مدينة بئر السبع، عاصمة النقب، إحدى أقدم وأكبر مدن فلسطين التاريخية، بمساحة تصل إلى 84 كيلومتراً مربعاً، وهي أول مدينة فلسطينية احتلتها القوات البريطانية عام 1917، بعد أن كانت جزءاً من آخر دول الخلافة الإسلامية (الدولة العثمانية)، وجغرافياً تقع في موقع استراتيجي جنوب فلسطين، يربط مصر بالجزيرة العربية.
وقد وصل حكم الدولة العثمانية لمدينة بئر السبع عام 1519م، ولكنها بقيت بعيدة عن الاهتمام حتى عام 1900م، حيث تشير العديد من المصادر إلى أن الدولة العثمانية أعادت بناء المدينة، وأسست فيها مجلساً بلدياً، وداراً للحكومة، ومسجداً كبيراً، ومركزاً عسكرياً كان له دور مهم في الحرب العالمية الأولى.
إثر نكبة 1948، تم تهجير معظم أهالي بئر السبع الأصليين من القبائل البدوية بقوة السلاح والقتل، فسكن أهلها في البداية مخيمات أريحا، ومنها انتقلت الغالبية العظمى منهم إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وبعضهم إلى غزة، وما تبقى مازال يقطن بئر السبع، وبمرور الوقت انتشر الكثير من أبنائها في العديد من دول العالم، ودافع أهل بئر السبع عن مدينتهم عندما هاجمتها قطعان اليهود المسلحين، ولكنها لم تكن حرباً متكافئة لغياب التسليح عن بدو بئر السبع، وهو ما جعل المدينة محتلة منذ 21 أكتوبر/تشرين الأول 1948وحتى اليوم، وتوثق العديد من الكتب تاريخ نضال أبناء بئر السبع في النضال الوطني الفلسطيني ضد المستعمر؛ الانتداب البريطاني، ومن ثم الاحتلال الصهيوني، وسقوط العديد من الشهداء منذ الاحتلال وحتى اليوم.
وتتميز مدينة بئر السبع بعاداتها وتقاليدها ذات الهوية البدوية، والتي تظهر في مناسبات الزواج والفرح والحزن والولاده والوفاة، وكذلك في طريقة الترحيب بالضيوف، وهناك معانٍ لرشفة القهوة، وكذلك للبدو آلات موسيقية بسيطة مثل الشُّبَّابَة والمقرون واليرغول والربابة والسمسمية والطبلة، وتعتبر الدحة أو الدحية هي الدبكة الشعبية الأولى في الأفراح.
أما الملابس في بئر السبع فهي قصص تروى، وخصوصاً للمرأة البدوية، التي جعلت ملابسها قصة إبداع كجزء من ثقافة خاصة بها، لأنها تنتج ما تلبس من مهاراتها في التطريز والغزل والنسيج، التي تشكل جزءاً من هوية وثقافة المرأة البدوية في بئر السبع، حيث تصنع غطاء الوجه المميز "البرقع" والقنعة والعباءة والشاش والثوب المطرز بالألوان الزاهية، وهو الذي يختلف فيما إذا كانت المرأة متزوجة أو عزباء أو متقدمة في العمر، وكذلك للمرأة دور أساسي في تكرير حليب المواشي واستخراج الزبدة باستخدام "السعن"، وكذلك الجبنة واللبنة وغيرهما، وكذلك للرجال طابع خاص بلبس الثوب الأبيض والحزام والشماغ والمرير (العقال)، والشبرية أيضاً جزء من الموروث الشعبي، وكذلك زراعة القمح جزء من ثقافة الرجال في بئر السبع، وأما الأكل فإن المنسف المحضر من لحم الغنم هو الأكلة الرئيسية التي تُقدم للضيوف وفي المناسبات، وأيضاً من المأكولات الموروثة في بئر السبع العصيدة والهيطلية والزلابية والجريشة والمفتول والخبيزة.
وقد جاء عديد من المراجع عن أصول وأعداد سكان بئر السبع قبل نكبة فلسطين، ومنها ما تحدث عن وجود 150 ألف نسمة، يتفرعون من عشرات العشائر، التي تتفرع بدورها من العديد من القبائل العربية، ولعل أبرزها قبائل الترابين، العزازمة، الجبارات، الجراوين، التياها، الحناجرة، السعيديين، والأحيوات.
