
ويشير رونين بيرغمان، مؤلف كتاب Rise and Kill First: The Secret History of Israel's Targeted Assassinations، الصادر في عام 2018، إلى أن الشراكة القائمة على مشاركة المعلومات الاستخباراتية تعود في واقع الأمر إلى عقود طويلة قبل ذلك. وأوضح بيرغمان أنه في عام 1951، سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون بصحبة مؤسس الموساد، رؤوفين شيلواه، إلى الولايات المتحدة. التقى بن غوريون بألين ويلش دالاس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، بهدف تأسيس العلاقات، فيما التقى شيلواه بجيمس جيسس أنغليتون، رئيس قسم محاربة التجسس في وكالة الاستخبارات المركزية، للعمل على التفاصيل.
ومع ذلك، يقول بيرغمان إن اتفاقية التعاون الموقعة في 2003 لم تتطرق للاغتيالات، لأن إسرائيل تعلم أن الاغتيالات كانت محظورة بموجب القانون الأمريكي، وأن واشنطن لن تتعاون في مثل هذه العمليات. في حديثه مع بيرغمان، قال مايكل هايدن، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، إن إسرائيل لم تخبر الولايات المتحدة قط بشأن خططها حول الاغتيالات، وأنكر بشكل قاطع أي تورط أمريكي في مثل هذه الاغتيالات.
واشنطن تعلم بالاغتيالات مسبقاً
كشف مسؤولان بارزان في إدارة أوباما عام 2012 لشبكة NBC الإخبارية أن اغتيال العلماء النوويين الإيرانيين تنفذه حركة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، التي كانت على وفاق مع صدام حسين خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات. وأكدا كذلك أن مجاهدي خلق يحصلون على تمويل وتسليح وتدريب من الموساد. وعلى عكس إصرار هايدن على أن أمريكا لم تعلم، قال كلاهما إن "إدارة أوباما كانت على علم بحملة الاغتيالات".
ودعّم الصحفي الاستقصائي الأمريكي سيمور هيرش هذه الرواية. ففي عام 2012، نشر هيرش تقريراً يفيد بأن واشنطن أسهمت في تدريب مجاهدي خلق. وقال إن قيادة العمليات الخاصة المشتركة بدأت تدريب مجاهدي خلق في 2005، وهو اتهام أنكرته قيادة العمليات الخاصة المشتركة إنكاراً شديداً.
وقد علم هيرش من مسؤول استخباراتي بارز سابق أن الاغتيالات كانت تُنفذ "بشكل أساسي عن طريق مجاهدي خلق بالتنسيق مع الإسرائيليين، لكن الولايات المتحدة تقدم الآن المعلومات الاستخباراتية". طالما أنكرت حركة مجاهدي خلق وجود أي ارتباط بينها وبين الاغتيالات، بما في ذلك اغتيال فخري زاده.
وقبل ثلاثة أشهر من تقرير هيرش، الذي نُشر في مجلة The New Yorker، قُتل العالم النووي الإيراني مصطفى أحمدي روشن، الذي أشرف على أحد الأقسام في منشأة تخصيب اليورانيوم في نطنز، وذلك في انفجار وقع في 11 يناير/كانون الثاني 2012. وقالت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون: "أود أن أنكر بشكل قاطع أي تورط للولايات المتحدة في أي نوع من العنف داخل إيران"، في إدانة قوية لما وُصف بأنه اغتيال آخر ضلعت فيه إسرائيل.
واشنطن تشارك فعلياً في تلك الاغتيالات
ولكن ثمة أدلة، وكذلك سابقة تاريخية، على معرفة الولايات المتحدة بشأن هذه العمليات، أو على الأقل التغاضي عن عمليات الاغتيال التي تنفذها إسرائيل. ولا يقتصر الأمر على الإيرانيين، إذ إن الفلسطينيين يُستهدفون هم الآخرون. أُبرمت اتفاقية سرية بين أرئيل شارون وكونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي للولايات المتحدة سابقاً، تُلزم إسرائيل بـ "تخفيض كبير في تشييد المستوطنات الجديدة، مقابل الحصول على دعم أمريكي في الحرب ضد الفلسطينيين ودعم سياسة أعمال القتل الموجهة الخاصة بإسرائيل"، وذلك وفقاً لبيرغمان.
