مرت أمس الذكرى الثانية والثمانون لوفاة مؤسس الجمهورية التركية، وأول رئيس لها (مصطفى كمال أتاتورك) الذي حكمها منذ تأسيسها جمهوريةً وإعلانه قيامها في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923، إثر خروج الدولة العثمانية منكسرة في الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن فقدانها معظم ما سادته قروناً، بل والانكفاء دفاعاً عن آخر المعاقل بما فيها إسطنبول العاصمة والسواحل وما تلاها من بقاع. ما اضطر جيشها لخوض حرب تحرير ضد جميع تلك القوى، وفي أكثر من بقعة، حتى كانت معاهدة لوزان 1923 التي حددت شكل الدولة القادم وفق شروط وافق عليها (الكماليون) ليعمدوا بعدها إلى إعلان قيام الجمهورية التركية بهذا المسمى لأول مرة في تاريخ الأناضول وجوارها.
نظرة تاريخية:
منطقة الأناضول التي تشكّلت وجوارها تركيا الحالية، تاريخها قديم شأنه شأن الوجود البشري الفاعل فيها والذي تدل عليه مكتشفات أثرية عديدة تعود إلى أكثر من تسعة آلاف عام. أما الدول والحضارات التي سادت المنطقة بعد العصور التاريخية (اختراع الكتابة) فكثيرة أيضاً وبتعاقب لم ينقطع. لكن اللافت فيها أن معظمها كان بفعل غزاة ومحتلين ومهاجرين على نحو أكثر مما كان محلياً. فإذا ما استثنينا الدولة الحثية التي نشأت قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام إلى جوار حضارات ما بين النهرين، والحضارة المصرية الفرعونية التي أوقفت الزحف الحثّي (معركة قادش) وتسببت تالياً في انكفائهم وزوال دولتهم، لا نجد عبر تاريخها قيام دولة محلية سوى ما كان في دولة (ليديا) بعد الميلاد وإن لم تكن محلية صرفة. أما معظم ذلك التاريخ الممتد آلافاً من السنين فقد حكمت فيه المنطقةَ الإمبراطوريات العظمى من فرس وإغريق ورومان.
بلاد الترك، بتنوع قبائلها، موقعها الجغرافي في وسط قارة آسيا من حدود الصين الشمالية الغربية إلى حدود بحر قزوين الشرقية والجنوبية شمال إيران. وهي المنطقة التي استهدفها الفتح العربي الإسلامي خلال مرحلتيه الأموية والعباسية الأولى في القرنين السابع والثامن الميلاديين، بعدما توقف خلال العهد الراشدي عند حدود الإمبراطورية الفارسية التي انتهت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ولجأ بعض أركانها إلى ما يعرف ببلاد ما بعد النهر، نهر جيحون، والتي هي موطن قبائل الترك. أخضع الفتح الأموي فالعباسي المنطقة برمتها لحكمه في دمشق وبغداد، ودخل كثير من قادة الترك وأمرائهم الإسلام، منهم دون قتال، وكذلك غالبية شعوبهم التي شكل مقاتلوها الأشداء، بما عرف عنهم من قوة بأس وشكيمة، نواةً صلبة للجيش العباسي في المرحلة التالية.
أما الموطن الأصلي للترك تاريخياً وجغرافياً بقبائلهم الكثيرة المتوزعة على أرض شاسعة، والذي يشمل حالياً أغلب مناطق كازاخستان وقرغيزيا والطاجيك وأوزبكستان وتركمانستان، فشهد نوعاً من الاستقرار لم يخلُ من مناوشات على حدود الصين والهند شمالاً، ما لبث أن اعترته تبدلات مع طور الضعضعة في الدولة العباسية نهاية الألفية الميلادية الأولى ومطلع الثانية، إذ تمددت القبائل التركية غرباً مع قيام دول جديدة كالدولتين الغزنوية والخوارزمية والصراعات التي امتدت في المنطقة لقرنين. الوصول الحقيقي المكثف لقبائل الترك إلى بلاد الأناضول (آسيا الصغرى) كان مع قيام الدولة السلجوقية (1037 م – 1194) التي امتدت لتصل إلى بحر إيجه غرباً قبل أن تنتهي بفعل اجتياح الحملات الصليبية القادمة من الغرب وهجمات المغول شرقاً، فلم يبقَ منها سوى بعض بقاع تقاوم ممن عرفوا بـ(سلاجقة الروم، سلاجقة الفرس، سلاجقة حلب)، لكن استيطانهم الأناضول شكَّل الركيزة الأساسية هناك، كما كان للمقاتلين الترك الأشداء دورهم البارز ضمن الجيوش المقاومة للغزاة من مغول وتتار وصليبيين، خاصة في بلاد الشام ومصر، وما سينتج عنه من أدوار لاحقة لهم خلال العهد المملوكي.
