من “الفيتو” ضد غزو العراق إلى رأس حربة “الإسلاموفوبيا”.. كيف تغيرت فرنسا على يد حكامها الطائشين؟

عدد القراءات
761
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/30 الساعة 09:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/30 الساعة 11:05 بتوقيت غرينتش
رويترز

محزن اليوم هو مشهد فرنسا في العالم، لا سيما من هنا، من قلبها النابض، العاصمة باريس، ولا سيما لمن يحبها، لمن اعتاد العيش فيها فترة طويلة، لمن يتعلّق بالمخزون الثقافي والعلمي والحضاري المتراكم في مجتمعها، في جامعاتها، في أساتذتها ومثقفيها، في معاهد البحث وإنتاج المعرفة والثقافة فيها، في مسارحها ودور السينما ومقاهيها، في شوارع مدنها العريقة العابقة بتاريخ أمة صدّرت الكثير من المعرفة والمبادئ الإنسانية إلى العالم، وذلك بالرغم من كل التحفظات على مراحل كثيرة من هذا التاريخ وأوجهه. 

محزن اليوم هو مشهد فرنسا في العالم، هذه الدولة التي كانت في يوم من الأيام فرنسا شارل ديغول، الرئيس الذي كان شديد التعلّق بمبدأ التميّز عن حليفته الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما بانتهاجه "سياسة فرنسا العربية" القائمة على التقرب من الدول والشعوب العربية وبدعم قضاياها العادلة، خصوصاً القضية الفلسطينية.

محزن اليوم هو مشهد فرنسا في العالم، الدولة التي كانت، في ماضٍ غير بعيد بتاتاً، فرنسا جاك شيراك التي تجرّأت على الوقوف بوجه جورج بوش الابن وسياسة صراع الحضارات الكارثية التي أطلقها. فرنسا التي كانت ترفض النظر بنظرة محدودة سخيفة للإسلام؛ هي نفسها التي كانت فرنسا دومينيك دو فيلبان، وزير الخارجية المتميّز، الدبلوماسي المحترف الذي ألهب العالم حماسة بخطابه التاريخي قبيل أن يضع فيتو بلاده ضد اجتياح العراق، بشجاعة قلّ نظيرها، في مجلس الأمن الدولي سنة 2003.

محزن اليوم هو مشهد فرنسا، التي كانت حتى ماضٍ قريب جداً دولة قوية ومحترمة في العالم أجمع، لا سيما في العالمين العربي والإسلامي، خصوصاً بفضل انتهاجها سياسة الانفتاح على الآخرين وحوار الحضارات، وذلك في خضم حفلة الجنون والكراهية المنعقدة منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001. 

كم هو محزن بعد كل هذا التاريخ أن تتحول فرنسا اليوم، مع إيمانويل ماكرون، من دولة علمانية منفتحة على العالم، لا سيما على العالمين العربي والإسلامي، إلى مجرد رأس حربة لصراع الحضارات، دولة تتقوقع ثقافياً على نفسها بذريعة علمانية "محوّرة"، بحسب تعبير المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جان بوبيرو في كتابه "العلمانية المزيفة" الصادر سنة 2012، علمانية أصبحت مجرد مطية للتمييز العنصري ضد المسلمين. 

محزن هو مشهد فرنسا اليوم وهي تبدو بمظهر تلك العجوز المتعجرفة المريضة التي تشعر بالمرارة بعد أن سبقها الزمن وخانتها قواها، لا سيما أمام من كانت تستعمرهم، فتحن إلى تاريخها، لاسيما إلى الحقبات السوداوية فيه، لا لشيء، فقط لتشعر من جديد ولو بالقليل من قوتها البائدة.

محزن هو مشهد فرنسا كدولة تعيش في الماضي، تنظر بتحسر إلى الخلف، وكأنها تحاول استعادة أمجادها البائدة، دولة تعتقد أنها ما زالت قوة عظمى تستطيع تغيير خرائط العالم بشحطة قلم من جورج بيكو، وأن تتقاسم مناطق النفوذ والبلدان وخيراتها، وأن تقرر مصير الشعوب بالنيابة عنها.

دولة تحاول بكثير من التخبط والعبثية اجترار تاريخ عدائها للعرب والمسلمين الذي لا يبدأ بهزيمتها في حطّين أمام صلاح الدين، ولا ينتهي بخروجها المخزي من الجزائر صاغرة أمام ثورة المليون شهيد، مروراً بانتصارها المشؤوم في ميسلون أمام استبسال يوسف العظمة وحفنة من المقاومين.

بجنوح قادتها والجزء الأكبر من أحزابها السياسية نحو خطاب يميني متطرّف، محزن هو مشهد فرنسا التي أكلتها نار الأسى واللوعة إلى قادتها الصليبيين، بوهيموند الأول وغي دو لوسنيان، وبعدهم بعدة قرون الجنرال غورو ومقولته الحاقدة الشهيرة التي من المرجح أن يكون قد أطلقها بعد ميسلون: "ها قد عدنا يا صلاح الدين!".

