مجموعة منسك تتكون من فلاديمير بوتين روسيا وترامب الولايات المتحدة وماكرون فرنسا، وهي مكلفة من الأمم المتحدة بالتوسط لحل أزمة إقليم ناغورني قره باغ الأذربيجاني الذي تحتله أرمينيا، فماذا يعني قرار البرلمان الفرنسي اعتبار الإقليم جمهورية مستقلة؟
هل ينفذ ماكرون قرار البرلمان؟
أمس الأربعاء 25 نوفمبر/تشرين الثاني، وافق مجلس الشيوخ الفرنسي (الغرفة الثانية بالبرلمان) على مشروع قرار يحث الحكومة للاعتراف بما يسمى "جمهورية قره باغ"، وأفاد مراسل الأناضول، بقبول مشروع القرار، ذي القيمة الرمزية، بعد أن وافق عليه 305 أعضاء (من إجمالي 343) بمجلس الشيوخ، فيما رفضه عضو واحد فقط، وامتنع 30 عضواً آخر عن التصويت، فيما لم يتضح موقف باقي الأعضاء.
وينص القرار على ضرورة تقديم مساعدات إنسانية للأرمن والمطالبة بإجراء تحقيق دولي في "جرائم الحرب" التي ارتكبت بإقليم "قره باغ"، كما ينص على وجوب حماية التراث الديني والثقافي للأرمن، وضرورة مساعدة الأشخاص الذين شرّدوا في "قره باغ" على العودة إلى ديارهم، ودعا القرار الحكومة الفرنسية إلى الاعتراف بما يسمى "جمهورية قره باغ".
وتم تمرير القرار دون التطرق إلى اتفاق وقف إطلاق النار الأخير الموقع بين أذربيجان وأرمينيا وروسيا، والذي بموجبه تسلم يريفان الأراضي التي تحتلها إلى باكو.
أذربيجان وصفت القرار بالاستفزازي
ولم يتأخر رد أذربيجان على القرار الفرنسي، واعتبرته "قراراً استفزازياً ومتحيزاً"، وذلك في بيان صادر عن وزارة الخارجية الأذربيجانية، ذكر أن القرار المزعوم تم اقتراحه من قبل أعضاء مجلس الشيوخ المؤيدين لأرمينيا، وأشار إلى أن "قبول مثل هذا القرار من قبل دولة تتولى دور الوساطة يثير شكوكاً جدية حول حيادها. كما أن القرار يقوّض سُمعة فرنسا كوسيط عادل في المجتمع الأذربيجاني".
بيان الخارجية شدد على أن "قرار مجلس الشيوخ في الوقت نفسه ليست له أية قوة قانونية"، وأكد أن "الأرمن في فرنسا استغلوا قضية (قره باغ) قبل الانتخابات"، مشيراً إلى أن باريس تدعم وحدة أراضي أذربيجان.
البيان تابع قائلاً: "بدلاً من اتخاذ قرارات منحازة، على مجلس الشيوخ الفرنسي أن ينخرط في أنشطة تخدم السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة، ما يساعد على تحقق تنمية مستدامة بالمنطقة، ويخدم المصالح الفرنسية".
كيف بدأت أزمة ناغورني قره باغ؟
توقيت القرار الذي تبناه مجلس الشيوخ الفرنسي يثير التساؤلات بشأن موقف فرنسا من أزمة دولية تتولى فيها دور الوسيط منذ نحو ثلاثة عقود دون إحراز تقدم ملموس نحو حل جذري يتمثل في تنفيذ القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والتي تنص على أن إقليم قره باغ أذربيجاني تحتله أرمينيا.
والقصة تعود إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما بدأ تفكك الاتحاد السوفييتي الذي كانت أرمينيا وأذربيجان من جمهورياته، وفي عام 1990 استولت قوات أرمينيا على إقليم ناغورني قره باغ وبعض الأراضي المحيطة به داخل أراضي أذربيجان وذلك بدعم من جنرالات الجيش السوفييتي وقتها، وتم طرد عشرات الآلاف من سكان الإقليم المحتل وتهجيرهم والاستيلاء على ممتلكاتهم.
