كانت الصورة الأولى التي تم التقاطها لثقب أسود في وسط مجرة أخرى، ضبابية للغاية. شوهدت في صورة ظلية، وبدت مشوشة، وكذلك حلقة الغاز الساخن المحيطة بها. لم يكن رد فعل الجمهور بالضرورة متطابقاً مع الفرح المطلق لعلماء الفلك المعتادين على استخلاص العجائب الكونية من الخطوط في الرسم البياني.
لأي شخصٍ أكثر دراية بالثقوب السوداء من أفلام الفضاء الملحمية، بدا هذا في الغالب مثل كعكة دونات محاطة باللهب.
لكن هذه الصورة واحدة من أكثر الإنجازات غير العادية في العلوم الحديثة، وتجسيدٌ لقدرة البشرية على الوصول عبر السنوات الضوئية.
جائزة نوبل لدارسي الثقوب السوداء
حتى فترة قريبة، لم يكن بإمكان العلماء أن يقولوا بثقة كبيرة إن الثقوب السوداء موجودة، ولا يعرفون أن ثقوباً عملاقة موجودة في مركز مجرتنا.
وبالفعل، كرمت لجنة نوبل في عام 2020 عقوداً من أبحاث الثقوب السوداء من خلال منح جائزة الفيزياء لثلاثة علماء.
ذهب نصف الجائزة إلى روجر بنروز من جامعة أوكسفورد والذي أظهر إمكانية وجود الثقوب السوداء، وذهب النصف الآخر إلى راينهارد جينزل، من معهد ماكس بلانك للفيزياء خارج الأرض وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وأندريا غيز، من جامعة كاليفورنيا، اللذين قدَّما الدليل الأكثر إقناعاً على وجود ثقب أسود معين، وهو الثقب الموجود في منتصف مجرة درب التبانة.
تجدر الإشارة إلى أن غيز هي رابع امرأة فقط تحصل على هذا التكريم خلال ما يقرب من 120 عاماً من تاريخ نوبل، بحسب ما نشرته مجلة Atlantic.
أكثر ظواهر الكون لغزاً
وتعتبر الثقوب السوداء من أكثر الظواهر غموضاً في الكون. إذ تشكلت من نوى النجوم الميتة، وهي كثيفة للغاية بحيث لا يمكن لأي شيء الهروب من جاذبيتها، ولا حتى الضوء، مما يجعلها غير مرئية.
يمكن أن تنطفئ نجوم بأكملها إذا تخطت حدود الثقب الأسود، وعبرت نقطة اللاعودة.
توقع ألبرت أينشتاين منذ أكثر من قرن، استناداً إلى نظرياته التي تفكك طبيعة الجاذبية، أن مثل هذه الأجسام الغريبة يمكن أن توجد، لكنه اعتقد أن الفكرة بعيدة المنال.
وفي عام 1965، بعد وفاة أينشتاين، نشر بنروز، أستاذ في جامعة أوكسفورد، ورقة توضح رياضياً، أن قوى الكون يمكن أن تُنتج بالفعل ثقوباً سوداء، وأن داخل أعماقها التي لا يمكن اختراقها يوجد شيء يسمى التفرد، نقطة غامضة لا يعرفها أحد، ولا يمكن أن تصفها قوانين الفيزياء.
قد يبدو الأمر صعب التصديق، ولكن من دون الثقوب السوداء، لا تكون حركات النجوم البعيدة في مجرتنا منطقية دائماً.
أمضى جينزل وجيز سنوات عديدة في البحث في السحابة الكونية للغاز والغبار بين النجوم في قلب المجرة، من خلال أكبر تلسكوبات بالعالم.
اكتشفا نجوماً تدور حول بقعة فارغة على ما يبدو بسرعات مذهلة، بيئة فوضوية لا يمكن أن تكون منطقية إلا في وجود ثقب أسود هائل.
هذه المنطقة في مجرتنا، والمعروفة باسم Sagittarius A ، لها كتلة أكبر بـ4 ملايين مرة من شمسنا، محشورة في فضاء أصغر من نظامنا الشمسي.
واكتشف علماء الفلك ثقوباً سوداء أخرى أيضاً من خلال مراقبة المدارات الغريبة لنجوم غير محظوظة.
كما رأوا ثقوباً سوداء في الوهج الصادر من المادة وهي تغرق في الأعماق غير المرئي، وهي عملية شديدة بحيث تضيء الجسيمات بشكل جميل.
وقد شعروا بها في تموجات نسيج الزمكان، أي موجات الجاذبية التي تنتشر عبر الكون عندما يصطدم ثقبان أسودان.
واتضح أن الثقوب السوداء موجودة في كل مكان، بمركز معظم المجرات وتنتشر من خلالها، وتأتي بأحجام مختلفة؛ بل إن بعضها كبير جداً لدرجة أنه من الناحية النظرية لا ينبغي أن تكون موجودة.