والحقائق التاريخية الموثقة في العديد من المراجع أن القبائل العربية من الكنعانيين والفينيقيين هم أهل فلسطين، ومنها بئر السبع، قبل وصول اليهود إليها بآلاف السنين وحتى اليوم لم ينقطع تاريخ العرب عن فلسطين.
واليهود جاؤوا إلى فلسطين بعد أن فرّوا من فراعنة مصر مع نبي الله موسى عليه السلام، وقد تاهوا أربعين سنة في أرض سيناء وجنوب وشرق الأردن بعد أن عصوا أمر النبي، عندما أمرهم بدخول الأرض المقدسة، كما جاء مفصلاً في سورة المائده من الآية (20) حتى الآية (26)، حيث وصف شعبها بالجبارين، وهم الكنعانيون من سلالة العماليق.
ونشأ بعد أولئك العصاة من اليهود جيل جديد دخلوا أرض فلسطين، بعد أن عين لهم النبي شمويل بأمر من الله سبحانه وتعالى طالوت ملكاً عليهم، وقد كان داوود عليه السلام أحد جنود طالوت، وهو الذي قتل جالوت، ملك العماليق، أهل فلسطين، وأصبح له الحكم بعد طالوت، وهي القصة المذكورة تفصيلاً في سورة البقرة.
وجاء في التفاسير فيما يخص الآية الكريمة {يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}، أن كلمة (كُتب) تعني فُرض؛ أي أمركم الله. كما هي في مواضع عديدة في القرآن الكريم مثل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } و{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ}، وغيرها من المواضع، وأيضاً قيل في التفاسير فيما يتعلق بكلمة {وَأَوْرَثْنَا} أن الميراث يدور بين الناس، ولا يبقى الحكم أبدياً لأحد، وهذه الآيات الكريمة تفند العديد من الأكاذيب التي تنشرها الماكينة الإعلامية للكيان الصهيوني.
وبالعودة إلى موضع الحديث، فإن هنالك العديد من الروايات التاريخية حول أصل تسمية مدينة بئر السبع بهذا الاسم، وأشهر القصص قصة النعاج السبع التي أهداها نبي الله إبراهيم عليه السلام إلى أبي مالك، ملك فلسطين، وذلك لكي تشهد عليه بأنه هو الذي قام بحفر البئر هناك. وتشير بعض المصادر أيضاً إلى وجود بئر كان يَرِدها حيوان مفترس (سبع)، وأيضاً قيل إن فيها 7 آبار للماء في منطقة يخلو ما جاورها من المياه.
وارتبط اسم بئر السبع بشكل مباشر بالعديد من قصص الأنبياء، وأبرزها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حيث كانت بئر السبع جزءاً رئيسياً في سلسلة هجراته، التي بدأت من أور عاصمة الدولة السومرية، واستقر في بئر السبع، وانتهى به المقام في مدينة الخليل، وأيضاً ارتبط اسم نبي الله (إيليا أو التشبي) في القرن التاسع قبل الميلاد، ويسميه اليهود (يحيى أو يوحنا) و(إلياس)، حسب تسمية المسيحيين، ويسمى أيضا (مار إلياس الحي)، وقد فر إلى بئر السبع للنجاة بروحه من إليزابيل، زوجة ملك بني إسرائيل.
وبالإضافة لدورها التاريخي في قصص الأنبياء، فإن مدينة بئر السبع كانت مركزاً تجارياً وممراً للقوافل التجارية، بسبب موقعها الاستراتيجي بين المدن الفلسطينية وتجار سيناء والجزيرة العربية، وكانت الزراعة أحد الأنشطة الأساسية في ثقافة بدو بئر السبع، بالإضافة إلى تربية ورعاية المواشي. وتشير إحدى الروايات إلى أن مؤرخي اليونان أطلقوا على بعض أهالي بئر السبع اسم "الهيكسوس"، (هيك) بمعنى (الملك) و(سوس) بمعنى (الراعي) أي: ملوك الرعاة.
في عام 2005 أعلنت منظمة اليونسكو أطلال مدينة بئر السبع القديمة موقعاً للتراث العالمي، بعد العثور على حفريات أثرية شمال شرق المدينة، وتاريخياً فإن أبرز معالم المدينة هو المسجد الكبير الذي بناه العثمانيون عام 1906، وحوّله الاحتلال الصهيوني عام 1953 إلى متحف يؤرِّخ للمدينة، ويوجد أيضاً "السراي"، وهو مبنى الحاكم العثماني، وكذلك محطة القطار، وبئر إبراهيم، هذا بالإضافة إلى أطلال المدينة القديمة (تل بئر السبع).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.