انتشرت ظاهرة السحر والشعوذة بشكل كبير في العراق، وأصبح ضحيتها آلاف من الجنسين، كما أنها تسببت في أزمات مجتمعية عدة، منها تمرد الشباب وارتفاع حالات الطلاق وتفكك الأسر وتشرد الأطفال، والانتحار.
وفي الوقت الذي كانت فيه بيوت الشعوذة محصوراً وجودها في المناطق الشعبية الفقيرة وأطراف العاصمة، غزت اليوم الأحياء الراقية، فانتشرت الإعلانات والدعايات لتستميل المرضى الباحثين عن الشفاء، والعاطلين والعاشقين المتعثر طريقهم.
السحر والشعوذة تجاوزا في العراق المحلات؛ بل وصلا إلى حرب إعلانات على المحطات التلفزيونية، التي أصبحت تبث بشكل رسمي، إعلانات مكاتب يدَّعي أصحابها أنهم يملكون "الحكمة وخاتم سليمان ومرآة المستقبل..".
ويتردد على هذه المكاتب زبائن، أغلبهم من النساء ومن الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وتتراوح أسعار العلاج ما بين 300 دولار و20 ألف دولار بحسب قدرة الزبون المالية وقضيته، إلا أن هناك من يدفع أضعاف هذا المبلغ مقابل وهْم قضاء خدماتهم.
شعوذة إيران تحت الحماية
الساعة تُشير إلى الثانية ظهراً، المكان محافظة البصرة الجنوبية، دخل أكثر من أربعين زبوناً إلى أحد المراكز، والذي عُلقت عليه صور لأحجار كريمة، ولوحات دينية، وجلود حيوانات، كُتبت عليها سور من القرآن وحروف فارسية، وخصلات شعر من الحيوانات الميتة، وعلى الجدار الذي يغلب عليه اللون الأحمر الغامق، عُلقت طلاسم غير مقروءة.
وسط هذه الأجواء تجلس زينب، شابة عشرينية، وهي إحدى ضحايا مكاتب السحر والشعوذة بالعراق، قائلة في حديثها مع "عربي بوست": "لا يمكن الدخول إلى المركز بأي صفة غير الصفة العلاجية. وهناك لافتة مكتوب عليها (التصوير ممنوع)".
وأضافت المتحدثة: "المكان هادئ لكنه لا يُطمئن، هناك أعلام إيرانية صغيرة عند زوايا مكتب الاستعلامات، وعلى كل زبون أن يدفع 350 ألف دينار عراقي (300 دولار أمريكي) مقابل المرور، رغم ذلك، لا يمكنه الدخول إلى (الطبيب) المُفترض، إلا بعد أربع أو خمس ساعات من الانتظار، وعلى بعد سنتيمترات من غرفة المقابلة يقف رجال مسلحون، مهمتهم حماية صاحب المركز".
تقول زينب إن قصتها بدأت بعد أن تزوجت جارها قبل قرابة 5 أعوام، لتعيش أسعد أيام حياتها في ظل وجود تفاهم وانسجام شديدين مع زوجها، إلا أن "عملاً" دُبّر لها عند أحد السحرة، جعل زوجها طريح الفراش فتحولت حياتها إلى جحيم.
وتتحدث زينب بغصَّة شديدة عن تجربتها المريرة مع السحر، وتقول إن "علاقتها بزوجها وصلت إلى طريق مسدود بعد تزايد المشكلات بينهما حتى على أبسط الأمور، ليتطور الأمر إلى حد الشعور بعدم الرغبة في دخولها غرفة نومها، فضلاً عن آلام مستمرة في رأسها؛ الأمر الذي أدى في النهاية إلى طلاقها".
وبعد استنفادها جميع الحلول، تقول زينب: "نصحتني امرأة من أقربائي بالذهاب إلى أحد المتخصصين بأمور السحر، وهو رجلٌ اسمه سيد مصلح ماريني، إيراني يتحدث الفصحى فقط، ويرافقه رجل كبير في السن يترجم للزبائن بعض الجمل الفارسية".
تحكي زينب قصتها لـ"عربي بوست": "سألني ماريني عن تفاصيل حياتي، وطلب مني أن أعود إليه بعد 17 يوماً، وقد عدت إليه بعد هذه المدة، فطلب مني أن أقيم معه علاقة جنسية في الغرفة التالية بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً؛ لكي يكشف عني السحر! لكنني رفضت، فهددني بنشر قصتي واسمي بين أهالي منطقتي، وابتزني إذا لم أقبل طلبه فسيقتل والديَّ بالسم عن طريق السحر، لذلك أرغمني أن أدفع مبلغ 5000$ كي يتركني، وقد اضطررت إلى بيع كل الذهب لدي وهاتفي، واقترضت من إحدى صديقاتي ودفعت له".
التجأت زينب في الأخير إلى السلطات الرسمية، لتقدم شكاية بإحدى قريباتها التي دست لها طلاسم وسط فراشها، وذلك بالتعاون مع مكتب إيراني يطلق عليه "جنة إمام رفسنجاني" للسحر والتنجيم.
وحسب المعلومات التي حصل عليها "عربي بوست" مع مسؤول قسم الرصد الميداني في وزارة الداخلية، فإن "الوزارة لديها معلومات دقيقة عن مكاتب السحر والشعوذة بالعراق، لكنها لا تستطيع تقديم المساعدة بشكل مسلح، لأنه يوجد أكثر من 180 مكتباً إيرانياً مرخصاً لها منذ 6 أعوام، ومسيّروها إيرانيون تحميهم سفارتهم بشكل رسمي".
شعوذة تحت عِلم الحكومة
كان القانون العراقي يفرض عقوبات مشددة على ممارسي أعمال الشعوذة، تتراوح بين السجن 15 عاماً وقد تصل إلى الإعدام، وأشهر حكم قضائي تم عام 1987 بإعدام ساحر علناً شرقي بغداد؛ لتسببه بوفاة مواطن وسرقة مبالغ مالية، لكن اليوم القانون غير واضح بهذا الشأن وحتى لو وُجد فلا تطبيق له.
اليوم إذا مررت بشارع 14 رمضان بحي المنصور، وسط بغداد، فستجد ﻻفتة كبيرة يظهر فيها رجل في العقد الرابع من العمر يرتدي بذلة سوداء وذو لحية خفيفة يدعى أبو أحمد الكاظمي، مع عدد من أرقام الهواتف التي بإمكان الزبون الاتصال عبرها، وفيها أيضاً عرض قدرات الرجل على "علاج داء السكري والسرطان والضعف الجنسي، وردّ المطلقة لزوجها، وجلب الحبيب، وفك السحر الأسود، والتنجيم وفك السحر وجلب الحظ".
تواصل "عربي بوست " مع تاجر مقرب من مكتب الرجل والذي كشف أن "أبو أحمد الكاظمي أطلق على نفسه لقب الدكتور رغم أنه لم يكمل دراسته المتوسطة، وتعلم الحرفة من ساحر مغربي زار العراق قبل سنوات، بدعوة من أحد السياسيين، بسبب مرض ابنه".
وأضاف المتحدث أن "الساحر يتقاضى عن عمله أموالاً طائلة ويأتيه كبار شيوخ العشائر من المحافظات الجنوبية، ويدفعون له مبالغ تتراوح بين 5 و20 ألف دولار، ويستعمل في أعمال الشعوذة الكفن والبخور وشَعر البشر وعظام الحيوانات، ويدعو زبائنه لنبش القبور واستخراج أجزاء من أجساد الموتى القدامى".
من جهته قال ضابط شرطة في حديثه مع "عربي بوست"، طالباً عدم الكشف عن اسمه، إن "هناك أكثر من 700 مكتب للسحر والتنجيم وقراءة الكف وتصور المستقبل، والدولة لديها دراية وتعرف مواقع المشعوذين وبيوتهم، لكنها لا تستطيع محاسبتهم، لأن هؤلاء المشعوذين والسحرة يهددون عناصر الأمن بأسماء زعماء في ميليشيات مسلحة تسيطر على أجزاء واسعة من المناطق التي يوجد فيها المشعوذون".
وأضاف المتحدث: "عناصر مسلحة من الميليشيات يركنون سياراتهم بجانب مكاتب المشعوذين ويحمونهم من أي مداهمة من قِبل الشرطة، بل قد وصل الأمر إلى ضرب عناصر من الشرطة بالسكاكين، والأكثر غرابةً من ذلك، عندما نشاهد ضباطاً كباراً في الحكومة يأتون من مدن بعيدة؛ لكي يقابلوا المشعوذين ويطلبوا منهم حل مشاكلهم، ويقدمون للسحرة سيارات فارهة كهدايا مقابل مساعدتهم في الحصول على منصب أو وظيفة رفيعة في الدولة".
