في مظروف أبيض، وضع محمد الصباغ كومة من المستندات التي قدمها لمحكمة إسرائيلية للاستئناف على قرار طرده من منزله في منطقة كرم الجاعوني بالقدس الشرقية المحتلة كونه من الفلسطينيين المتواجدين في القدس.
يعيش اللاجئ البالغ من العمر 71 عاماً في منزله بحي الشيخ جراح منذ أكثر من 64 عاماً، وسكن المنزل لأول مرة في عام 1956، بعد ثمانية أعوام من طرده مع عائلته من يافا أثناء النكبة الفلسطينية في 1948.
وبعد مرور 72 عاماً على النكبة، عرف الصباغ أنه سيُطرد من منزله مرة أخرى حين تلقى أمراً بإخلاء المنزل في بداية 2019.
ومع أن محاميه تمكنوا من تجميد القرار حتى سبتمبر/أيلول الماضي، يظل الصباغ و31 من أفراد عائلته مهددين بالتشريد بحلول الشتاء، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
معركة قانونية طويلة
في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، تلقى الصباغ أمراً جديداً من محكمة الصلح الإسرائيلية يعطيه وأسرته مهلة حتى 24 نوفمبر/تشرين الثاني، لمغادرة المنزل لإعطائه للمستوطنين الإسرائيليين.
ومع أنه تلقى أمر الإخلاء في 2019، فقد كان يعرف منذ أعوام أنه سيُطرد من منزله يوماً ما، لأن حي الشيخ جراح الذي يقيم فيه مجاور للمسجد الأقصى والمدينة القديمة.
وفقاً لعائلة الصباغ، تعمل السلطات الإسرائيلية بانتظام لطرد الفلسطينيين من الأحياء المحيطة بالمدينة القديمة، ليحل محلهم مستوطنون إسرائيليون.
وقال الصباغ لموقع ميدل إيست آي، يوم الإثنين 16 نوفمبر/تشرين الثاني: "أعرف أن المحكمة الإسرائيلية لن تحكم بالعدل. لن تقف في صفي في مواجهة المستوطنين الإسرائيليين. لكنني سأقاتل حتى الرمق الأخير لأحمي منزلي الذي نشأت فيه، والملاذ الآمن الوحيد لي ولعائلتي".
استند أمر المحكمة إلى مزاعم اتحادات المستوطنين بأن العائلات الفلسطينية التي تعيش في الشيخ جراح "سرقت الأرض" أثناء الحكم الفلسطيني للقدس، من عام 1948 وحتى عام 1967.
وفقاً للصباغ، طردت السلطات الإسرائيلية أول عائلة من حي الشيخ جراح للمرة الأولى في 2008، وبقيت العائلة دون مأوى لوقتٍ طويل ثم غادرت الحي واستأجرت منزلاً آخر.
منذ ذلك الحين، تواصل الصباغ وسكان آخرون بالحي مع منظمات حقوق الإنسان والمحاكم المحلية من أجل الاستئناف ضد عدد من أوامر الإخلاء.
سامي إرشيد، محامي العائلات الفلسطينية في كرم الجاعوني، قال إن العائلات التي تعيش هناك من اللاجئين.
يقول إرشيد: "بعد النكبة الفلسطينية، تعاونت حكومة الأردن مع الأونروا من أجل توطين اللاجئين الفلسطينيين في الخمسينات مقابل تخليهم عن حق اللجوء. وتم بناء منازل لـ28 عائلة، وتعاقد الأردن معهم على دفع الإيجار لمدة ثلاثة أعوام، وبعدها ستصبح المنازل ملكاً لهم".
لكن بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس في 1967، سجلت لجنتان يهوديتان ملكيتهما لـ 1.8 هكتار عند دائرة الأراضي في 1972، دون إخطار السكان، وفقاً لإرشيد.
وأكمل: "ثم بدأت اللجنتان في مطالبة السكان بإخلاء منازلهم، زاعمة أنهم لا يحق لهم امتلاكها".
ورفعت عائلتا الصباغ وحماد دعوى قضائية مطالبة المحكمة بالنظر في ملكيتهم للأرض، زاعمين أن "تسجيل المستوطنين ملكيتهم لهذه الأرض تلفيق وتزوير" وأن العائلات من حقها امتلاك الأرض والمنازل بناءً على اتفاقيات مع الحكومة الأردنية.
لكن المحكمة رفضت سماع القضية وزعمت أن السكان كان عليهم التواصل مع المحكمة قبل 15 عاماً.