الموجة اللاحقة، وهي أكبر وأكثر وأهم، لحضور الترك في الأناضول كانت بعد مئة عام، من خلال ترسيخ العثمانيين دولتهم في آسيا الصغرى إلى أن استطاعوا القضاء على الإمبراطورية البيزنطية وفتح القسطنطينية بقيادة السلطان محمد الفاتح (1453) ليبدأ عصر تاريخي جديد، اعتبره المؤرخون بداية للعصور الحديثة، بزوال آخر الإمبراطوريات القديمة ونهوض إمبراطورية جديدة توسعت في كل الأرجاء، لتصل إلى بولونيا وتدق أبواب فيينا في عمق أوروبا، وتحيط بالبحر المتوسط في قلب العالم من جهات ثلاث محاربةً عدة قوى دولية على كل الجبهات ولقرون قبل أن يدب بأوصالها الضعف ليكون احتضارها الأخير إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1917)، وليدق المنتصرون بعدها بسبع سنوات المسمار الأخير في نعشها.
مخاضات الجمهورية التركية وإعلانها:
لم تنتهِ قضية الدولة العثمانية بانكسارها وانحسار نفوذها مع انتهاء الحرب الأولى 1917. فالقوات العربية المدعومة بريطانيّاً تابعت سيرها باتجاه بلاد الشام فيما القوات العثمانية المنكفئة تجهد للحفاظ على ما استطاعت من رقعة تتقلص يوماً إثر يوم. ومع دخول القوات العربية دمشق (1918) واتجاهها شمالاً نحو حلب، كلّف السلطان (محمد السادس) قائدَ الجيش الثالث (مصطفى كمال) بمحاولة رد هجوم البريطانيين والقوات العربية فنجح بداية، لكن دخول قوات الحلفاء مدن السواحل غرباً وتقدمهم من جهة العراق شرقاً، اضطر السلطنة لتوقيع (هدنة مودروس) وبشكل عاجل على ظهر سفينة في محاولة لتدارك الموقف، فانسحب العثمانيون بموجبها من سائر الأراضي السورية والعراقية، وفتحوا مضيقَي الدردنيل والبوسفور لقوات الحلفاء الذين ما لبثوا أن نكثوا بالهدنة، لتغدو معظم المدن الساحلية وما تلاها بما فيها العاصمة إسطنبول ميداناً قتالياً. اتخذ السلطان قراره بالمقاومة، ومع خروج بعض القادة عن الأوامر وارتكابهم مجازر في الداخل، أصدر السلطان أمره بإعطاء مصطفى كمال صلاحية كاملة بحماية الرعايا وقيادة حرب التحرير.
كان مصطفى كمال قبل ذلك بسنوات منتمياً إلى جمعية الاتحاد والترقي التي حاولت أكثر من مرة قبل الحرب تسلم زمام الحكم من غير إزاحة السلطان (الخليفة) لما يشكله من رمزية، وكانت وراء تنحية السلطان عبدالحميد (1909)، ولعل ذلك ما جعل الأمور الداخلية، مع نجاحات مصطفى كمال، تتجه باتجاه حكومة هو رأسها ببرلمان مستقل، وكان إقرار برلمان السلطنة لمعاهدة (سيفر 1920) ذريعة إذ اعتبرها العسكريون مذلة واتخذوا قرارهم بإعدام الموقعين عليها، واستمروا في حربهم مع جميع القوى المحتلة البريطانية والفرنسية والإيطالية والبلجيكية واليونانية، فرتبت بريطانيا المخرج بالدعوة لمعاهدة لوزان التي أنهت الحرب ورسمت حدود الدولة التركية القادمة فوافق على مجملها الكماليون فيما بقيت بعض نقاطها عالقة، وهو ما اعتبره الكماليون انتصاراً بالقياس لمعاهدة سيفر، وانطلقوا لتأسيس الجمهورية التي أعلنها مصطفى كمال في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923. ليعقبها في العام التالي بقراره إلغاء الخلافة وطرد السلطان ونسله وذوي القربى.