محزن اليوم هو مشهد الدولة التي يعتقد رئيسها أنه يستطيع أن يتنطّح ويقول إنّ الإسلام في أزمة، في كثير من التعميم المجحف وخلط للحابل بالنابل. فحتى لو سلمنا جدلاً أنّ الإسلام في أزمة، فليس لرئيس دولة لها باع تاريخي طويل في العداء للإسلام والمسلمين، لا سيما في استعمار الشعوب المسلمة، أن يضع نفسه بموضع الديّان على ديانة يتبعها ما يقارب الملياري إنسان في العالم؛ فما الفرق بعد ذلك بينه وبين نيكولا ساركوزي، سيّئ الذكر، الذي كان تنطّح بقوله، بكثير من العنصرية ضد السود، في خطاب ألقاه في داكار، عاصمة السنغال، سنة 2007، إنّ "الإنسان الإفريقي لم يدخل التاريخ بشكل كافٍ"، والذي أثار موجة من الإدانات في فرنسا والعالم!

محزن هو مشهد الدولة التي يعتقد سياسيوها أنهم يستطيعون التوجه إلى ملياري مسلم في العالم باللهجة الاستعلائية نفسها التي يتوجهون بها إلى حوالي 5 ملايين من رعاياها المسلمين الفرنسيين. تلك الدولة التي تعتقد وزارة خارجيتها أنه بإمكانها أن تأمر ملياري مسلم، يعيشون في دول لها سيادتها، عن "التوقف فوراً" عن مقاطعة البضائع الفرنسية في العالم، وإن لم يتوقفوا فهم من المتطرفين الإرهابيين، وذلك في لهجة "نيو-كولونيالية" مقيتة ملؤها العجرفة والخلط التعسفي للأمور والوقائع والمفاهيم، وتصرف أقل ما يقال فيه إنه تصرّف أخرق لهواة غير محترفين، ومخالفة واضحة لأبسط مبادئ العلاقات والقانون الدوليين وقواعد الخطاب والحوار الدبلوماسي والاحترام بين الدول والشعوب.

تلك الدولة يعتقد سياسيوها وإعلاميوها، بالإضافة إلى أدواتهم من بعض المثقفين والإعلاميين في العالمين العربي والإسلامي، أنهم يستطيعون، بفكر محدود وسخيف، ممارسة الابتزاز الأخلاقي للمسلمين بأن يقبلوا مجبرين بالرسوم الكاريكاتيرية المسيئة إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإلا كانوا بنظر تلك الطبقة السياسية-الإعلامية الفرنسية من الإرهابيين أو من حواضنهم. وذلك بالرغم من الإدانات الواضحة والصريحة -دون تحفّظ- التي صدرت من مسلمي فرنسا والعالم للجريمة النكراء والوحشية التي أودت بحيات المدرس الفرنسي صامويل باتي، الجريمة البشعة التي لا يمكن أن يبررها أي دين ولا أي قانون.

محزن اليوم هو مشهد فرنسا في العالم، دولة يهاجم إعلامها المسلمين ويضطهدهم، لا لشيء، فقط لأنهم قرروا مقاطعة البضائع الفرنسية رداً على تبني الدولة الفرنسية للرسوم المسيئة للرسول. محزن هو مشهد دولة إعلامها والكثير من سياسييها غير قادرين حتى على فهم حقيقة بسيطة قوامها أنّ لكل حضارة من حضارات العالم مبادئها الخاصة وقيمها. وأن القيم التي تصح في بقعة معينة من العالم لا تصح بالضرورة في منطقة أخرى من الكرة الأرضية. وأنّ مجتمعاً ملحداً بنصفه يغرق في المادية، يختلف عن مجتمع متديّن يتمسك بروحانيته كجزء أصيل من هويته.

محزن هو مشهد فرنسا اليوم، فرنسا التي تستحق أفضل من أولئك الذين يدفعونها بتهوّر كبير في أتون صراع الحضارات في الداخل والخارج، لا لشيء، فقط من أجل حفنة من الأصوات يعتقدون خطأ أنهم سيخطفونها من درب اليمين المتطرف، حفنة من الأصوات أصبح ماكرون بأشد الحاجة إليها لا سيما بعد فشله المتكرر في معالجة تداعيات أزمة كورونا الكارثية على فرنسا. 

محزن هو مشهد فرنسا اليوم، فرنسا التي تزخر بكبار علماء السياسة والاجتماع المختصين بالعالمين العربي والإسلامي، فرنسا التي تزخر بالدبلوماسيين المحنكين، ولكن التي يفتقر قادتها إلى الإرادة في سماع حكمة كل هؤلاء وصوت الضمير.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد