لو لم تقرر رولا ستيفان في اللحظة الأخيرة أن تصطحب أطفالها إلى الكنيسة مساء الثلاثاء، الرابع من أغسطس/آب، ربما كانت قد ماتت هي وأولادها، إذ تمثل قصتها نموذجاً للمأساة التي يعيشها لبنان بعد عام من انطلاق الحراك المطالب بالتغيير.
لم يبق في المنزل إلا زوجها، الذي نجا بأعجوبة لأنه صعد إلى سطح المبنى ليشاهد الحريق الذي خيم على ميناء بيروت على بعد مئاتٍ من الأمتار فقط أمام المنزل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
قالت رولا، أمٌّ لخمسة أطفال وناشطة سياسية، إنها "لمعجزة" أن موجة التضاغط المدمرة أطاحت بزوجها إلى الخلف بعرض المبنى، وإلا لسقط من فوق السطح ولقي حتفه.
تكمل رولا، البالغة من العمر 48 عاماً، متحدثة عبر الهاتف إلى صحيفة الإندبندنت البريطانية من اليونان حيث تقيم حالياً: "فقدنا منزلنا وأغراضنا وكل مكاتبنا. كلها كانت تواجه الميناء مباشرة. ووجدت أن الوضع خطر على أطفالي. لا أريدهم أن يعيشوا هكذا. فقدت الأمل وتحتم علي المغادرة".
وتضيف رولا: "لقد غادرت لبنان لأنني لم أعد أؤمن به".
لبنان بعد عام من انطلاق الحراك يتحول إلى جحيم
مثل كثيرين في لبنان، غادرت رولا ستيفان البلد بعد الانفجار لتبني لها حياة جديدة في مكانٍ آخر.
لكن مشاعرها قبل عام كانت مختلفة تماماً، مثل عددٍ لا يحصى من سكان لبنان.
كانت رولا في طليعة المحتجين في الانتفاضة اللبنانية التي اندلعت في 17 أكتوبر/تشرين الأول تزامناً مع انهيار اقتصاد البلاد، الذي أنهكته عقود من الفساد وسوء الإدارة.
لأسابيع، نزل عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع في أنحاء لبنان للمطالبة بتغيير الطبقة الحاكمة.
الربيع اللبناني
وسرعان ما سميت هذه التظاهرات بثورة الربيع العربي اللبناني، ومع تصاعد حدة التظاهرات، استقال رئيس الوزراء سعد الحريري. وتعهدت النخب بإحداث تغيير حقيقي، وماجت الشوارع بالتوقعات والإمكانات.
وقالت رولا، التي أخذت أطفالها إلى هذه التظاهرات "المبهجة"، قالت إن الجميع آمنوا حينها أنها نقطة تحول في لبنان.
وأضافت: "لم يتحدث أحد عن الدين أو الطوائف أو الطبقات. كنا يداً واحدة. لقد كان أمراً جميلًا لدرجة لا توصف".
لكن بعد 12 شهراً، بعد انهيار الاقتصاد وانفجار الرابع من أغسطس/آب، غادر العديد من المتظاهرين أو يسعون الآن إلى مغادرة لبنان. وادخر البعض الآخر وباعوا ممتلكاتهم لتسفير أولادهم إلى الخارج. أما من لا يملكون ما يلزم للمغادرة، فيشعرون بيأسٍ قاهر.
المتظاهرون فقدوا الأمل ويفضلون الهجرة
لذا انحسرت المسيرات، مع أن الأوضاع تزداد سوءاً. وخرجت دعوات لتظاهرات يوم السبت، 17 أكتوبر/تشرين الأول، بمناسبة مرور عامٍ على انتفاضة أكتوبر، تنتهي بوقفة لتكريم ضحايا ميناء بيروت. لكن القليل يؤمنون بأن هذه التظاهرات قد تحدث أي تغيير حقيقي.
