من الأشياء القليلة الإيجابية التي يمكن ذكرها عن العام الحالي (عام الكورونا) انخفاض الانبعاثات الكربونية، بسبب قلة الحركة والسفر الداخلي والخارجي وإغلاق المدارس وأماكن العمل في كثير من الدول، ما أدى إلى تقليل حركة الطائرات والسيارات والمصانع وغيرها من وسائل تلويث الجو التي تعمل بالوقود الأحفوري. وقد بدأ هذا الأمر في الصين، التي اشتهرت بكونها واحدة من الدول الأكثر تلوثاً في العالم بسبب العدد الهائل من المصانع ووسائل النقل، بجانب استخدام الفحم الحجري بكثرة في التدفئة والصناعة وتوليد الكهرباء، حيث تسبب الإغلاق العام الذي طبّقته البلاد، في فبراير/شباط من العام الحالي، والأشهُر التي تلته، في تقليل الانبعاثات الكربونية المسببة للتلوث والاحتباس الحراري الناتج عن زيادة حرارة كوكب الأرض، تلتها إيطاليا وألمانيا اللتان تعتبران من كبار الدول الصناعية في أوروبا.
لكن الجانب الإيجابي في خفض الانبعاثات الكربونية أيضاً هو القرارات الصادرة عن قادة دول كبيرة ومؤثرة في التغير المناخي، مثل الصين والمملكة المتحدة، بالعمل على اتباع نهج مستقبلي يقلل من الانبعاثات الكربونية، بالاعتماد على وسائل الطاقة النظيفة مثل طاقة الرياح والسيارات الكهربائية، حيث تحدّث الرئيس الصيني شي جين بينغ في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 22 سبتمبر/أيلول المنصرم، عن أن الصين ستهدف إلى أن تصبح "خالية من انبعاثات الكربون" قبل عام 2060. وهو أول هدف طويل الأجل لبكين في مجال مكافحة التغير المناخي، وبذلك تنضم الصين إلى الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وعشرات الدول الأخرى في تبني أهداف مناخية لمنتصف القرن، وفقاً لما دعت إليه اتفاقية باريس.
ولتوضيح تأثير الصين الكبير في التغير المناخي سأقتبس للقارئ الكريم عبارة للباحثة الأمريكية في مجال المناخ باربارا فينامور (Barabra Finamore)، عن الوضع في الصين، تقول فيها إنّ "الصين مسؤولة حالياً عن 28% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، أي أكثر من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين. ومن الناحية العملية، فإن التحول إلى حالة الدولة "الخالية من الانبعاثات الكربونية" يعني أنه سيتعين على الصين تقليل انبعاثات الكربون بنسبة تصل إلى 90%، وتعويض الباقي من خلال الأنظمة الطبيعية أو التقنيات التي تمتص كمية أكبر مما تصدره من الكربون من الغلاف الجوي. وإذا نجحت فإن هذا الجهد وحده سيخفض حوالي 0.2 إلى 0.3 درجة مئوية من توقعات زيادة مستوى الحرارة عالمياً، ما يجعل تعهّد شي جين بينغ أكبر التزام مناخي في العالم حتى الآن".
لكن خطط الحكومة الصينية لتقليل الانبعاثات الكربونية والإسهام في جعل الحياة على كوكب الأرض أقل تلوّثاً وحرارة تعود لخمس سنوات خلت، حينما فاجأت العالم بمصادقتها (هي والولايات المتحدة) على اتفاقية باريس للمناخ، خلال لقاء الرئيسين شي جين بينغ وباراك أوباما، على هامش قمة مجموعة العشرين في خانجو (Hangzhou) شرق الصين، في سبتمبر/أيلول 2016. ومنذ ذلك الحين خطت الصين خطوات واسعة في التقليل من الانبعاثات الحرارية والتلوث في مدنها، عن طريق تطبيق قواعد صارمة للمصانع، لدرجة تطبيق خطة لإغلاق الكثير من مصانع الحديد والصلب المسببة للتلوث في مقاطعة خه بي (Hebei) المحيطة بالعاصمة.
