"مندهشون لمدّ السجاد الأحمر لديكتاتور".. بهذه الكلمات عبّر حقوقيون فرنسيون عن دهشتهم للحفاوة التي يستقبل بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره المصري عبدالفتاح السيسي، مسلطين الضوء على تناقضات سياسات باريس بشأن الحريات وحقوق الإنسان في وقت تزداد أواصر تحالف ماكرون مع السيسي.
ووفقاً لعدد من المنظمات غير الحكومية، يقدّر عدد السجناء السياسيين في مصر بنحو 60 ألفاً، بينهم صحافيون ومحامون وأكاديميون ونشطاء وإسلاميون، لكن الرئيس السيسي قال إنه لا يوجد سجناء سياسيون في مصر، وإن للاستقرار والأمن أولوية قصوى.
انتقادات برلمانية وحقوقية لاذعة مقابل انتقاد خفيف من ماكرون لتبرئة الذمة
وبينما يستعد نشطاء حقوق الإنسان لوقفة احتجاجية في فرنسا للضغط على الرئيس الفرنسي حتى يفتح ملف حقوق الإنسان مع الرئيس المصري الذي يزور باريس، طالب نواب فرنسيون بالبرلمان الأوروبي في رسالة نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية ماكرون بوضع ملف احترام حقوق الإنسان في صلب محادثاته مع السيسي، محذرين من "العار" الذي لحق بفرنسا بعد استقبال الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، تزامناً مع وصول السيسي اليوم إلى باريس.
وقال ماكرون في مؤتمر صحفي يوم الاثنين مع السيسي بعد محادثاتهما في قصر الإليزيه إنه تحدث بصراحة مع الرئيس المصري بشأن قضايا حقوق الإنسان في مصر، لكنه لم يذكر تفاصيل كثيرة.
وأضاف ماكرون إن مبيعات الأسلحة لمصر ليست مشروطة بحقوق الإنسان.. ، في حين كما عبر السيسي عن استيائه لما يصوره الإعلام من أن المسؤولين في مصر هم قادة "عنيفين وشرسين.. وأن النظام في مصر هو نظام مستبد"، حسب وصف السيسي، مؤكداً أن هذا "أمر غير لائق"، وأن هذه النظم "ولت منذ زمن".
فرنسا المُصدِّر الأول للسلاح لمصر، ولكن ليس هذا فقط
وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد نشرت بياناً وقعته إلى جانب 16 منظمة حقوقية جاء فيه أن "فرنسا تجاوزت الولايات المتحدة لتصبح المورد الرئيسي للأسلحة لمصر بين 2013 و2017". ونقلت عن تقرير برلماني فرنسي أن هناك "ضرراً يلحق بسُمعة فرنسا وزيادة التكلفة السياسية التي ستتكبدها على الأرجح بسبب استمرار هذه المبيعات".
وفعلياً تحولت فرنسا إلى واحد من أقرب الحلفاء الغربيين لنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي، بل كانت باريس هي البوابة الرئيسية للتطبيع الأوروبي مع مصر بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي.
وجاء ذلك بشكل أساسي عبر دور إماراتي سعودي، إضافة إلى صفقة أسلحة ضخمة بقيمة 5.7 مليار دولار جعلت مصر أول زبون لطائرات رافال (ويعتقد أنها تمت ولو جزئياً بتمويل خليجي) وتضمنت فرقاطة متعددة المهام، وأعقب ذلك مشاركة الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند في افتتاح مشروع قناة السويس الجديدة، حيث كان الرئيس الغربي الوحيد الذي فعل ذلك، وبعد ذلك تفاوض البلدان على مزيد من الرافال.
تحالف ماكرون مع السيسي يصل بالعلاقات لمستوى مرتفع
ولكن العلاقة وصلت إلى مستوى أعلى بكثير مع الرئيس ماكرون، فواصلت مصر مكانتها كواحد من أهم مستوردي السلاح الفرنسي، كما اصطف البلدان خلف الجنرال الليبي المتقاعد في مسعاه للإطاحة بحكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً (رغم نفي ماكرون لذلك).
وازدادت العلاقة توثقاً في ظل العداء المشترك للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والإسلام السياسي، وتحالف البلدين مع الإمارات والسعودية.
وأصبح تحالف ماكرون مع السيسي محوراً أساسياً لسياسات فرنسا في المنطقة.
وهذا التوجه لتعزيز العلاقة مع مصر الذي تقود فرنسا اتسع ليشمل دولاً غربية أخرى مثل ألمانيا، وأصبح يرتبط بدعم أوروبي سخي لا يستفيد منه الرئيس السيسي في تثبيت حكمه وحسب، بل إنه يكرّس من خلاله دوره القيادي إقليمياً في الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، حسبما ورد في تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
وبالمقابل فإن باريس وبرلين وحلفاءهما في الاتحاد الأوروبي ينتظرون من السيسي أدواراً كبيرة في ملف مكافحة الهجرة الذي يؤرق الأوروبيين، كما ينتظرون منه دوراً أساسياً في الملف الليبي.
