شهدت إثيوبيا حرباً أهلية امتدت 15 عاماً قبل ثلاثة عقود، ويبدو أن الأوضاع هناك تنحدر إلى المسار نفسه، فرئيس الوزراء آبي أحمد لا يسعى لاحتواء التوترات، بل يستخدم القمع للسيطرة على الموقف، ويبدو أنه لا يقرأ تاريخ بلاده.
مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "إثيوبيا تنحدر نحو حربٍ أهلية بالغة الخطورة"، رصد الأسباب وراء التصعيد الحالي والحالات المشابهة في البلد ذي القوميات المتعددة، وكيف انتهت المواجهات السابقة.
جائزة نوبل للسلام
قبل أقل من عام حصل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام. اليوم بلاده على حافة الحرب الأهلية.
تصاعدت بالتدريج، وعلى مدار أشهر، التوترات بين حكومة آبي وبين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي كانت فيما سبق قوة مهيمنة في الحزب الحاكم بإثيوبيا، لكنها الآن حكومة إقليمية ساخطة جيدة التسليح. وفي الأسبوع الماضي اتّخذ الوضع منعطفاً مفاجئاً حين أمر رئيس الوزراء بشن هجومٍ عسكري على القوات التيغرانية التي اتهمها بأنشطة تمردية تمثل خيانة عظمى، وقد عانت إثيوبيا من حرب أهلية طويلة ودموية من 1974 إلى 1991، ويبدو أن التاريخ يتجه إلى أن يعيد نفسه.
لم يَبدُ انحدار إثيوبيا إلى عدم الاستقرار احتمالاً قريباً عندما وصل آبي إلى السلطة في 2018، فسرعان ما حاز رئيس الوزراء القبول والمديح -وجائزة نوبل للسلام- بفضل الإصلاحات التي تضمنت الإفراج عن السجناء السياسيين وإجراء انتخابات حرة نزيهة، بدا وكأن آبي سينهي النزاع طويل الأمد مع إريتريا المجاورة، وأنه بصفته الزعيم الأول للبلاد من جماعة الأورومو، في موقفٍ جيد لإنهاء التمرد في إقليم أوروميا.
لكن خلف هذه العناوين البراقة المتفائلة، كان النزاع يختمر، فقد وصل آبي إلى السلطة ضمن تحالف عُرف باسم الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، التي لعبت فيها جبهة تيغراي دوراً مركزياً، لكن آبي تحرك سريعاً لترسيخ سلطته عبر إنشاء حزب الرخاء الذي يمكنه السيطرة عليه بصورة أفضل.
وهمشت حكومة آبي جبهة تيغراي، التي رفضت الانضمام إلى الحزب الحاكم، لتسير نحو اصطدام محتم برئيس الوزراء، ووقعت بعدها سلسلة من الخلافات والمناوشات، وصلت إلى ذروتها حين أغارت قوات جبهة تيغراي على قاعدة عسكرية للجيش الإثيوبي. واستجاب آبي بضربات جوية على الإقليم، وبخطوة خطيرة مستفزة وهي حل حكومة إقليم تيغراي.
لفهم أسباب التصعيد السريع والمقلق بشدة بين آبي وجبهة تيغراي، كل ما علينا هو النظر إلى التاريخ الإثيوبي، فعلى مدار الستين عاماً الأخيرة صارعت الحكومات المتعاقبة للسيطرة على أراضي البلاد الشاسعة والمتنوعة، وبطريقة أو بأخرى لجأت كل الحكومات إلى القمع لمحاصرة الحركات الاحتجاجية، وانتهى المطاف بكل واحدةٍ منها إلى الإطاحة بها بعد مواجهات عنيفة.
القمع والتمرد
تبدأ دائرة القمع والتمرد في إثيوبيا من حكومة الإمبراطور هيلا سلاسي، التي حكمت البلاد في ظل اضطراب متوطن، وفقرٍ وانعدام مساواة ونقصٍ في الغذاء، من الثلاثينات وحتى عام 1974. وأطاح بسلاسي مجلس عسكري تطوّر إلى نظامٍ ماركسي لينيني، عُرف باسم الديرغ، تعهد ببناء مجتمع أكثر استقراراً ومساواة، لكن بقيادة منغتسو هيلا مريام، صار النظام أكثر تطرفاً وعنفاً، وأطلق العنان لموجة "رعب أسود" قُتل فيها 750 ألف شخص وفقاً للتقديرات.
لم يكفِ القمع لإبقاء الديرغ في السلطة، تماماً كما لم يكفِ لإبقاء الإمبراطور سلاسي. وفي الثمانينات، حمل تحالفٌ من حركات الاستقلال الماركسية والإثنية السلاح ضد الحكومة، وليتبلور فيما بعد إلى الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، التي نجحت في النهاية في إجبار منغتسو على الهرب من البلاد في 1991.