تقول رولا حلبي، ناشطة بارزة أخرى فقدت ثلاثة من أصدقائها وتحطمت مكاتب شركتها في الانفجار: "الناس الآن قلقون بشأن إطعام أطفالهم. لن ينزلوا إلى الشوارع وهم يقاتلون من أجل الحفاظ على حيواتهم".
وتقول رولا حلبي إن 80% من أصدقائها الذين نجوا من الانفجار غادروا البلاد. وكل من تبقى حاول إخراج أطفاله منها.
والطبقات الأفقر معدمة، والطبقة الوسطى تختفي ببطء، وفقاً لرولا حلبي. وتكمل من حطام مكاتب شركتها: "هذان هما الطبقتان الوحيدتان المتبقيتان: العالقون في بئر بلا قرار، ومن يقودون البلاد وينهبونها. نحن نختنق من كل الجوانب، والجميع يغادرون البلاد".
تلقت السلطات اللوم بسبب انفجار 4 أغسطس/آب، الذي قتل أكثر من مئتي شخصٍ وجرح نحو 7 آلاف آخرين. وكان الرئيس ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء على علمٍ بالمواد المتفجرة سيئة التخزين في ميناء بيروت، ولم يفعلوا شيئاً حيال ذلك.
تُلام الحكومة أيضاً بسبب الاقتصاد المنهار. فمنذ بداية العام انخفض سعر الليرة اللبنانية بنسبة 80%، في حين تضاعفت أسعار السلع الأساسية.
يعيش 60% من أهل لبنان الآن تحت خط الفقر، وفقاً للسلطات، بالمقارنة بالوضع قبل الانتفاضة حين كان ثلث السكان تحت خط الفقر.
وحذر الخبراء من ارتفاع معدلات التضخم في الشتاء القادم مع تعهد الحكومة بخفض الدعم على السلع الأساسية مثل الأدوية والوقود والخبز والكهرباء، في خطوةٍ قد تؤدي إلى زيادة الأسعار إلى أربعة أضعاف المستويات الحالية.
لكن لم يتم تنفيذ أي إصلاحات جادة، والسبب الأكبر في ذلك هو الأزمة السياسية في البلاد.
وقد أشعل الغياب الصادم لأي استجابة من السلطات بعد الانفجار موجة جديدة من التظاهرات في أغسطس/آب، أدى في النهاية إلى استقالة الحكومة بأكملها.
واختير مصطفى أديب رئيساً للوزراء، لكنه استقال في سبتمبر/أيلول قبل تنصيبه.
وتأجلت آخر محاولة لعقد نقاشات لاختيار رئيس وزراء آخر مرة أخرى يوم الأربعاء. والمرشح الأرجح لرئاسة الوزراء حتى الآن هو سعد الحريري.
وتقول ماريانا وهبة، مستشارة العلاقات العامة التي تحدثت إلى صحيفة الإندبندنت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين كانت تتظاهر كل يوم: "لقد أخذوا كرامتنا وأموالنا ومنزلنا. إنها أزمة تفوق الخيال".
مثل رولا حلبي، تركز وهبة هذه الأيام على مبادرة لمساعدة الناس بعد الانفجار. وقد أسست مبادرة "باب وشباك" التي أصلحت أكثر من 265 منزلاً متضرراً بالمجان، وتعمل على إصلاح 22 منزلٍ آخر. في حين لم تصلح الحكومة منزلاً واحداً.
وتكمل ماريانا قائلة: "في الرابع من أغسطس/آب كنا في منازلنا ومكاتبنا وفي المقاهي مع أطفالنا، وفي غضونٍ ثوانٍ كنا نسير في الشوارع على الجثث والزجاج المتناثر والدماء"، ووصفت الحياة في لبنان بأنها "جحيمنا".
"كان السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الأمل، كان الثورة والغضب لكن في أكثره كان الأمل. أما الآن، نشعر بأنه لا أمل".