ما يجدر ذكره أن تسمية الجمهورية (تركيا) لم يكن مثار خلاف، وإن كانت البقعة الجغرافية ليست أصلاً لمنبت الأتراك عرقياً، لأن الشائع عرفاً وتسمية خلال المرحلة العثمانية أن (التركي هو المسلم) ولعله السنّي تحديداً، فيما بقية الديانات والطوائف لهم معاملة الرعايا، كما أن نسبة العرق التركي بعد ألف عام من بدء مجيئهم من أرض المنبت تتجاوز 70٪ من ضمن ما يقرب من أربعين عرقاً وإثنية ما زالت تشكل المجتمع التركي، وعليه استند مصطفى كمال بداية، قبل أن تسن تعديلات تجعل جميع المواطنين أتراكاً وتجعله (أتاتورك = أبو الأتراك) .
الجمود والانغلاق في ظل الديكتاتورية والانقلابات:
بدأ أتاتورك حكمه الجمهورية الوليدة باستصدار حزم من المراسيم والقوانين في محاولة منه لتغيير شكل الدولة الجديدة من موروثها الديني الشرقي الطابع إلى دولة علمانية بلبوس أوروبي، واتخذت في بعضها أسلوباً قسرياً كمحاولات فرض ألبسة معينة (قانون القبعة) وإغلاق التكايا والأضرحة والزوايا والمدارس الدينية، وعلى الرغم من تحديثه للقوانين على غرار القوانين الأوروبية، سواء في قانون العقوبات أو القانون المدني الجديد وما لقيه من ترحيب في بعض الأوساط الاجتماعية، فإن مشروعه التحديثي اصطدم بعقبة أساسية في عامله الاقتصادي لدولة وليدة تقوم على أنقاض إمبراطورية عانت في قرنها الأخير من مشاكل اقتصادية جمّة أنهكت خزائنها العامرة إلى درجة الإفلاس والاستدانة، فيما لم تسلم الجمهورية من استنزافات جديدة وحروب داخلية، كما حدث عام 1925 في ثورة الشيخ سعيد بيران (النورسي) شيخ الطريقة النقشبندية الذي التف حوله أكثر من نصف مليون من الكرد مدعومين بمئة ألف من عرب وشركس في ثورة رافضة التوجهات الأتاتوركية لتغريب المجتمع مدعومة بدوافع عرقية بعدما أخلّ الحلفاء بوعدهم بإنشاء دولة كردية مستقلة.
الدستور التركي المستقى من الدستورين البولوني والفرنسي وما طرأ عليه من تعديلات لاحقة سمح لأتاتورك بالبقاء في الحكم زعيماً أوحد وحاكماً مطلقاً يسيطر وحزبه (حزب الشعب الجمهوري) على كل مقاليد السلطات، ويخوض معركة تتريك شرسة على صعيد التعليم والكتابة بلغة جديدة مخترعة ومحاربة الدين باسم العلمانية، بشكلها التركي الحاد، ما جعل جيلاً بكامله شبه أمي ومغترباً عن ثقافته وجذروه. بعد وفاة أتاتورك (10 تشرين الثاني/نوفمبر 1938) استمر خليفته عصمت إينونو على النهج ذاته وبتوجه أكثر حدة نحو علمانية معادية للدين ومتطرفة في عرقيتها، فقام ضمن موجة التتريك القسري بإلغاء الأذان بالعربية، ومضى في سياسةٍ تركز جهودها على هوية داخلية تتخذ شكلاً قسرياً، ما زاد في الجمود والانغلاق عن العالم، ليجعل تركيا في مركز متأخر عالمياً، صناعياً واقتصادياً وعلمياً، لا يتناسب وحجمها وموقعها وإمكاناتها.