وتشجيع التوسع في استخدام السيارات والقطارات الكهربائية، وقد دهشتُ عند زيارتي للصين، العام الماضي، من عدد السيارات الكهربائية من ماركة (تسلا) الشهيرة في شوارع العاصمة بكين. كما لفت نظري السماء الزرقاء الصافية في بكين، وعدد من المدن التي قمت بزيارتها، وتذكّرت نسبة تلوث الجو والانبعاثات والغبار العالق الذي كان يجعل رؤية السماء صافية ضرباً من الخيال قبل بضع سنوات عندما كنت أعيش في ذلك البلد.
التغييرات الكبيرة في القوانين المتعلقة بالمناخ، والتصريحات التي كان أكثرها أهمية تصريح الرئيس الصيني في كلمته في الأمم المتحدة، الشهر الماضي، توضّح التغيير الكبير في عقلية صانع القرار في الصين تجاه قضية التلوث. وهي تأتي في إطار تغيير كبير في الاقتصاد والمجتمع الصيني الذي تجاوز مرحلة الاعتماد الكبير على التصدير، وأولويات إخراج مئات الملايين من الصينيين من خط الفقر، إلى اقتصاد متكامل يعتمد على الاستهلاك الداخلي والطبقة المتوسطة الكبيرة وارتفاع مستوى الدخل بصورة كبيرة في العقدين الأخيرين. والمتابع للأوضاع في الصين يشهد الطفرة الكبيرة في العمران ومستوى المعيشة ومعدل إنفاق الأسرة والفرد الصيني، ما يجعل المجتمع والحكومة يفكّران في التطوير النوعي القائم على مفهوم جودة الحياة (quality of life)، بعد أن تجاوزت البلاد مشكلات الغذاء والفقر والبنية التحتية والخدمات الصحية والتعليمية، وغيرها من المشكلات التي تواجهها دول العالم الثالث.
إن الصين التي كانت قبل 3 سنوات فقط تستهلك نصف إنتاج العالم من الفحم الحجري، المعروف بتسبّبه في التلوث بنسبة أكبر من باقي أنواع الوقود الأحفوري، والذي كان يُستهلَك في التدفئة ومحطات توليد الكهرباء ومصانع الحديد والصلب التي تنتج نصف إنتاج العالم من الحديد، والتي أصبحت أكبر مستورد للنفط الخام في العالم منذ سنوات، أصبحت الآن رائدة العالم في التقنيات النظيفة، حيث يعدّ هذا البلد أكبر مستثمر ومنتج ومستهلك للطاقة المتجددة. فواحد من كل ثلاثة ألواح شمسية وتوربينات رياح في العالم توجد في الصين، كما أن ما يقارب نصف عدد السيارات الكهربائية في العالم، و98% من الحافلات الكهربائية، و99% من الدراجات الكهربائية توجد في الصين. كما تعتبر الصين أكبر منتج في العالم لبطاريات تشغيل السيارات الكهربائية، وبحلول العام 2025 ستكون مرافق البطاريات الخاصة بها ضعف قدرة بقية العالم مجتمعة.
دولة أخرى تخطو خطوات جيدة في سياساتها المتعلقة بالتغير المناخي، هي المملكة المتحدة، حيث وعدت الحكومة البريطانية بوضع خطة استثمارية ضخمة للاعتماد بشكل كلّي على الطاقة المتجددة، المُتمثلة في طاقة الرياح، لإنارة كافة المنازل والوحدات السكنية بحلول العام 2030. حيث صرّح رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بأن الطاقة المتجددة ستعمل على إمداد كل المنازل في البلاد باحتياجاتها من الطاقة الكهربائية. وشهد العام الماضي قطع الحكومة البريطانية لوعد بإمداد إنجلترا وويلز واسكتلندا وشمال أيرلندا بـ30 غيغاواط من الطاقة الكهربائية المُتولدة من الطاقة المتجددة، ليعلن جونسون في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن التزام حكومته بزيادة حجم الطاقة الكهربائية إلى 40 غيغاواط في حال فوز حزبه في الانتخابات.
