بُعيد انقلاب الثالث من يوليو/تموز، كانت تركيا أهم الملاذات الآمنة للمعارضة المصرية بعد الموقف المعارض الذي اتخذته أغلب دول العالم من الانقلاب العسكري، لكن مواقف الدول الأوروبية والغربية المترددة، لا سيما بعد الضغط على الاتحاد الإفريقي لإعادة مقعد مصر إلى النظام المنقلب، جعلت المعارضة تفكر ملياً في التحرك والاستقرار في منفاها الاختياري للبعض والإجباري للبعض الآخر.
وكانت المقارنة بين الدول الإفريقية، وهي غير مأمونة لضعف القرار فيها، أو ماليزيا وهي غير مناسبة لارتفاع تكاليف المعيشة فيها من جهة، وتركيا التي أبدت قيادتها السياسية صلابة في موقفها تجاه الأحداث في مصر، من بداية الانقلاب مروراَ بالمذابح الإجرامية التي ارتكبها النظام الانقلابي في مصر. وبشكل شبه متزامن، كانت أحداث "غيزي بارك" في إسطنبول مؤشراً على أن القادم في تركيا يشابه كثيراً ما يحدث في مصر، وأن المخططين يتطابقون، وأن الفاعلين هم هم، وهو لربما أحد الأسباب التي دفعت الإدارة التركية لفتح أبوابها للمعارضة المصرية.
ولم يكن المصريون الوحيدين من فُتحت لهم أبواب تركيا، فقد اتخذ القرار من قبله للمعارضة السورية وبعدها لليمنية والليبية، حتى صارت تركيا ملاذاً آمناً لدعاة الحق والديمقراطية في العالم العربي بل والإسلامي، إذ فُتح الباب لشعوب آسيا الوسطى والشرق الأقصى.
مؤشرات التقارب بين أنقرة والقاهرة
مع ظهور بعض المؤشرات وحديث بعض المواقع الإخبارية عن تقارب بين أنقرة والقاهرة، وإن كانت غير مؤكدة رسمياً حتى الآن، جاء حديث الرئيس التركي عن أهمية إطلاق مصالحات سياسية في المنطقة مع بعض الدول التي وصفها بالصديقة. وكان وزير الخارجية التركي، مولود شاويش أوغلو، قد صرّح من قبل بأن الإدارة التركية ليست لديها مشاكل مع "الدولة المصرية".
ويروّج بعض المواقع الإخبارية بأن هناك تياراً داخل حزب العدالة والتنمية يدفع لإيجاد مساحة مشتركة مع مصر، وإن كان هذا الطرح ليس بجديد وكان يتبناه رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو إبان قيادته للحزب، إلا أن هذا التوجه عاد مرة أخرى للصدارة بعد المعطيات الجديدة في المنطقة، ومنها محاولات التقريب بين قطر والإمارات المحاصرة لها، والذي من المحتمل أن يكون لتركيا دور فيه بما تمثله من فاعل مانع في هذه الأزمة.
الإدارة الأمريكية تريد أن تصفر المشاكل في المنطقة من أجل التفرغ لإيران، لإقناع الشارع العربي بالتوجهات الجديدة في المنطقة وفواعل الصراع بعد عملية التطبيع مع الكيان المحتل في الآونة الأخيرة. ولعل تركيا ترغب في الدخول في هذه المعادلة لحل أزمة شرقي المتوسط لإفشال منتدى غاز شرق المتوسط، وما يمثله من قوة ضاغطة على حلمها في غاز البحر المتوسط كدولة مستحقة في كعكته، ومن ثم إخراج فرنسا وألمانيا وإيطاليا من معادلة الصراع في شرقي المتوسط، وسحب اليونان للتفاوض بأوراق أقل مما تحملها الآن.
لذلك فإن تصريح الرئيس التركي ووزير خارجيته والمتحدث باسم الرئاسة عن علاقات تاريخية، أو أن الشعبين التركي والمصري تربطهما علاقات لا يمكن أن تعكرها خلافات، هو الطرح الذي تأكد من خلال المؤشر المالي والتجارة البينية للدولتين خلال فترة القطيعة.
مخاوف المعارضة المصرية من التقارب التركي- المصري
وتشكل الأنباء أو التصريحات التي تتحدث عن تقارب الإدارة التركية والنظام المصري مخاوف كبيرة للمعارضة المصرية المتخذة من تركيا مستقراً ومنطلقاً. فالمعارضة المصرية استطاعت خلال السنوات السبع الماضية أن ترتب أوضاعها المعيشية والوظيفية – وإلى حد ما التنظيمية – في تركيا، بعد أن سهلت الإدارة التركية الكثير من سبل الحياة المعيشية والإدارية الحكومية للمعارضة التي قصدت أرض محمد الفاتح، ومن ثم استفادت المعارضة المصرية مما استفادت منه باقي الجنسيات.