وهو ما كان مقدمة لتأسيس الحزب الديمقراطي (1946) بزعامة المخضرم جلال بايار وعدنان مندريس، فنجح الحزب بعد أربع سنوات في الوصول للحكم، لتبدأ تركيا محاولة نهوض في ظل حريات مستعادة وديمقراطية، لكن العسكر وبدعم من حزب الشعب انقلبوا على الحكم (1960) وأعدموا مندريس لتعود الجمهورية إلى وضع أسوأ في تجاذب دائم بين الأحزاب والعسكر حتى مطلع الألفية الجديدة، عندما استفاد تلاميذ آخر المنقلب عليهم (رئيس الوزراء نجم الدين أربكان) عبر حزبهم الجديد (العدالة والتنمية) برئاسة رجب طيب أردوغان. استطاع الحزب في غضون عام واحد من تأسيسه تحقيق مفاجأة مذهلة (انتخابات 2002) باكتساحه جميع الأحزاب السابقة والفوز بأغلبية برلمانية تؤهله لتولي الحكومة فالرئاسة، ليبدأ عهدٌ تركي جديد.
تركيا القوية ومشروع 2023:
استطاعت حكومة العدالة والتنمية بزعامة أردوغان النهوض بتركيا خلال زمن قياسي وعلى أكثر من صعيد، بدأت من الشأن المحلي بالتركيز على قطاع الخدمات، خاصة في مجال البلديات التي شهدت تطويراً أرضى التطلعات وارتقى بأدائها بعيداً عن ماضٍ قريب غلبت عليه مظاهر الفساد والمحسوبية، تبعتها إصلاحات اقتصادية، أوقفت التهاوي المتسارع لقيمة الليرة التركية، وحسنت المستوى المعيشي. كما شهد الوضع السياسي المتوتر مع قوى كردية انفراجاً في بعض مطالبه وكذلك علاقات الجوار، وسُنَّت حزم من القوانين والتشريعات لاقت ترحيباً أوروبياً ودولياً، وبدأت معه رحلة صعبة أديرت بمهارة للحد من السطوة السياسية للعسكر. أما في الجانب الصناعي فتتابعت نهضة شاملة، كانت قد بدأت منذ التسعينات في مرحلة الرئيس الأسبق تورغوت أوزال، لكنها أضحت أكثر منهجية وتكاملاً، ما جعل تركيا تقفز خلال سنوات قليلة من مركز سبعيني وتفرض ذاتها ضمن مجموعة العشرين عالمياً، منطلقة إلى آفاق جديدة في الصناعات الثقيلة وصناعة الأسلحة المتطورة وبتكاليف منافسة لمثيلاتها.
ترافق كل ذلك مع توسع مذهل في قطاعي الاتصالات والمواصلات، وتنفيذ مشاريع عملاقة كالأنفاق تحت مياه البحر وشبكات المواصلات البرية والبحرية والجوية، وبناء المطارات المدنية في معظم المدن، لتحتل الخطوط التركية مركزاً متقدماً ومنافساً تكلل بتدشين المطار الثالث في إسطنبول الطامح للاستحواذ على الحصة الكبرى في قلب العالم القديم بقاراته بما فيها أضخم المطارات الأوروبية مجتمعة. أما التعليم بكل مراحله فلقي عناية مضاعفة في جميع مراحله، وعمت الجامعات الحكومية جميع الولايات الإحدى والثمانين مع مئات الجامعات الخاصة، في تطلّع لما يفي الحاجة ويلبي تطلعات المستقبل علمياً وتنموياً.
القفزة النوعية التي حققتها تركيا جعلتها خلال سنوات أكثر مثيلاتها تكاملاً وسط منافسة إقليمية (إيران، السعودية، مصر) وأكثر تمايزاً في الديمقراطية والحريات السياسية والعامة، على نحو جعل حكومتها تتطلع إلى قفزة من الإقليمية إلى الدولية، لتكون بين القوى العشرة الكبرى في العالم عبر مشروعها الطامح (تركيا 2023) الموافق للذكرى المئوية الأولى للجمهورية، بكل ما يتطلبه ذلك المشروع من جهد وتنمية تستطيع من خلاله مضاعفة إنتاجها القومي ليبلغ تريليونين من الدولارات، ورفع مستوى دخل الفرد ليساوي متوسطه الأوروبي، لتستطيع القفز سبع درجات على سلم الترتيب، في منافسة صعبة تترافق مع الحفاظ على وتيرة تطور الصناعة العسكرية وتقوية جيشها الذي بات من ضمن أقوى عشرة جيوش في العالم.