ورغم التزام حكومة رئيس الوزراء جونسون بوعدها، بسبب استخدام الأموال المُخصصة لها لمكافحة تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد، وضخ الأموال في قطاعات الصناعة وسوق العمل لحمايتها من الانهيار، فإن وعود جونسون باستثمار الحكومة لـ160 مليون جنيه إسترليني للبدء في صناعة الدفعة الأولى من توربينات طواحين الهواء لإنتاج الكهرباء بحلول عام 2030، توضّح الإرادة السياسية لدى حزب المحافظين، للإسهام في عالم خالٍ من التلوث والاحتباس الحراري والغازات الضارة.
جدير بالذكر أن المملكة المتحدة تنتج حالياً 10 غيغاواط من احتياجاتها الكهربائية، بواسطة مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح، لكنها تحتاج إلى صناعة حوالي 260 توربينة سنوياً لتصل في العام 2030 إلى إنتاج 40 غيغاواط من الطاقة الكهربائية القادمة من طاقة الرياح. ويمكننا هنا الإشارة إلى بيع الكثير من مصانع الحديد والصلب في المملكة المتحدة قبل سنوات قليلة إلى مستثمرين من الهند، غالباً ما سيقومون بنقلها إلى الهند أو مناطق أخرى في العالم.
الجهود الصينية والبريطانية تبشر بمستقبل أفضل للأجيال القادمة، وذلك بعد أن بلغت مستويات التلوث والاحتباس الحراري مستويات غير مسبوقة في الأعوام الأخيرة. وقد حذّر تقرير صادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية من تسجيل كوكب الأرض خلال الأعوام الخمسة المقبلة، زيادة قياسية في درجات الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية على الأقل.
الأمر الذي دفع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش للقول "إن العالم لا يزال بعيداً عن المسار الصحيح لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى 1.5 درجة مئوية".
ولو سعت الحكومة الأمريكية القادمة، في حال فوز جو بايدن، لتغيير سياسة إدارة ترامب الحالية المنسحبة من اتفاقية باريس، فإن العالم سيكون موعوداً بخطوات كبيرة في تحسين المناخ عالمياً، بدخول الصين والولايات المتحدة ودول أوروبية كبيرة مثل بريطانيا وألمانيا في السياسات الإيجابية المؤدية لعالم أنظف وأكثر خضرة.
على دول المنطقة العربية التي تسهم بثلث إنتاج العالم من النفط أن تراجع حساباتها القديمة المعتمدة لعقود على رفد خزائنها وميزانياتها من أموال النفط، حيث سيشهد العالم طفرة كبيرة في إنتاج الكهرباء لاستخدامها في النقل. وعلى هذه الدول التي ليس لديها إسهام يذكر في السياسات العالمية لتقليل الانبعاثات الكربونية، أن تعمل على تنويع مصادر دخلها استعداداً لانخفاض كبير في استهلاك النفط في العقود -إن لم يكن في السنوات- القادمة.
والتحول نحو التصنيع واقتصاد المعرفة والاستثمار في التعليم التفني ستكون أولى الخطوات في هذا التنويع. حتى لا تفاجأ هذه الدول بأن خزائنها أصبحت فجأة خالية عندما تنقطع عائدات النفط، وهو أمر حدث لدول مثل السودان بعد انفصال جنوب السودان عنه. وحدث جزئياً لعدد من دول الخليج، ودول كنيجيريا والجزائر عدة مرات، عند هبوط أسعار النفط لما دون الثلاثين دولاراً للبرميل. ولا يستبعد أن يتم مع دول عربية أخرى تعتمد على عائدات النفط اعتماداً كاملاً، وتنسى أن العالم يتغير باتّجاهه نحو الطاقة النظيفة بعيداً عن التلوث ومشكلات النفط البيئية والسياسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.