ابتزازات المشعوذين للضحايا
وحسب المعلومات التي كشف عنها مسؤول بلجنة الابتزازات الإلكترونية في وزارة الاتصالات العراقية، لـ"عربي بوست"، فإن "الدجالين يعتمدون في عملهم على كتب قديمة ذات أوراقٍ لونها بُني وعليها أكوام من التراب، ويتم اللجوء إلى المخططات والرسومات للقيام بالسحر".
وأضاف المتحدث أن متهمين اثنين يمارسان الشعوذة عبر الإنترنت اعترفا بأنهما "استقبلا طلبات السحر عبر صفحتهما في فيسبوك من زبناء أغلبهم نساء، وكان أغلب الطلبات تتعلق بالقيام بأعمال لحل المشاكل الزوجية وإنجاب الأطفال وتحديد الجنس، وردّ المطلقة، ومنع تعدد الزوجات".
ويذكر المسؤول في لجنة الابتزازات الالكترونية، أن "المتهمين كانا يطلبان من الضحية فتح الكاميرا والتعري بشكل كامل وكتابة بعض الكلمات والعبارات على مناطق حساسة من جسدها، بعدما كانا يحفظان المحادثة، وبعد ذلك اللجوء إلى تهديد الضحية بدفع مبالغ مالية تصل إلى 5 آلاف دولار، أو الانصياع لرغبتهما في ممارسة الجنس معها، وبخلافه ينشران صور الضحية وهي عارية على مواقع التواصل الاجتماعي".
وكشف المتحدث أن "السلطات نصبت كميناً للمتهمَين وإلقاء القبض عليهما، وضبط بعض الرسومات والأوراق التي تحتوي على كتابات تتعلق بأعمال الشعوذة".
نصب بالعلاج الروحاني
افتُتحت مراكز لما يسمى العلاج الروحاني في العراق، وتواظب قناة "الديار" العراقية منذ سنوات على بث برنامج بعنوان "دروب الرجاء"، يقدمه أبو علي الشيباني، الذي يدَّعي "القدرة على علاج الناس على الهواء مباشرة من آثار السحر والجن".
الشيباني ليس وحده؛ بل يتنافس معه شخص آخر يسمى أحمد الوائلي الذي يلقبه العراقيون بـ"أبو ثقب"، والذي يدعي "علاج وإخراج السحر من أجساد الناس، يظهر في قنوات عراقية مختلفة؛ كي يشرح كيفية تعامله مع الجن الصالح".
يقول زياد الرحباني، باحث استقصائي يعمل في منظمة حقوقية بالعاصمة بغداد، لـ"عربي بوست": "البرامج التلفزيونية تجني أموالاً طائلة من مشاهدات برامج أبو علي الشيباني وأحمد الوائلي، وتستخدمهما القنوات لزيادة المتابعين وإثارة الجدل؛ ما يؤدي إلى كسب هذه القنوات عشرات الآلاف من الدولارات شهرياً، من قبل الإعلانات التي تظهر في فواصل البرامج".
ويؤكد الرحباني أن "هذه القنوات تنتهك خصوصية المجتمع، وتُعرض الأرواح للخطر، وتستغل المشاهدين وتؤثر على بنية الأسرة، فكم من المتأثرين من النساء خصوصاً، طُلِّقن أو تعرضن للاغتصاب، وقد وردتنا 83 جريمة شرف بمحافظة الديوانية في عام 2019 إلى منتصف 2020، وذلك بسبب حالات التحرش من قبل المشعوذين الذين يشوهون القرآن الكريم ويكذبون باسم الدعاء والتقوى على القنوات، لكنهم دجّالون واكتشفنا ذلك مرات عديدة، عندما أرسلنا موظفات في منظمتنا بصفة وهمية على هيئة ربة بيت وأخرى فلاحة".
مشعوذون تحت حماية سياسيين
احتلت المكاتب العلنية للسحرة، وسط بغداد دون رقيب، وأصبحت تشكل خطراً كبيراً على المجتمع، كما أنها تساهم في أزمات اجتماعية، الأمر الذي أكده خالد المحمدي، قاضي تحقيق بمحكمة اتحادية بالعاصمة بغداد، في حديثه مع "عربي بوست".
وأضاف المتحدث: "ما ساهم في انتشار وتمدد مكاتب السحر والشعوذة مؤخراً، هو أن مسؤولين وسياسيين كباراً باتوا يقصدون هذه المكاتب؛ حفاظاً على مناصبهم في الفترات التي تسبق الانتخابات وتوزيع المناصب الوزارية وغيرها، وهي معلومات كشفها بعض الدجالين أثناء استجوابهم".
