هناك اعتقاد يسود الأوساط السياسية والاقتصادية بأن جذور الأزمة في لبنان نابعة من نظام المحاصصة بين أمراء الطوائف الذي يسود الحياة الاجتماعية والسياسية منذ انتهاء الحرب الأهلية. ويمتد ذلك الاعتقاد إلى تصور أنه بعد تعديل سلوك الطبقة الحاكمة ومكافحة الفساد وعمليات هدر المال العام ستستقيم الأمور وسيتعافى لبنان، ولكن مثل هذا الاعتقاد ينافي الحقيقة، لأن دور نظام المحاصصة الطائفي في الأزمة اللبنانية الجارية هو تسريع حالة الانهيار والتشظي الجارية، لكن أسباب هذا الانهيار، سياسياً واقتصادياً وسيادياً، ترجع إلى خلل بنيوي في بنية النظام القائم، خلل دأب أمراء الطوائف على التغاضي عنه، والتهرب من إيجاد الحلول المناسبة له، حتى توالت الكوارث في مختلف المجالات، وبات من الصعب تصور أو وضع خارطة طريق للخروج من النفق المظلم الذي دخله لبنان.
ورغم أنه كان بالإمكان الخروج من المأزق سريعاً في السابق، فإن لبنان اليوم يحتاج إلى مدة لا تقل عن بضعة عقود للتعافي، هذا إذا توفرت النوايا الصادقة والإرادة الفعلية لنقل لبنان من متاهات الدولة الفاشلة إلى الاستقرار والازدهار.
محاصصة بلا ديمقراطية
أما الخلل البنيوي في النظام السياسي فهو ناتج عن عدم تطبيق مخرجات اتفاق الطائف، الاتفاق الذي أقر كنصوص في تعديلات دستورية تم تطبيقه بشكل هزلي، علماً أن جوهر اتفاق الطائف يرتكز إلى فلسفة الديمقراطية التوافقية من حيث كونها ديمقراطية ترتكز إلى لعبة الأكثرية والأقلية وفق قانون اللعبة السائد في كافة الدول الديمقراطية. إذ أقر اتفاق الطائف انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، أي على أساس وطني. وتأتي التوافقية التي أقرها اتفاق الطائف في استحداث مجلس شيوخ منتخب على أساس طائفي يراعي التنوع، ويضمن حقوق الطوائف بحيث تزول الهواجس ويختفي التوجس والقلق والخوف لدى كافة مكونات الشعب اللبناني. لكن القوى السياسية أعطت الميثاق تعريفاً مشوهاً، بحيث بات غضب أو حرد أحد ممثلي طائفة كبرى في البرلمان أو الوزارة كافياً لشل مؤسسات الدولة وتعطيل الاستحقاقات الدستورية، مثل تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية، أو تشكيل الوزارة. علماً أن ضمانة الميثاق من اختصاص مجلس الشيوخ الذي لم ولن يبصر النور على ما يبدو. والأنكى من كل ذلك أن القوى التي تشكو من لجوء الطرف الآخر إلى "الحرد" لتحقيق أهدافه تحت حجة الميثاقية هي نفسها من ترفض عملياً تطبيق اتفاق الطائف بكل ما اندرج تحته، خوفاً من انتخابات للمجلس النيابي على أساس وطني لاعتبارات ديمغرافية. والمضحك المبكي أن الطرف الذي عطل استحقاقات كثيرة بحجة الميثاقية يوم كان لا يمتلك الأكثرية النيابية نراه اليوم نسي الميثاقية ويدعو إلى الاعتراف بنتائج الانتخابات النيابية بعد أن حاز الأكثرية النيابية في الانتخابات الأخيرة. هذا الخلل البنيوي في النظام السياسي أدى إلى تشكيل حكومات تحت مسمى وحدة وطنية، وهي بالحقيقة حكومات محاصصة، وعلى ما يبدو فإن عملية التعاطي مع هذا الموضوع لم تتبدل رغم المآسي التي سببتها للشعب اللبناني.
اقتصاد أحادي
أما الخلل البنيوي في النظام الاقتصادي فنتج عن أحادية التوجه الاقتصادي نحو قطاع الخدمات والسياحة وإهمال القطاعات المنتجة من زراعة وصناعة، ونتائج هذا الخلل تبدو للعيان دون ذكرها. وكان مسك الختام الناتج عن هذا الخلل سطو المصارف على أموال المودعين الصغار منهم. وللأسف صار الأمل بأن تستعيد هذه المصارف ثقة المودعين كأمل إبليس في دخول الجنة، مما يترتب عليه حالة إرباك في نمط الاستثمارات وفي تحريك عجلة الاقتصاد من جديد، والآن تعبر السوق السوداء عن حقيقة الوضع الاقتصادي، تماماً كما يحدث في الدول الشمولية.
السلاح للجميع
وأما الخلل السيادي فهو ذو شقين؛ الشق الأول يتعلق بضرورة أن تكون العلاقة مع الدول العربية والأجنبية حصرية بيد الدولة، لكن في الواقع اللبناني كل حزب أو فصيل سياسي له وزير خارجيته وله علاقات مع دول أخرى، ويتلقى المساعدات وحتى الأوامر، ولا تحرك السلطة ساكناً بدلاً من محاكمة هؤلاء بتهمة التخابر مع الأجنبي. ولذلك يقتصر دور وزير الخارجية الرسمي على أعمال بروتوكولية وكتابة خطابات بصيغ إنشائية صاخبة تمجد لبنان. ناهيك عن أن هناك رؤساء جمهورية وأعضاء في المجلس النيابي وفي الحكومات المتعاقبة على لبنان يحملون جنسيات أجنبية كانوا قد حلفوا يمين الولاء لأوطانهم الجديدة للحصول عليها، وبذلك باتوا جالية أجنبية في بلدهم الأم، فبأي حق يتولون دفة الحكم فيه؟
والشق الثاني المتعلق بأزمة السيادة اللبنانية هو انتفاء حصرية امتلاك السلاح من طرف الدولة. فالفصائل والطوائف كلها تمتلك سلاحها وقادرة على محاربة وردع الدولة نفسها إذا ما تفاقمت الأمور، ولامتلاكها -أي الفصائل- تلك القدرة يفرض أمراء الطوائف أجندتهم السياسية على الدولة داخلياً وخارجياً ويقوضون سيادة الدولة.
هذا الخلل البنيوي في النظام اللبناني يؤكد استحالة الإصلاح وفشل أي مبادرة سياسية لا تحل المعضلات التي تناولناها. أضف إلى ذلك، معاناة الشباب اللبناني من يأس موضوعي وفقدان للأمل في حدوث أي تغيير. وصارت الهجرة هي الأمل المتبقي لهم في حياة هانئة كريمة.
والكل يعتبر أن مبادرة الرئيس ماكرون عبارة عن رمية ركنية سوف تفقد معناها نتيجة الدربكة التي يحدثها أمراء الطوائف أمام المرمى، ولا يصدق الشباب اللبناني أيضاً أن هذه المبادرة ناتجة عن حب الرئيس الفرنسي للشعب اللبناني، لأن المحب يهدي من يحب وردة في عيد العشاق، وليس إملاءات مع جزرة سوف يشرف على توزيعها منظمات دولية وعصا تلوّح.
والخلاصة أن لبنان كدولة فاشلة يتجه نحو الإفلاس النهائي بمباركة عربية دولية، إذ لم يعد له أية وظيفة في النظام الإقليمي حتى إن الخرائط الجديدة للمنطقة لن تلحظ وجوده، لذلك لا أمل لا في مبادرة فرنسا التي لا تمتلك لا الجزرة ولا حتى العصا، ولا أمل في خروج لبنان من هذه الدوامة، بل سوف يعيش هذا البلد على حبوب مسكنة للأوجاع يقدمها له عرب وأجانب من حين إلى آخر ولفترة طويلة، خوفاً من هجرات جماعية تؤرق أوروبا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.