منذ اعتماد "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست" التعريف الجديد لمعاداة السامية، يواجه الباحثون الأكاديميون والنشطاء خطراً داهماً عند أي بادرة انتقاد يوجهونها لإسرائيل، فأين المفر؟
موقع The Conversation الأمريكي تناول القصة في تقرير بعنوان: "انتقاد إسرائيل ليس معاداة للسامية، إنه حرية أكاديمية"، ألقى الضوء على التعريف الجديد لمعاداة السامية وتداعياته الخطيرة على حرية التعبير والبحث الأكاديمي.
جدل كبير
ثار جدل كبير هذا الصيف حول تعيين فالنتينا أزاروفا مديرةً للبرنامج الدولي لحقوق الإنسان التابع لكلية القانون بجامعة تورنتو الكندية، واتهم بعض أعضاء هيئة التدريس عميدَ الكلية بإلغاء عرض العمل المقدم لأزاروفا لأن شخصيات عامة أبدت عدم ارتياحها لانتقاد أزاروفا الأكاديمي لسجل إسرائيل في مجال حقوق الإنسان.
جاءت هذه الواقعة لتفاقم قلق الباحثين والأكاديميين الذين يجرون أبحاثاً حول فلسطين وإسرائيل. إذ يرى كثيرون أنها جزء من اتجاه متنامٍ ينزع إلى المساواة بين انتقاد سياسات الدولة الإسرائيلية ومعاداة السامية.
أما على الصعيد العالمي بوجه عام، فإن العلماء الذين ينتقدون إسرائيل يواجهون معركة لا تنفك تشتد وطأتها لحماية حريتهم الأكاديمية.
إعادة تعريف معاداة السامية
في القلب من هذه القضية، يكمن التعريف الجديد لمعاداة السامية الذي جاء به "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" (IHRA). وأنصار التعريف الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست هم جزء مما ينظر إليه بعض المتابعين على أنه حركة جديدة للتصدي لمعاداة السامية تسعى إلى وصم انتقاد إسرائيل بأنه معاد للسامية.
ومع ذلك، وإن كان التصدي لمعاداة السامية أمراً ضرورياً لا يكاد يُختلف عليه، فإن النقاد الكنديين للتعريف الذي وضعه تحالف ذكرى الهولوكوست يجادلون بأن الخطاب الجديد الذي يُروج له التحالف لا يقتصر تأثيره على معاداة السامية، بل ينحو إلى "إخماد أي تعبير سياسي عن انتقاد إسرائيل، وكذلك أي دعم لحقوق الفلسطينيين".
ويذهب النقاد إلى أن تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" لمعاداة السامية تعريف غامض، فهو يقصر عن ربط معاداة السامية بأشكال أخرى من العنصرية، كما يبدو عازماً على إسكات منتقدي إسرائيل أكثر من وقف التهديدات المتعلقة بمعاداة السامية، خاصة الصادرة عن اليمين المتطرف المؤمن بسيادة العرق الأبيض.
لذلك، حذرت سلسلة من الرسائل المفتوحة وبيانات لعلماء من تبني هذا التعريف، وشمل ذلك أكاديميين من كندا والمملكة المتحدة وإسرائيل نفسها.
غير أن المعضلة الأساسية في تعريف التحالف الدولي لمعاداة السامية لا تتعلق في الأساس بهذا التعريف المختصر المكون من 38 كلمة، بل بالأمثلة التوضيحية الأحد عشر التي يوردها كنماذج لمعاداة السامية، إذ إن سبعة من هذه الأمثلة تساوي ما بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية، واثنين منها يشيران إلى إسرائيل دون ذكر اليهود من الأصل، ومن ثم، فإن ما يقوله النقاد هو أن إسرائيل يجب أن تكون قابلة للانتقادات نفسها التي توجه إلى الدول الأخرى.
وعلى هذا النحو ينتقد كينيث ستيرن، أحد الذين وضعوا المسودات الأصلية لتعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" التعريفَ الجديد بالقول إن الخطاب الجديد للتعريف ينزع إلى "تسليح" التعريفات الأصلية لمعاداة السامية.
العلماء يواجهون مضايقات مع أي بادرة انتقاد
في وقت سابق من هذا العام، في ألمانيا حيث اعتُمد تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" تعريفاً رسمياً وتبنت السلطات الرسمية أمثلته ونماذجه التوضيحية على مستوى البلاد، اتُّهم الباحث المعروف أشيل مبمبي (الذي يُدّرس حالياً في جامعة ويتواترسراند في جوهانسبرغ) بالعنصرية ومعاداة السامية من قبل شخصيات ومؤسسات عامة بسبب دعمه لحركة مقاطعة إسرائيل "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS)، وهي حركة يقودها فلسطينيون من أجل المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة للفلسطينيين.
وعلى المنوال ذاته، في الولايات المتحدة، حيث اعتمدت العديد من الولايات القضائية تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" عملياً، شرعت العديد من المؤسسات الأكاديمية بالفعل في فتح تحقيقات بخصوص اتهامات مزعومة بمعاداة السامية، وشمل ذلك: جامعة روتجرز وجامعة ديوك وجامعة نورث كارولينا وكلية ويليامز، مع تحقيق آخر محتمل في جامعة نيويورك.
وفي كل حالة من هذه الحالات، كان "الخطاب الذي ينطوي على معاداة للسامية" قيد التحقيق هو، في حقيقة الأمر، عبارة عن انتقاد لإسرائيل.