ولكن الأغرب أن الدول الأوروبية في مقدمتها فرنسا لا تتعامل بنفس الحفاوة مع الأنظمة الديمقراطية القليلة في المنطقة مثل تركيا التي يمكن تبرير الموقف منها بسبب خلافات متعددة، ولكن حتى تونس المحايدة والنموذج الناجح الوحيد تقريباً في الدول العربية لا تلقى نفس الترحيب من قبل أوروبا، وأيضاً الجزائر والمغرب الأكثر اعتدالاً في سياستهما الداخلية والخارجية، حسبما ورد في تقرير للموقع الألماني.
هل تأثر ماكرون بنموذج السيسي في حقوق الإنسان؟
وبينما وجّه ماكرون انتقادات ضمنية وخفيفة لملف حقوق الإنسان في مصر، فيبدو أنه تحالف ماكرون مع السيسي، قد يكون مضراً للحريات التي تباهي بها فرنسا.
فمن الواضح أن نظام الرئيس السيسي هو الذي أثر في سلوكيات الرئيس ماكرون في مجال حقوق الإنسان.
فقد وصل الرئيس الفرنسي الحالي للحكم مدعوماً بأصوات المسلمين الفرنسيين، ومبشراً بمجتمع فرنسي جديد يدمج المهاجرين ويطبق علمانية مخففة تحترم تقاليد الأديان منها والإسلام لدرجة تأييده للباس البحر الإسلامي المعروف بالبوركيني.
ولكن بعد تحالف ماكرون مع السيسي وتعزيزه العلاقات مع الإمارات والسعودية، فإن سياسات الرئيس الفرنسي انقلبت تماماً، حيث سن قوانين وصفتها المنظمات الحقوقية الدولية واليسار الفرنسي بأنها استهداف للمسلمين، وبلغ تطرف وزير داخليته حد محاولة حرمان الأطفال المسلمين من الطعام الحلال في مقاصف المدارس، ومنع بيعه في محلات السوبر ماركت، وصولاً إلى محاولة منع تحديد في أحواض السباحة للسيدات المسلمات.
بل امتدت سياسة ماكرون التقييدية لحرية الإعلام عبر قانون مثير للجدل، يمنع تصوير رجال الشرطة، أثار احتجاجات عنيفة في البلاد؛ لأنه ينظر إليه على أنه يهدف إلى منع رصد انتهاكات الشرطة.
وبلغ التوجه المعادي للحريات إلى حد ظهور اقتراح لم ينفذ، بفرض قيود على البحث العلمي، وأن يجب أن يكون ملتزماً بما يوصف بقيم الجمهورية.
ولا يمكن استبعاد تأثير التحالف العربي الثلاثي الذي يضم مصر والإمارات والسعودية، ومنها تحالف ماكرون مع السيسي على سياسات الرئيس الفرنسي تجاه المسلمين داخل بلاده، خاصة أن التحالف الثلاثي العربي يصطف مع أي نشاط للمسلمين في الخارج، وينظر له على أنه مرتبط بالإسلام السياسي سواء صح ذلك أو لم يصح، ولم يتورّع في هذا السبيل عن التحالف مع القوى اليمينية المتطرفة في بعض الدول الغربية ومنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه.
ولكن الأخير أغضب التحالف العربي بعلاقته الجيدة مع أردوغان، عكس ماكرون الذي ورَّط بلاده في صراعات المنطقة الأيديولوجية ومنها الخلاف التركي الإماراتي المصري.
تاريخ فرنسا يقدم الإجابة
والحقيقة أنه لا يجب استغراب تحالف ماكرون مع السيسي.
فتاريخ فرنسا القريب والبعيد يشير بصرف النظر عن دعايتها المتكررة عن الحرية والعدالة والديمقراطية، إلى أنها واقعياً كانت صديقاً للمستبدين في العالم الثالث، خاصة إفريقيا والشرق الأوسط.
ويتذكر التاريخ نماذج فجَّة للاستبداد والوحشية من أصدقاء فرنسا، منهم زعيم إفريقيا الوسطى جان بيدل بوكاسا، الذي نصَّب نفسه إمبراطوراً باسم الإمبراطور بوكاسا الأول، في عام 1977، كواحد من أكثر "الوحوش المتعطشة للدماء" في القارة، حتى إنه اتُّهم بأنه آكل للحوم البشر، ونقل عنه منتقدوه أنه يأكل أجزاء من أجساد معارضيه، وهي تلك الأجزاء التي لم يطعمها للأسود والتماسيح في حديقة حيواناته الشخصية، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
وبعد خلعه، سمح لبوكاسا والعديد من أبنائه بالاستمتاع بمنفى مريح في قصر بإحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس.
كما أن علاقة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي مع الزعيم الليبي معمر القذافي عادت للأضواء، حيث يُحاكم ساركوزي بتهم فساد وتلقي تمويل من الزعيم الليبي الراحل الذي ساهمت فرنسا أيضاً بعد ذلك في الإطاحة به.