لكن علاقة أمريكا مع الاغتيالات الإسرائيلية تتجاوز مجرد المعرفة والتغاضي. ففي بدايات 2008، منح الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الضوء الأخضر لطلب داغان، مدير الموساد، الرامي إلى الحصول على مساعدة واشنطن في اغتيال عماد مغنية، قائد العمليات الدولية لحزب الله، داخل سوريا. وفي فبراير/شباط 2008، اغتيل مغنية بمساعدة أمريكية وتعاون وثيق، وذلك بحسب تقارير من صحيفة The Washington Post ومجلة Newsweek.
ذكرت مجلة Newsweek ما أورده مسؤول أمريكي سابق بدون ذكر اسمه، شارك في المشروع: "كنا نحن من فعل ذلك… الإسرائيليون أخبرونا بمكانه وأمدّونا بالمساعدة اللوجيستية. لكننا صممنا القنبلة التي قتلته وأشرفنا على العملية". بحسب المجلة، كانت الولايات المتحدة هي من نفذت عملية القتل. وأصرّ المصدر على أن "عملاء الموساد كانوا هم من سيُحددون هوية مغنية، وكان رجل وكالة الاستخبارات المركزية هو من سيضغط على زر التحكم".
صار أي اعتراض باقٍ لفكرة مشاركة الولايات المتحدة في عمليات الاغتيال التي تطال الإيرانيين، تجسيداً للسخف في يناير/كانون الثاني 2020 عندما اغتالت الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني في غارة جوية بطائرات مُسيرَّة خارج مطار بغداد.
أثبت اغتيال سليماني أن واشنطن لا تغتال الإيرانيين وحسب، بل إنها يمكنها أن تتعاون مع إسرائيل للقيام بذلك. ذكرت صحيفة Los Angeles Times أن ضابطاً في الجيش الإسرائيلي على علم بالتقييمات العسكرية الإسرائيلية، أوضح أن اغتيال سليماني لم يشكل مفاجأة للإسرائيليين؛ لأن إسرائيل كان لديها معرفة مسبقة بالخطة الأمريكية. فقد أُبلغ نتنياهو بالعملية من جانب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو.
لكن دور إسرائيل تجاوز مجرد المعرفة، فقد أشارت عديد من التقارير إلى مشاركة إسرائيل في العملية. قالت شبكة NBC News ووكالة Reuters آنذاك إن الاستخبارات الإسرائيلية كان لها دور فعال، وإن معلومات المخبرين المؤكدة والموثقة قُدمت إلى الولايات المتحدة فيما يتعلق بأي طائرة كانت تقل سليماني. أنكر وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان مثل هذه التقارير، وشكك في مصداقية المصادر الإسرائيلية التي تلجأ لها وسائل الإعلام.
يفرض هذا التاريخ الطويل التساؤل المهم المتعلق بمدى معرفة الولايات المتحدة بشأن اغتيال فخري زادة وعمليات الاغتيال الأخرى التي نفذتها إسرائيل ضد العلماء الإيرانيين على مدى السنوات.
ففي تغطيته لاغتيال فخري زادة، كتب الصحفي المخضرم لدى صحيفة Haaretz الإسرائيلية، يوسي ميلمان: "الأرجح أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو… تشاور… مع دونالد ترامب. من المؤكد أن ترامب ومساعديه العسكريين والأمنيين كانوا متكتمين على القرار السري، لأن الولايات المتحدة كان عليها أن تعد نفسها لجميع الاحتمالات، بما في ذلك أسوأ السيناريوهات: أي اتخاذ إيران قراراً بالانتقام عن طريق ضرب أهداف أمريكية، مثل قواعدها في البحرين أو قطر". أما إدارة ترامب فقد أنكرت اتهامات إيران بضلوعها في عملية الاغتيال.