وفي وقت سابق من هذا العام (2020)، وجد علماء الفلك أقرب ثقب أسود معروف إلى الأرض على بُعد 1000 سنة ضوئية، أي على عتبة بابنا من خلال المقاييس الكونية، في كوكبة يمكن رؤيته بالعين المجردة.
إن التنوع في الاكتشافات مثير للإعجاب بالنسبة إلى شيء يشتهر بعدم وجوده.
هذا الثقب الأسود القريب لا يمثل تهديداً للأرض، ولا يوجد ثقب أسود معروف يمكن أن يمثل تهديداً هو الآخر.
بل إن الأرض تستفيد من وجود هذه النجوم الثاقبة.
فالانفجارات النجمية التي تنتج الثقوب السوداء تنفث عناصر مثل الكربون والنيتروجين والأكسجين في الفضاء.
وبالتالي يساعد تصادم الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية على انتشار العناصر الأثقل مثل الذهب والبلاتين، والتي تشكل الأرض وذواتنا البشرية.
وقد تلعب الثقوب السوداء الهائلة، على وجه الخصوص، دوراً مهماً في تكوين النجوم داخل المجرات، والتي تملي متى يتباطأ الإنتاج ومتى يتوقف تماماً.
يوضح مدير مركز كولومبيا للبيولوجيا الفلكية، كاليب شارف، في كتابه "محركات الجاذبية": "هذه الزاوية الخصبة من الكون يحكمها كل ما يدور حولها، الأمر الذي يضمن سلوك الثقب الأسود في مركز مجرتنا".
ومنذ أن أسرت الثقوب السوداء مخيلة الجمهور لأول مرة منذ عقود، اكتسبت سمعة معينة، إذ تم تصنيفها على أنها وحشية ومدمرة ومصممة لالتهام أي شيء يجرؤ على الاقتراب من فلكها الكوني.
لكن من دونها، سيكون شكل الكون وكوكبنا على وجه التحديد مختلفاً كلياً.
كيف رأى العلماء الثقوب السوداء غير المرئية إذن؟
لا يمكن لأي ضوء من أي نوع، وضمن ذلك الأشعة السينية، الهروب من داخل أفق الثقب الأسود، وهي المنطقة التي لا عودة بعدها.
وبحسب ما نشرته NASA على موقعها الرسمي، فإن التلسكوبات التي تدرس الثقوب السوداء تبحث في البيئات المحيطة للثقوب السوداء، حيث توجد مواد قريبة جداً من أفق الحدث.
تسخن المادة بنحو ملايين الدرجات حين يتم سحبها نحو الثقب الأسود، لذا تتوهج في الأشعة السينية.
تعمل الجاذبية الهائلة للثقوب السوداء أيضاً على تشويه الفضاء نفسه، لذلك من الممكن رؤية تأثير سحب الجاذبية غير المرئية على النجوم والأشياء الأخرى.
كم من الوقت يستغرق تكوين ثقب أسود؟
من المحتمل أن يتشكل ثقب أسود ذو كتلة نجمية تزيد عشرات المرات على كتلة الشمس، في ثوانٍ، بعد انهيار نجم ضخم.
يمكن أيضاً إنشاء هذه الثقوب السوداء الصغيرة نسبياً من خلال اندماج بقايا نجمية كثيفة تسمى النجوم النيوترونية.
يندمج النجم النيوتروني أيضاً مع ثقب أسود لتكوين ثقب أكبر، أو يمكن أن يصطدم ثقبان أسودان. مثل هذه الاندماجات تصنع ثقوباً سوداء بسرعة وتنتج تموُّجات في الزمكان تسمى موجات الجاذبية.
الأمر الأكثر غموضاً هو الثقوب السوداء العملاقة الموجودة في مراكز المجرات، والتي يمكن أن تزن ملايين أو مليارات أضعاف كتلة الشمس، فمن غير المعروف كم من الوقت يستغرق تشكيلها بشكل عام.
ماذا لو تحولت الشمس إلى ثقب أسود؟
لن تتحول الشمس أبداً إلى ثقب أسود، لأنها ليست ضخمة بما يكفي لتنفجر. بدلاً من ذلك، ستصبح الشمس بقايا نجمية كثيفة تسمى القزم الأبيض، حسبما أوضحت ناسا.
هل يمكن أن تصبح الثقوب السوداء أصغر؟
نعم. اقترح الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينغ أنه بينما تكبر الثقوب السوداء عن طريق ابتلاع ما حولها، فإنها تتقلص ببطء، لأنها تفقد كميات ضئيلة من الطاقة تسمى "إشعاع هوكينغ".
يحدث إشعاع هوكينغ لأن الفضاء الفارغ، أو الفراغ، ليس فارغاً حقاً؛ هو في الواقع بحر من الجسيمات التي تظهر وتختفي من الوجود باستمرار.