الطموح والمزالق:
الطموح التركي لمشروع 2023 كان يسير بنمو جيد نحو هدفه على الرغم من كل العراقيل غير المعلنة الهدف أوروبياً بالدرجة الأولى وعبر مشاكل داخلية، في مقدمتها المشكلة الكردية في الجنوب الشرقي، وما حدث من تدفق للاجئين جنوباً من العراق وسوريا، لكن السياسة التركية نجحت إلى حد معقول في الاحتواء وتجنب التأثير العميق، إلى أن كانت محاولة الانقلاب عام 2016، والتي يؤكد مسؤولو العدالة والتنمية أنها كانت بتأييد من قوى إقليمية ولصالح جهات أكبر تهمها عرقلة المشروع التركي الطامح، وهو ما يرى متخصصون بالشأن التركي أنه مستمر بتأثيره، مستدلين بخسارة الليرة التركية ثلثي قيمتها خلال الأعوام الأربعة الماضية بعد استقرار طويل.
كذلك المشاريع الكبرى ذات المردود الاقتصادي تشهد إعاقات، فمطار إسطنبول الجديد لم يبلغ شيئاً من طموحه بسبب جائحة (كورونا) العالمية، ومشروع السيل التركي الروسي لنقل الغاز إلى أوروبا لا يمكن الركون تماماً لمستقبله في إطار تحولات المنطقة وتضارب المصالح الروسية التركية كما في سوريا وأذربيجان مضافاً إليها موروث تاريخي لا يبعث الطمأنينة، فيما مشروع قناة إسطنبول ما زال يحتاج سنين لبدء مردوده إن تمّ. كل ذلك يأتي وسط ظروف صعبة ومزالق تجعل مشروع مضاعفة الناتج القومي خلال ثلاث سنوات أقرب إلى الحلم المتعثر، على الرغم من وجود مشاريع موازية ومكملة تسير وفق الخطة، كمشاريع الطاقة البديلة التي ستخفض المنفق عليها إلى 20٪، ومشاريع الصناعة المتقدمة، وفي مقدمتها الدبابات والعربات المصفحة والغواصات والطائرات المسيّرة التي دخلت مراحل تسويق.
من جانب آخر، ومما قد يسعف تركيا في مقاربة طموحها، تكثيفها حملات التنقيب عن النفط والغاز في مياهها الإقليمية والدولية، وسعيها لفرض حقوق تقول إنها تاريخية في المياه الدولية شرق المتوسط، وفي مناطق مع اليونان، معتمدة على مواثيق دولية لم يتم إلغاؤها، وعلى عدم تنازلها في معاهدة لوزان عن 12 جزيرة لليونان إنما سلمتها لقوات التحالف، وهذا بحسب رؤيتها لا يعطي أحقية لليونان. أما ما يقال عن انتهاء معاهدة لوزان بانقضاء مئة عام فلا أساس لمزاعمه، لأن المعاهدة لم تتضمن مدة، وهو ما يمكن لتركيا أن تعلن وقف العمل بالاتفاقية أو بعض بنودها المجحفة بحقها عندما تمتلك نفوذاً وقوة أو مقدرة على تبادل مصالح كبرى دون تبعات تؤثر على واقعها ومستقبلها.
ذلك ما يبدو أن السياسة التركية الراهنة تعيه جيداً فتسعى إلى مزيد من النفوذ الإقليمي في محيطها (سوريا والعراق وأذربيجان) وعبر البحار كما في شمال إفريقيا والخليج والقرن الإفريقي، ومحاولة مد جسور التعاون بأشكاله كافة، والتفاهمات في أدنى الحدود، بما يسهم في وصول تركيا إلى مكانتها الطامحة بين العشرة الكبار، بكل ما في ذلك من مزالق خطرة ما زالت السياسة التركية تحاول تجنبها بتوخِّي كل الحذر من الزج مباشرة بقوة عسكرية ضاربة لجيشها القوى، إدراكاً لمخاطر الحرب المباشرة واستنزافها للموارد، ومن غير التخلي عن طموحها أو الغفلة عن المتربصين لإبعادها عن مشروعها القادم، وهو ما يترك المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.