إنه لغزٌ كبيرٌ للجائحة: لماذا يعد احتمال إصابة الأطفال بفيروس كورونا المستجد أقل من البالغين، ولماذا يعد احتمال أن يمرضوا أقل حتى إذا أُصيبوا؟
يبدو أن العلماء قد اكتشفوا سر مناعة الأطفال ضد فيروس كورونا التي تجعلهم أقل عرضة لهذا المرض، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
لماذا يعد احتمال إصابة الأطفال بفيروس كورونا المستجد أقل؟
قد يكون سببٌ مُحتَمَل لذلك، وفقاً للباحثين بمعهد فرنسيس كريك في لندن، هو أن الكثير من الأطفال لديهم بالفعل أجسامٌ مضادة لفيروسات كورونا الأخرى.
إذ تتسبب الفيروسات في هذه العائلة حوالي واحد من خمس من نزلات البرد التي تصيب الأطفال. وقد تمنع الأجسام المضادة لتلك الفيروسات أيضاً كوفيد-19، فيروس كورونا الجديد الذي يسبِّب الجائحة.
في دراسةٍ نُشِرَت يوم الجمعة 6 نوفمبر/تشرين الثاني في مجلة Science، أفادت المجموعة، التي يقودها جورج كاسيوتيس، الذي يرأس مختبر المناعة الفيروسية في المعهد، بأن 5% فقط من البالغين في المتوسط لديهم هذه الأجسام المضادة، لكن 43% من الأطفال لديهم هذه الأجسام بالفعل.
أثار هذا الاكتشاف اهتمام الباحثين الذين لم يشاركوا في الدراسة، التي وَصَفَها بنجامين لارمان، عالم المناعة في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، بأنها "دراسةٌ مُتقَنة تطرح نظريةً مُقنِعة ومدعومة ببياناتهم".
كان ردُّ فعل ستيفن إليدج، أستاذ علم الوراثة في كلية الطب بجامعة هارفارد، هو نفسه. لقد وَجَدَ هو وآخرون أن العديد من الأشخاص لديهم أجسام مضادة لنزلات البرد التي تسبِّبها فيروسات كورونا الأخرى. وفي الدراسات المعملية، تمنع هذه الأجسام المضادة أيضاً فيروس كورونا المستجد.
كيف توصلوا إلى هذه النتيجة المذهلة؟ جسم مضاد على شوكة
في مارس/آذار الماضي، حين كانت الجائحة في بدايتها، قرَّر الدكتور كاسيوتيس وزملاؤه تطوير اختبار الأجسام المضادة شديدة الحساسية. وبغرض تقييمها، قاموا بفحص عيِّنات الدم المأخوذة قبل الجائحة من أكثر من 300 بالغ و48 طفلاً ومراهقاً، ومن ثم مقارنتها بعيِّناتٍ من أكثر من 170 شخصاً أُصيبوا بفيروس كورونا المستجد.
توقَّع العلماء أن العيِّنات المأخوذة قبل الجائحة لا تحتوي على أجسامٍ مضادة تهاجم فيروس كورونا المستجد، وكانت تلك هي ضوابط الاختبار الذي طوَّرَه العلماء.
في المقابل، اكتشفوا أن العديد من الأطفال، وبعض البالغين، يحملون جسماً مضاداً واحداً على وجه الخصوص يمكنه منع فيروسات كورونا، بما في ذلك الفيروس المستجد، من دخول الخلايا، إذ يعلق هذا الجسم المضاد على شوكةٍ تخرج من فيروسات كورونا.
وقال الدكتور كاسيوتيس إنه في حين أن طرف الشوكة فريدٌ بالنسبة لفيروس كورونا المستجد، إلا أن القاعدة قائمة في جميع فيروسات كورونا. وفي الاختبارات المعملية، منعت الأجسام المضادة العالقة في قاعدة الشوكة الفيروس المستجد من دخول الخلايا من أجل التكاثر.
ويخطِّط الباحثون الآن لتوسيع دراستهم إلى مراقبة آلاف الأطفال والبالغين.
اللافت أن لدى البعض أجساماً مضادة يمكنها منع فيروس كورونا المستجد في الاختبارات المعملية، لكن هذه الأجسام المضادة ليست موجودةً لدى آخرين.
كثرة إصابات الأطفال تحميهم من فيروس كورونا، ولكن هل يصابون بالمرض دون أن ندري؟
تساءل الدكتور كاسيوتيس قائلاً: "إذا كانوا مصابين بالسلالة الوبائية هذه، فهل هم محميون؟"، وتساءل أيضاً هل سيمرضون أم أن العدوى ستكون غير قابلة للكشف؟
طوَّرَ الدكتور إليدج وزملاؤه في جامعة هارفارد اختبار أجسام مضادة شامل وفائق الدقة والحساسية يحمل اسم VirScan، وهو قادرٌ على اكتشاف مجموعةٍ مُتنوِّعةٍ من الأجسام المضادة التي تُوجَّه إلى أكثر من 800 مكان على فيروس كورونا المستجد، بما في ذلك الجسم المضاد الذي دَرَسَه الدكتور كاسيوتيس وزملاؤه.