ورتبت المعارضة أوضاع عملها وتعليم أبنائها في تلك البلاد، رغم صعوبة اللغة وفرق النظم البيروقراطية، ما يصعب معه الخروج إلى ملاذ آخر، لا سيما من كان له أبناء في التعليم من قيادات المعارضة أو قواعدها، فنظام التعليم في تركيا يصعب معه التحول السريع منه إلى نظام آخر. وعلى مستوى الاستثمارات فخروج الاستثمارات، ولا سيما الأهم منها والمتمثل في إحدى أذرع المعارضة المهمة لمواجهة النظام الانقلابي، وهو الإعلام، يعد من المستحيلات ويمثل ضربة كبيرة لتلك الاستثمارات، ليس فقط لما ستخسره تلك القنوات من أصول، بل ولصعوبة أن يجد إعلام المعارضة بيئة حاضنة وحرة مثل تلك التي تعمل بها في تركيا؛ من دون تدخل من الحكومة أو أجهزتها الإدارية أو الأمنية.
هل بات على المعارضة المصرية أن تحمل حقائبها وترحل عن تركيا؟
في ظل هذه المخاوف يطرح سؤال ويتكرر كلما فارت حمم بركان عودة العلاقات بين تركيا والنظام في مصر، وتخشى المعارضة أن يتطاير رذاذ هذه الحمم عليها، ومن ثم دوماً يطرح سؤال: هل بات على المعارضة المصرية أن تحمل حقائبها وترحل عن تركيا؟ وهو السؤال الذي تسأله القيادات قبل القواعد من ضعفاء المعارضة الذين بالكاد يحصلون على قوت يومهم. فقيادة المعارضة ما زال شاخصاً أمام ناظريها ذلك التقارب الذي كاد أن يتم بين قطر التي كانت أحد ملاذات المعارضة ودولة الإمارات برعاية سعودية منذ ما يقارب الخمس سنوات، والتي اضطر على إثرها أن تخرج العديد من قيادات المعارضة من الدوحة لتستقر في إسطنبول في اتفاق جنتلمان بين الدوحة وأنقرة.
فمخاوف المعارضة من تكرار الأمر مجدداً بين تركيا والنظام في مصر تجعلها دوماً في حالة ترقب. ولعل التقارب الخليجي- الخليجي في ظل التحولات الإقليمية ودخول تركيا على الخط كفاعل رئيسي في إنهاء هذه الأزمة قد يزيد مخاوف المعارضة المصرية أكثر.
وهو ما استشعره النظام في مصر، وبدأ يلعب عليه من خلال رسائل مرسلة عبر إعلامه يتناقلها المرجفون لتستقر في قلب قواعد المعارضة وقيادتها، فتزيدهم خوفاً على خوف، في واحدة من الحروب النفسية القذرة التي اعتادت الأنظمة الدكتاتورية لعبها مع معارضيها.
مع ذلك، فإن الإدارة التركية ليست من السذاجة بمكان أن تترك ورقة من أوراق الضغط التي يمكن أن تلعب بها وقت اللزوم، كما أن الموقف المبادئي الذي يعد من ثوابت السياسة التركية من الانقلابات العسكرية يجعل من المستبعد تسليم أو إبعاد المعارضة المصرية عن تركيا.
خطط المعارضة لمواجهة احتمال التقارب
ورغم تلك المبادئ وهذه الأسس التي تحدثنا عنها في السياسة التركية، فإن السياسة متغيرة ولا تعرف الثبات، فمن ثم على قادة المعارضة أن يضعوا البدائل ويخططوا للمستقبل، ومن واجبهم طرح تلك البدائل على قواعدهم، كما عليهم ترتيب هذه البدائل من الآن، فالمنطقة تدخل على منعطف خطير ستتبدل فيه المواقف وتتغير فيه المواقع ويعاد تشكيل الأحلاف.
فالمنطق السوي في القيادة يستوجب على قيادة المعارضة استبانة المواقف وقراءة المشهد ومن ثم وضع الرؤية، ثم وضع المهام التي عليها تنفيذها من أجل الخروج من الأزمة إذا ما وقعت، وكيف سيكون تنفيذها، وتحليل نقاط القوة والضعف في هذه الرؤية والمهمة، ومن ثم دراسة الفرص والمخاطر، مع وضع أهداف قريبة وأهداف بعيدة المدى من هذه الخطة، حتى لا تتكرر الاختيارات من غير دراسة واقعية للاحتمالات، فالرائد لا يكذب أهله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.