إما عن طريق دعم الانقلابات أو فرض العقوبات الاقتصادية أو فرض حظر طيران أو الاحتلال العسكري المباشر، السياسة المفضلة للولايات المتحدة هي السعي لتغيير النظام لأسباب متعددة، فلماذا لا تتعلم واشنطن من فشلها المتكرر في الشرق الأوسط؟
قائمة طويلة من المغامرات الكارثية
حاولت الولايات المتحدة تغيير النظام الحاكم في بلدان الشرق الأوسط لأسباب متعددة وبأساليب متنوعة منذ خمسينيات القرن الماضي وتكررت تلك المحاولة مرة على الأقل كل عشر سنوات؛ في إيران وأفغانستان (مرتين) والعراق وليبيا ومصر وسوريا، وفي كل تلك الحالات كانت أهداف واشنطن تتمثل في التخلص من رأس النظام الحاكم وتغيير النظام السياسي، وتباينت دوافع واشنطن من حالة لأخرى كما تباينت أساليبها في تحقيق تلك الأهداف.
ففي بعض الحالات دعمت انقلاباً عسكرياً وفي حالات أخرى قامت بالغزو وفي حالات ثالثة اعتمدت الضغوط الدبلوماسية وفرض العقوبات، لكنْ هناك شيء واحد فقط مشترك بين كل تلك المحاولات وجميع الحالات وهو النتيجة؛ فقد كان الفشل الذريع والخراب والدمار هو النتيجة، إضافة للتكلفة البشرية والمادية الكبيرة التي تتكبدها الولايات المتحدة نفسها.
وفي تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية بعنوان "الوعد الكاذب بتغيير النظام"، رصد كاتبه فيليب غوردون مؤلف كتاب "الخسارة على المدى البعيد: الوعد الكاذب لتغيير النظام في الشرق الأوسط"، قصة الفشل المتكرر في تغيير النظام في دول الشرق الأوسط في تحقيق الأهداف الأمريكية وأسباب ذلك الفشل.
البداية كانت من إيران
عام 1953 ساعدت المخابرات المركزية الأمريكية انقلاباً ضد حكومة محمد مصدق وساعدت الشاه محمد رضا بهلوي على إحكام قبضته على البلاد، وكان الهدف الأمريكي وقتها هو إبعاد طهران عن المعسكر السوفييتي، لكن فساد نظام الشاه ووحشيته التي غضَّت أمريكا الطرفَ عنها أدى في نهاية المطاف إلى قيام الثورة الإسلامية في البلاد بزعامة آية الله الخوميني والتي نتج عنها إعلان قيام الجمهورية الإسلامية التي أصبحت عاملاً رئيسياً في زعزعة الاستقرار في المنطقة ومركزاً لاستهداف المصالح الأمريكية نفسها.
وفي أفغانستان في الثمانينيات، قدمت أمريكا الدعم العسكري للمجاهدين هناك وجلبت مقاتلين من جميع الدول العربية والإسلامية للتصدي للغزو السوفييتي دون أن تتورط في حرب مباشرة مع المعسكر الشرقي، وبالفعل انسحب الغزاة السوفييت، لكنَّ هؤلاء المقاتلين أصبحوا نواة لعدم الاستقرار سواء في بلادهم التي عادوا إليها أو في أفغانستان حيث تشكل منهم تنظيم القاعدة الذي نفذ هجمات سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية على الأراضي الأمريكية وما تبعها من غزو أفغانستان ثم العراق وغيرها من التداعيات الكارثية التي حلت بالعالم أجمع.
غزو العراق
على الرغم من أن الولايات المتحدة أوعزت لصدام حسين بمحاربة إيران عام 1980 ووقفت بجواره في تلك الحرب المدمرة، وإن اتضح أنها تقدم أيضاً الأسلحة لإيران من خلال فضيحة "إيران-كونترا جيت"، فإنه بعد غزو صدام حسين للكويت عام 1990 وما تلا ذلك من حرب تحرير الكويت، قررت إدارة جورج بوش الأب أن تغيير نظام صدام حسين هو الحل الأمثل لمشاكل العراق والمنطقة وبنت قضيتها أمام الرأي العام الأمريكي على معطيات اتضح لاحقاً أنها خادعة، لكن كانت الواقعة قد وقعت بالفعل.
وهنا يطرح غوردون سؤالاً منطقياً وهو لماذا تغيير النظام في الشرق الأوسط صعب لهذه الدرجة؟ ولماذا يصمم قادة أمريكا وخبراؤها الاستراتيجيون على أنهم يمكنهم أن يقوموا به بطريقة صحيحة؟ وعلى الرغم من وجود إجابات سهلة لتلك الأسئلة والاعتراف بعدم وجود بدائل مغرية لتغيير النظام، من وجهة النظر الأمريكية بالطبع، يظل على الساسة والعسكريين في واشنطن أن يتخلصوا من أوهامهم الشخصية وأحكامهم الخاطئة عند العامل مع تلك المنطقة الشائكة التي أثبت تغيير النظام فيها مراراً وتكراراً أنه لا يؤدي سوى لمزيد من الخراب والكوارث.
ففي كل مرة يبني صناع القرار في واشنطن قرارهم بتغيير النظام على معطيات مأخوذة من مصادر محلية معارضة للنظام المراد تغييره ودائماً ما تكون المعلومات من تلك المصادر مغلوطة وتجافي الحقيقة على الأرض، وهو بالتحديد ما حدث في غزو العراق، حيث كان أحمد الجلبي المعارض العراقي لصدام حسين مصدراً رئيسياً لمعلومتين خاطئتين تماماً، أولاهما أن نظام صدام حسين يمتلك بالفعل أسلحة دمار شامل، والثانية أن العراقيين سيقابلون الجيش الأمريكي بالورود في شوارع بغداد وباقي المدن.
وهكذا سوّقت إدارة بوش الابن قرار غزو العراق لمواطنيها على أن نظام صدام حسين يمثل خطراً داهماً على المصالح الأمريكية ويدعم الإرهابيين ويقمع شعبه الذي يستحق الحرية والديمقراطية، وغزت أمريكا العراق في مارس/آذار 2003 في واحدة من أكثر الحروب تدميراً وتكلفة بشرية ومادية، وغيرت أمريكا نظام صدام حسين، فماذا كانت النتائج للشعب العراقي وللولايات المتحدة نفسها؟
غرق العراق في دوامة من العنف والفساد والقمع، وأصبح ملعباً إيرانياً خالصاً، وقتل مئات الآلاف من العراقيين ويعيش الشعب العراقي ظروفاً اقتصادية مأساوية مع انتشار البطالة وتدني الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وكهرباء ومياه شرب وغيرها، رغم ثروات بلاد الرافدين المتعددة من نفط وغاز وزراعة وموارد طبيعية يفترض أن توفر عيشة رغدة لمواطنيها.
هل تعلمت واشنطن الدرس؟
بعد غزو أفغانستان والعراق والتدمير والخراب والخسائر البشرية الهائلة في البلدين وخسارة الأمريكيين أنفسهم بشرياً وسياسياً ومادياً أيضاً، كان من المفترض أن تعيد واشنطن التفكير في سياستها الخاصة بالسعي لتغيير الأنظمة في بلدان الشرق الأوسط التي يجهل الساسة والخبراء الأمريكيون طبيعتها وتاريخها وإرثها الثقافي وكل ما يخصها بشكل عام، وخصوصاً طبيعة شعوب المنطقة التي ترفض الاحتلال أياً كانت صورته ومبرراته، وخصوصاً بعد الدروس العملية التي وفرتها كارثتا أفغانستان والعراق.
ففي أفغانستان حاول الرئيس حامد قرضاي أن يفرض سلطته ويحكم البلاد، لكن العقبة الرئيسية – بخلاف جميع العوامل الأخرى – كانت في النظرة العامة له على أنه رئيس زرعته أمريكا ويحكم البلاد بحماية أمريكية، وفي العراق كانت قصة أحمد الجلبي أكثر وضوحاً، ووصل الأمر إلى محاكمته لاحقاً من جانب السلطات العراقية بتهم التزوير والعمل لصالح إيران في البلاد.
لكن جاء الربيع العربي عام 2011 ليثبت أن الولع الأمريكي بتغيير الأنظمة لا زال على حاله، وأن شيئاً لم يتغير؛ فعلى الرغم من أن نظام حسني مبارك في مصر كان حليفاً رئيسياً لأمريكا على مدى ثلاثة عقود وواشنطن على دراية تامة بفساد النظام وقمعه ومعاناة المصريين تحت حكمه، لكن سرعان ما تخلت إدارة أوباما عنه وطالبته بالرحيل وهو ما مثل دفعة قوية للثوار المتواجدين في الميادين وتخلى مبارك عن السلطة، وأجريت انتخابات أتت في النهاية بنظام إسلامي وهي نتيجة لم تكن واشنطن مستعدة لها، ليحدث الانقلاب العسكري ويفرض حليفاً جديداً لأمريكا هو عبدالفتاح السيسي نظاماً أكثر قمعاً وفساداً من نظام مبارك.
وفي ليبيا، ساندت أمريكا الإطاحة بنظام معمر القذافي من خلال حلف الناتو، لكن النهاية البشعة التي تعرض لها القذافي بتعذيبه وقتله على الهواء، انعكست بشكل مباشر على تمسك ديكتاتور آخر وهو بشار الأسد بمنصبه في سوريا وسلم نفسه تماماً لروسيا وإيران لحمايته وهو ما حدث بالفعل، حيث لا يزال بشار الأسد في قصره بينما ملايين السوريين فقدوا إما حياتهم أو بيوتهم وأصبحو لاجئين أو نازحين داخل البلد الذي أصبح حطاماً وخراباً.
ضربة البداية أمريكية، لكن ماذا عن النهاية؟
قصة تغيير النظام التي أصبحت أيقونة السياسة الخارجية الأمريكية ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن حول العالم كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء فشل شعوب المنطقة في تحقيق طموحاتها في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم، فلولا ذلك التدخل الأمريكي الذي أدى لتدخل قوى أخرى إقليمية وعالمية في شؤون الشرق الأوسط لربما اختلفت أمور المنطقة بشكل جذري.
ويكمن لب مشكلة تغيير النظام في أنه عندما تقوم قوة خارجية بإسقاط أو حتى إضعاف نظام قائم يظهر فراغ سياسي وأمني ويبدأ مباشرة صراع السلطة لشغل ذلك الفراغ، ولا يكون أمام الناس سوى الاعتماد على أنفسهم لتأمين النفس والممتلكات، وهنا تظهر التكتلات العائلية والقبلية والمناطقية بغرض تأسيس شبكة أمان جديدة كبديل مؤقت وسريع.
ويؤدي هذا إلى إذكاء النزعات القبلية والطائفية والدينية مما يؤدي في بعض الأحيان لمطالبات بالانفصال عن الدولة، كما أنه في الفترة القصيرة التي تسبق سقوط أو إسقاط النظام تنشأ تحالفات بين مجموعات أو أحزاب أو تكتلات مختلفة بشكل جذري، لكن تجمعها في ذلك الوقت مظلة التخلص من النظام، وبمجرد سقوط النظام تبدأ الاختلافات بين تلك التحالفات المؤقتة في البروز على السطح، وتتحول في أغلب الأحيان إلى صراعات عنيفة تؤدي للفوضى، وهذا بالتحديد ما نتج في كل مرة قامت فيها أمريكا بتغيير نظام ما في الشرق الأوسط، والنتيجة فوضى عارمة وخراب تدفع ثمنه شعوب المنطقة.
وهناك عامل آخر لا يقل أهمية عما سبق وهو دور القوى الإقليمية والعالمية في حالات سعي أمريكا لتغيير النظام في أحد بلدان الشرق الأوسط، فتلك القوى إما أن تسارع لمحاولة الحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية من الفراغ الذي ينتج عن إسقاط النظام من خلال دعم أحد الفرق المحلية، أو قد تسعى لضمان عدم حدوث استقرار في تلك الدول حتى لا تنجح خطط أمريكا من الأساس، والمعروف أن محاولة فرض الاستقرار أصعب كثيراً من تغذية الفوضى، وهو ما يعني فشلاً أمريكياً في كل مرة.