في البداية، بدا أن الجبهة ستكسر دائرة القمع والتمرد، ففي عصر رئيس الوزراء ملس زيناوي، اتبع التحالف استراتيجية تنمية ناجحة هدفت إلى تعزيز النمو الاقتصادي. وفي الوقت نفسه روّجت الجبهة الثورية لحلٍّ جديد لمسألة إدارة الخلافات بين المجتمعات الإثنية الإقليمية المتنوعة في إثيوبيا. بدلاً من فرض هوية إثنية بعينها على المجتمعات الأخرى، قدمت الجبهة الحرية واحترام الذات لباقي المجتمعات المتمايزة في البلاد عبر نظامٍ سياسي ودستور فيدرالي يضمن حقوق "كل الشعوب" و"حق تقرير المصير".
لكن ذلك الترتيب لم يتحقق بهذه الصورة الحالمة على أرض الواقع، فقد أخضع التحالف الحاكم قادة المعارضة، وأضعف قدرة الحكومات الإقليمية على تحقيق رؤى سياسية بديلة لتمثيل المجتمعات الساخطة، ولم يتمتع أي إقليم بالحكم الذاتي فعلياً إلا بالدرجة التي أبدى بها الاستعداد لأن تحكمه الجبهة الثورية، وهو ما لم يتحقق في مناطق مثل أوروميا على مدار عقدٍ من الزمان على الأقل.
علاوة على ذلك، وبرغم كل خطابات التوازن الإثني في الحكومة، هيمنت جبهة تيغراي التي تمثل أقلية صغيرة من الإثيوبيين على الحكومة لثلاثة عقود على الأقل، حتى جاء آبي إلى الحكم. ومع تصاعد السخط على حكم الجبهة الثورية، سار الرفض الصريح لشرعية الحكومة، الذي يلخص فحواه التصعيد وانتفاضة أوروميا منذ عام 2016، جنباً إلى جنب مع التوترات الإثنية المتزايدة في بقاع عديدة من البلاد.
تصادم وشيك
للمرة الأولى، تواجه الحكومة الفيدرالية الإثيوبية تحدياً مباشراً من جماعة تسيطر على حكومة إقليمية بإمكانات عسكرية معتبرة، ولم تكتفِ جبهة تيغراي بمغادرة التحالف الحاكم، بل تحدت سلطته مباشرة. وبما أن جبهة تيغراي لعبت دوراً محورياً في حرب العصابات ضد حكومة الديرغ، فقادتها يعرفون جيداً الطريق إلى إسقاط الحكومات.
وفي محاولة لإحراج آبي والدفع بمطالبها باستقلال أكبر لإقليم تيغراي، نفذت الجبهة عدة تحركات مستفزة عمداً في الأشهر الماضية، فبعد أن أجل رئيس الوزراء الانتخابات العامة بسبب فيروس كورونا، تحدت الجبهة أوامره وعقدت انتخاباتٍ خاصة بها، لتجعل إقليم تيغراي فعلياً دولة داخل الدولة الإثيوبية.
من جانبه، لم يفعل آبي أحمد الكثير لتهدئة التوترات، فرغم الصورة الإصلاحية التي رسمها بعناية يظل آبي قائداً عسكرياً اعتلى جهاز الاستخبارات في البلاد قبل وصوله إلى رئاسة الوزراء. ومن ثم فإن غريزته تدفعه إلى الرد على الاستفزازات بالعنف عوضاً عن التسوية.
إن عادت إثيوبيا إلى الحرب الأهلية مرة أخرى، فستعاني القارة الإفريقية كلها الأمرّين. فالمواجهة العسكرية المطولة لن تؤدي فقط إلى خسائر في أرواح الإثيوبيين، بل ستنشأ عنها حالاتٍ طارئة، منها أزمة لاجئين ستبتلع الدول المجاورة مثل كينيا والسودان، وكلاهما يعاني بالفعل من الأعداد الضخمة للمهاجرين والنازحين.
إثيوبيا نفسها تضم 1.8 مليون نازع داخل حدودها. وإضافة الملايين إلى هؤلاء، إلى جانب اضطراب الإنتاج الزراعي والبنية التحتية، قد يؤدي إلى نقصٍ في الغذاء ويُضعف جهود محاربة كوفيد-19.
سبب آخر للقلق هو أن يجذب النزاع الممتد الدول المجاورة مثل مصر وإريتريا، اللتين قد تجدان في دعم الحكومة الفيدرالية أو الجيوش المتمردة ما يحقق مصالحهما، وهناك مخاوف بالفعل من أن يوفر الرئيس الإريتري أساياس أفورقي الدعم والمساعدة عسكرياً لآبي. فالعلاقة الوثيقة بين الزعيمين وحقيقة أن كليهما يحمل ضغائن تاريخية تجاه جبهة تيغراي دفعت بقادة الجبهة إلى اتهامهما بالفعل بالتآمر ضد تيغراي.