وقال القاضي العراقي: "عبر شبكات إلكترونية وفضائيات استطاع مشعوذون ودجالون الدخول إلى البيوت لجذب الناس، وذلك بدعم من جهات تقف وراءها عصابات تابعة لأحزاب وتيارات سياسية، تدير أيضاً حانات الخمور وأندية القمار، والأحزاب الإسلامية التي تسيطر على أجهزة الأمن، لا تستطيع مواجهة المشعوذين".
من جهته يرى أستاذ علم الاجتماع الديني فبجامعة الكوفة، الدكتور فاضل الصجري، في حديثه مع "عربي بوست"، أن "انتشار ظاهرة الشعوذة بهذا الشكل انعكاس للتخلف الذي أصبح يعانيه المجتمع العراقي، ومن الطبيعي انتشار الخرافة وسط الفقر الاقتصادي والثقافي والحضاري".
وأضاف المتحدث: "كلما قلّ وعي الناس التجأوا إلى السحر، لذلك نجد الحكومة ساكتة عن هذه الظاهرة، لأنه ليست لديها حلول، وتعاني من عجز اقتصادي وفساد مالي وفوضى سياسية، فتحاول الصمت عن ممارسات والشعوذة لشغل الناس بها".
ووفقاً للصجري، "بحسب البحوث التي أجريناها والمعلومات التي حصلنا عليها، فإن الأحزاب الدينية الشيعية هي من تحمي مكاتب السحر والشعوذة، لذلك نجد الكم الكبير من المكاتب في المحافظات الجنوبية، وارتفاع عدد المنجمين والشيوخ يحميهم رجال أمن تابعون لأحزاب سياسية".
ملاحقة من الأجهزة الأمنية
كشفت تقارير وزارة الداخلية العراقية، أن نحو ثلاثة آلاف شخص يعملون بمجال الشعوذة والسحر والتنجيم، وينتشرون في مدن عراقية مختلفة، ويتقاضون مبالغ كبيرة من زبائنهم، بالتزامن مع رواج بيع الأحجار والتمائم بين شرائح مختلفة من العراقيين.
وكشف ناظم الحسني، أحد المستشارين القانونيين في وزارة الداخلية، لـ"عربي بوست"، أن "فرقاً أمنية من الداخلية تسعى بواسطة أجهزتها المختصة، إلى ملاحقة أبرز الأشخاص المتورطين في السحر واستغلال الناس، وقد تمكنت من إغلاق بعض مراكزهم وبيوتهم".
وأضاف المتحدث أن "عمل هؤلاء السحرة والمشعوذين والمتعاونين معهم يقع ضمن قانون النصب والاحتيال، حيث جاء في المادة 456 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، أن ممارسة ذلك جريمة نصب واحتيال، لكن المشكلة لم تعد تتوقف عند جريمة النصب والاحتيال، بل صارت وسيلة للابتزاز المادي والجسدي، واستخدمت بعض العصابات المنظمة غطاء السحر والشعوذة لاستدراج الناس، خصوصاً النساء، لتنفيذ جرائم أخرى مثل المتاجرة بالنساء أو الأعضاء".
ويشير المستشار القانوني في وزارة الداخلية إلى أن هناك صعوبة في إلقاء القبض على هؤلاء السحرة، إذ غالباً ما يوجدون في أماكن لا يطالها القانون بسهولة، ومحمية بقوانين عرفية وتقاليد مجتمعية، قائلاً: "حتى لو تم القبض على السحرة أو المشعوذين فإنهم يستطيعون التحايل على تنفيذ القانون والإفلات من العقاب، بسبب الفساد المالي والإداري، فكثير من الناس يؤمنون بضرورة وجودهم وحماية معتقداتهم وأفكارهم".
من جهته قال المتحدث باسم وزارة الداخلية، سعد معن، لـ"عربي بوست": "إن الوزارة لا دخل لها في متابعة عمل مراكز السحر والشعوذة تلك، وإنما دورها تنفيذي، والدور الرقابي تتحمله وزارة الصحة العراقية، عبر مكتب المفتش العام فيها".
وأضاف المتحدث أن "ممارسة السحر والشعوذة تدخل في سياق السرقة واستغلال المواطنين، لكن لا يمكن أن نقبض على من يمارسها إلا بناءً على بلاغ أو شكوى من مواطن، يؤكد تعرضه لاستغلال أو نصب واحتيال، وهو ما لا يحدث إلا نادراً، ما يشجعهم على مواصلة ممارساتهم الشاذة".