كانت الحرب بين البلدين والكارثة الإنسانية في إقليم ناغورني قره باغ أحد أبرز الملفات على الساحة الدولية في تلك الفترة واتخذ مجلس الأمن الدولي أربع قرارات في الفترة من 1992 وحتى 1994 تنص جميعاً على ضرورة انسحاب أرمينيا من الإقليم الأذربيجاني وعودة المهجرين إلى قراهم ومدنهم، وتم تشكيل مجموعة منسك التي تضم روسيا وفرنسا والولايات المتحدة لتولي حل النزاع وتنفيذ قرارات مجلس الأمن.
وظلت أرمينيا متمسكة بفرض الأمر الواقع بالقوة في قره باغ وهو ما أدى لاستمرار الاحتلال طوال ما يقرب من ثلاثة عقود، اندلعت خلالها الاشتباكات بين الطرفين وأدت لخسائر كبيرة في صفوف المدنيين دون أن تتغير الأوضاع على الأرض، حتى بدأت الجولة الأخيرة من تلك الاشتباكات في 27 سبتمبر/أيلول الماضي واستمرت حتى 10 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري حينما أجبرت انتصارات أذربيجان أرمينيا على الاستسلام والتوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار بإشراف روسي.
ماكرون والعداء لتركيا
صحيح أن الاتفاق الذي رعته روسيا لم يكن لتوافق عليه أرمينيا لولا الانتصارات العسكرية الساحقة التي حققها الجيش الأذربيجاني، لكن في نهاية الأمر إقليم ناغورني قره باغ أرض محتلة وعودته إلى أذربيجان يعتبر تنفيذاً للقرارات الدولية، وهو ما يمكن اعتباره لإنجازاً للدول الوسيطة أو مجموعة منسك (روسيا وفرنسا والولايات المتحدة)، وهذه النقطة تحديداً تجعل قرار البرلمان الفرنسي الأخير بشأن اعتبار قره باغ "جمهورية مستقلة" مثيراً للجدل على أقل تقدير، فأرمينيا نفسها كانت تعتبر الإقليم المحتل جزءاً من أراضيها وليس جمهورية مستقلة.
وأصبح واضحاً تماماً أن الموقف الفرنسي، ليس فقط في قضية قره باغ ولكن في شرق المتوسط أو ليبيا أو سوريا وغيرها من الملفات، يأخذ بعداً واحداً فقط في الاعتبار وهو العداء لتركيا، حيث إن الدعم التركي لأذربيجان في الجولة الحاسمة من معركة تحرير الإقليم المحتل لعب دوراً مهماً في تحقيق الانتصار.
ويرى كثير من المحللين أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يرى سوى عدائه نحو تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان ويبني مواقف السياسة الخارجية لباريس من هذ المنطلق دون أي اعتبارات أخرى.
فمنذ اندلاع الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في هذه الجولة، كانت هناك أكثر من محاولة لوقف إطلاق النار برعاية مجموعة مينسك (فرنسا وروسيا والولايات المتحدة) والتي تشكلت منذ عام 1994، لكنها جميعاً باءت بالفشل بسبب إصرار أرمينيا على عدم الانسحاب من إقليم ناغورني قره باغ الأذربيجاني، ومع اشتداد المعارك قرب مدينة شوشة والانتصارات التي حققتها القوات الأذربيجانية، تكثّفت الجهود الدبلوماسية وتحدّث بوتين مع نظيريه أردوغان وماكرون قبل يومين من التوصل لاتفاق الهدنة.
وبحسب ما قاله زاكاري وليتين المحلل في يوروآسيا جروب لصحيفة فايننشيال تايمز البريطانية: "تفاصيل اتفاق الهدنة يشير بوضوح إلى أن حرب الأسابيع الستة انتهت بانتصار عسكري ساحق لأذربيجان. الاتفاق يجبر أرمينيا على الانسحاب وكذلك على إنهاء أي وضع خاص لناجورني قره باغ وليس فقط التخلي عن الاعتراف بالإقليم كأرض مستقلة".
فماذا يريد ماكرون إذن من القرار الذي أصدره مجلس الشيوخ الفرنسي باعتبار قره باغ جمهورية مستقلة؟ إجابة هذا السؤال، بحسب كثير من المراقبين، تتلخص في رغبة ماكرون في مواصلة تمسّكه بدور ما في أزمة قره باغ، رغم أن قرار البرلمان الفرنسي لا يوجد له "وزن قانوني"، بحسب وصف الخارجية الأذربيجانية.