وعلى مستوى آخر، تأتي المملكة المتحدة، حيث تواجه الجامعات فيها تقليصاً في التمويل الموجه إليها إذا لم تعتمد التعريف الذي وضعه "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست". وهكذا، شهدت تلك الجامعات وقائع إلغاءٍ لفعاليات، وجزاءات لأعضاء هيئات تدريسها، وطردٍ للطلاب الذين ينتقدون إسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل مواقع الويب التي يديرها طلاب أو أكاديميون من الاتجاه المحافظ الجديد على مراقبة أنشطة الحرم الجامعي والتحرك جماعياً بغرض الشيطنة والترهيب والتضييق على الأكاديميين الذين يدعمون القضية الفلسطينية أو يؤيدون حركة المقاطعة أو ينتقدون سياسات إسرائيل. وباتت هذه الهجمات الموجَّهة لها تأثير يبعث الخوف في الفصول الدراسية والبحوث وسياسات الحرم الجامعي بوجه عام.
المجتمع الأكاديمي الكندي
في الجامعات الكندية، تبنَّت الاتحادات الطلابية في جامعة رايرسون وجامعة ماكجيل التعريفَ الذي وضعه الاتحاد لمعاداة السامية ضمن سياساتها المناهضة للتمييز في الحرم الجامعي وسياساته، والأرجح أن ذلك سيتيح لهم الحيلولة دون وصول منتقدي إسرائيل إلى موارد الحرم الجامعي أو انتفاعهم بها.
وهكذا، عندما تناولت إحدى الندوات التي عقدت في جامعة وينيبيغ مؤخراً بالتركيز قرارَ إدارة ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أدانت إدارة الجامعة، مستشهدةً بتعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست"، الندوةَ وأعلنت أن بعض البيانات التي قيلت في المؤتمر تنطوي على مخالفة لسياسة المؤسسة الخاصة بمكافحة التمييز والإيذاء للغير.
جدل قانوني في مقاطعة أونتاريو
وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول، اضطرت حكومة أونتاريو بقيادة دوغ فورد إلى التخلي عن مشروع القانون رقم 168 "قانون محاربة معاداة السامية" المثير للجدل، ولجأت بدلاً من ذلك إلى مجلس المقاطعة ليتبنى في جلسته 1450/2020 قراراً يقضي بالاحتكام إلى تعريف معاداة السامية الذي وضعه "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست". والقرار الذي مرره المجلس هو مرسوم تنفيذي يتيح تجاوز العملية التشريعية وتدرجها على نحو فعال، ومن ثم تجاوز المناقشة العامة حول مشروع القانون.
ومرسوم المجلس يقرّ "عملياً بالتعريف المنصوص عليه لمعاداة السامية، على النحو الموضوع والمتعارف عليه من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست".
ومن الجدير بالذكر أن مشروع القانون 168 لا يزال قيد الدراسة من قبل اللجنة الدائمة لسياسة العدالة في أونتاريو، وقد تقدمت النقابات الخاصة بأعضاء هيئات التدريس في جميع أنحاء المقاطعة بمذكرات اعتراضية عليه.
ومن المثير للمفارقة، أنه في وقت سابق من هذا العام، كان رئيس حكومة مقاطعة أونتاريو، دوغ فورد، قد وجّه للجامعات إنذاراً نهائياً: إما تبني سياسات حرية التعبير وإما المخاطرة بفقدان التمويل الحكومي لها، لكن الظاهر حالياً أن تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" لمعاداة السامية في أونتاريو يمثل ردةً على مطالبة حكومة المقاطعة للجامعات بدعم حرية التعبير والحرية الأكاديمية.
ورغم أنه من غير الواضح ما إذا كان اعتماد أونتاريو للتعريف يتضمن تبني أمثلته التوضيحية أم لا، فإن استمرار الوضع الحالي دون موقف واضح منها، يخاطر بأن تظل الحرية الأكاديمية في هذه المقاطعة عرضةً للتدخلات السياسية.
الحرية العلمية في انتقاد العنصرية
تنطوي المواقف التي أبداها كثير من كبار الأكاديميين في العالم على تصريحات تنتقد عنف الدولة الإسرائيلية وممارساتها العنصرية. لكن الواقع الآن هو أنه يمكن بسهولة فرض رقابة على هذه الكتابات باعتبارها معادية للسامية وفقاً للتعريف الجديد.
وفي ظل هذا النوع من التضييق القانوني، يمكن أن يتعرض الأساتذة المضطلعون بدراسة أعمال علماء يهود مؤثرين، مثل حنا أرندت وجوديث بتلر، أو علّامة دراسات ما بعد الاستعمار، إدوارد سعيد، أو رموز حركات الحريات المدنية وتحرير السود، مثل أنجيلا ديفيس، وغيرهم ضمن قائمة طويلة من العلماء والباحثين والأكاديميين، لأخطار أو عواقب بسبب عملهم النقدي فيما يتعلق بإسرائيل وسياساتها.
كذلك ينبغي الالتفات إلى أن الحكومة الفيدرالية الكندية قد تبنت تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" لمعاداة السامية والأمثلة التي أوردها كنماذج عليها، ومن ثم يمكن أن تشعر المقاطعات والمؤسسات الأخرى بضغوط تدفعها إلى أن تحذو حذوها.
كما أن مساواة نقد إسرائيل بمعاداة السامية يقوّض قدرة العلماء على الانخراط في دراسة أعمال مهمة مناهضة للعنصرية ومعاداة السياسات الاستعمارية.
إن تبني مقاطعة أونتاريو لتعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" الخاص بمعاداة السامية يجعل الأكاديميين والطلاب عرضةً لخطر دائم. وإن سنَّ قوانين أو تبني بيانات تنطوي على احتمالات بتجريم الانتقادات لعنف الدول أو سياساتها العنصرية يقوّض نضالات المجتمعات المهمَّشة التي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. لكل ذلك وغيره فإن هذه القرارات تشكّل سابقة خطيرة سيطال تأثيرها الجميع.