من هنا إلى قبري
وقالت زوجة شقيق الصباغ، هداية، البالغة من العمر 62 عاماً، إنها عاجزة عن النوم منذ تلقي أمر الإخلاء، لأنها تخشى أن تقتحم القوات الإسرائيلية منزلها وتطردها.
وقالت لميدل إيست آي: "أحاول النوم كل ليلة، لكني لا أنام أكثر من ساعتين. أنا خائفة دوماً من أن يقتحم المستوطنون الإسرائيليون والقوات الخاصة منزلي. سأقول لهم حينها اقتلوني وخذوني من هنا إلى قبري، لأنني لن يطيب لي العيش في أي مكان آخر".
وإلى جوار عائشة الصباح تعيش عائلة سكافي، التي تلقت أمراً بالإخلاء مع ثلاث عائلات أخرى، ودفع غرامة قدرها 70 ألف شيكل (20,710 دولارات أمريكية) لخسارة القضية المرفوعة لاستئناف القرار.
وقال عبدالله سكافي لـ"ميدل إيست آي" إن مستوطنين إسرائيليين يعيشون في المنزل المجاور له، الذي أُخلي من ساكنيه، ويضايقونه بحفلاتٍ صاخبة في وقتٍ متأخر من الليل، وطلب الشرطة دون أسباب.
استأنف سكافي أمر الإخلاء هو وجيرانه الفلسطينيون، وقرر أن السلطات الإسرائيلية إن طردته هو وعائلته بالقوة، فسيحتمي وأسرته بمقبرة باب الرحمة في القدس، و"سننام على قبرينا حتى نموت وندفن".
عودة إلى الحياة المشردة
وتلقى عارف حماد، جار سكافي، تهديدات هو الآخر بالإخلاء منذ السبعينات بعد أن رفع المستوطنون قضية ضده وضد عائلات الحسيني وغوشة والأيوبي، زاعمين أنهم سرقوا الأرض أثناء الحكم الأردني للقدس.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، تلقت عائلة حماد والعديد من العائلات الأخرى أوامر بإخلاء منازلهم ليسكنها المستوطنون. وأمهلتهم محكمة الصلح عاماً لتنفيذ الأمر، وغرمت كل عائلة من العائلات 8,875 دولاراً أمريكياً.
عائلة حماد عائلة لاجئة هي الأخرى، من يافا المحتلة، طُردوا من منزلهم في 1948 وعاشوا لأعوام في مرأب سيارات.
لكن حين سمعت العائلة ببناء وحدات سكنية لـ28 عائلة فلسطينية مقابل التخلي عن وثيقة اللجوء التابعة للأونروا، ما سيحرمهم من حقوقهم باعتبارهم لاجئين، وافق أفرادها بحثاً عن الأمن، وسكنوا المنزل في 1956.
وقال حماد لميدل إيست آي: "لقد تخلينا عن حقنا في الطعام والتعليم والصحة، وخسرنا بطاقة اللجوء مقابل هذا المنزل، واليوم نخسره. ظننا أن دفء المنزل سيعوضنا عن رحلة اللجوء التي استمرت أعواماً في الشوارع، لكن يبدو أننا سنرجع إلى الحياة المشردة مرة أخرى".
وفي حين سكنت أول عائلة استيطانية منزلاً في الحي في 2008، توجد الآن 12 عائلة إسرائيلية تعيش بالمنطقة.
على سطح المنزل، يشاهد حماد عشرات المستوطنين يؤدون صلوات تلمودية أمام منازلهم، ويتكرر هذا المشهد كل يوم "دون توقف".
ويزعم اليهود المتطرفون وجود ضريح مقدس لشمعون الصديق، مؤسس قبيلة شمعون الإسرائيلية، في قلب منطقة كرم الجاعوني. لكن سكانها يفندون تلك المزاعم، ويقولون إن الضريح لولي مسلم يُدعى سعد الدين حجازي، دُفن فيه قبل 400 عام، وإن "خرائط عثمانية" تثبت حجتهم.
وقال إرشيد، محامي العائلة، لميدل إيست آي، إنه رغم الوقت والمجهود والأموال التي أنفقتها العائلات الفلسطينية في الشيخ جراح، "لن يكون المستقبل جيداً".
وأكمل إرشيد: "لأعوام، ظلت تلك العائلات تستيقظ في انتظار حكم المحكمة ضدهم. إنهم يعيشون حياة خالية تماماً من الاستقرار، ويفكرون في الوقت الذي سيُطردون فيه بالقوة من منازلهم. وهدف إسرائيل واضح: إنشاء حي استيطاني جديد على أنقاض منازلهم".