وبعد فحص عيِّنات الدم المأخوذة من 190 شخصاً قبل ظهور الجائحة، خلص الدكتور إليدج وزملاؤه إلى أن العديد من الأشخاص لديهم بالفعل أجسام مضادة، بما في ذلك تلك التي تستهدف قاعدة الشوكة، على الأرجح بفعل عدوى سابقة بفيروسات كورونا الأخرى التي تسبِّب نزلات البرد.
لكن في حين أن البالغين قد يُصابون بنزلة برد واحدة أو اثنتين في السنة، قال الدكتور إليدج إن الأطفال قد يُصابون بنزلات برد تصل إلى 12 مرة في السنة.
ونتيجة لذلك، يكون لدى كثيرين فيضانٌ من الأجسام المضادة لفيروس كورونا التي توجد بشكلٍ مستمر، وقد تقلِّل من أعراض البرد، أو حتى تجعل الأطفال يُصابون بنزلات برد لا تظهر أعراضها عليهم، لكنها لا تزال معدية.
ولكن لماذا تختفي الأجسام المضادة في أجسامنا؟ فيروس مخادع
وفي حين أن البالغين قد لا يكون لديهم أجسامٌ مضادة يمكن اكتشافها، قد يتمكَّن كثيرون من تكوين الأجسام المضادة بسرعة إذا كانوا مصابين بأحد فيروسات كورونا.
وفي حالات العدوى الفيروسية النموذجية، يصبُّ الجهاز المناعي الأجسام المضادة لمحاربة الفيروس. وحين تُقمَع العدوى، لا تعد هناك حاجةٌ للأجسام المضادة، فيتناقص عددها. لكن الجسم يتكوَّن لديه ما يُسمَّى بخلايا الذاكرة، التي تسمح بزيادة إنتاج الأجسام المضادة بسرعة إذا حاوَلَ الفيروس الغزو مرةً أخرى.
لماذا إذاً لدينا جائحة؟ ألا ينبغي أن يظل معظمنا محمياً بخلايا الذاكرة التي خلَّفَتها حالات العدوى السابقة بفيروس كورونا هذا أو ذاك؟
قال الدكتور إليدج: "من المُحتَمَل للغاية أن تفقد ذاكرتك بمرور الوقت". ويُشتَبَه في أن فيروس كورونا المستجد قد يتداخل مع تنشيط خلايا الذاكرة القادرة على الاستجابة للعدوى.
وأضاف أن العدوى "قد تمنحك ذاكرةً ضبابية تتلاشى بمرور الوقت". إذا كان الأمر كذلك، فستكون بحاجةٍ إلى إصابةٍ حديثة جداً بأحد فيروسات كورونا التي تسبِّب نزلات البرد للحماية من فيروس كورونا المستجد. وحتى في هذه الحالة، قد تستمر الحماية لفترةٍ محدودةٍ فقط.
من الممكن أن يعيق فيروس كورونا المستجد إنتاج الأجسام المضادة التي تهاجمه على وجه التحديد. وقد يفسِّر ذلك كون الأطفال، الذين يعانون من نزلات البرد المستمرة أفضل حالاً من البالغين.
خبر سعيد بالنسبة للقاحات
قال الدكتور إليدج إنه إذا كان مُحِقاً بشأن فقدان خلايا الذاكرة، فإن ذلك يبشِّر بخيرٍ بالنسبة للقاحات، إذ يعزِّز اللقاح إنتاج الأجسام المضادة دون وجود فيروس. وأضاف أن الفيروس "ليس في الخلفية لكي يفسِد خلايا الذاكرة".
ويتمثَّل الاحتمال الآخر في أن معظم البالغين محميون بالفعل بخلايا الذاكرة من الإصابات السابقة بفيروسات كورونا الأخرى التي تسبِّب نزلات البرد. وعلى الرغم من أن القليل منهم يحتوي على أجسامٍ مضادة كافية في دمائهم لحمايتهم في أيِّ وقت، فقد يتمكَّنون من صنع أجسامٍ مضادة بسرعةٍ لتقليل تأثير فيروس كورونا المستجد.
قد يفسِّر ذلك سبب تعافي الكثير من البالغين المصابين بسرعة. قال إليدج: "نحن نركِّز على أولئك الذين يمرضون حقاً، لكن 95 إلى 98% من المصابين بالفيروس لا يضطرون للذهاب إلى المستشفى. هناك الكثير من الأشخاص الذين يتحسَّنون".
حدث ذلك للدكتور لارمان وعائلته المُكوَّنة من خمسة أفراد. أُصيبَ أربعة منهم بفيروس كوفيد-19 في يوليو/تموز. لم يكن أيٌّ منهم مصاباً بمرضٍ خطير، ونجا ابنه البالغ 4 سنوات تماماً من الإصابة.
قال لارمان: "لم يكن ابني معزولاً عنَّا، وبالتالي كان مكشوفاً بشدة للفيروس". وأضاف: "جاءت نتيجته سلبية مرتين، لذا نشكُّ بالتأكيد في أن لديه شكلاً من أشكال المناعة الموجودة مُسبقاً".