إذا ما نظرنا إلى المجتمع المدني عند هيغل، نجد أنه تنظيم متكامل من المؤسسات الحية، يقوم على الاعتماد المتبادل، مثلما نجده في فكرة "اليد الخفية" عند آدم سميث، والحال أن المجتمع المدني في السير المنطقي للفكرة يقع قبل الدولة، وبعد الأسرة، فضلاً عن أن هناك من يرى أن الجزئي في تضاد مع الكلي. هنا، سوف نطرح سؤالين مهمين: إلى أي حد يرتبط المجتمع المدني بالدولة عند هيغل؟ وما هو دور الفكرة الشاملة في هذا الارتباط؟
إن الناظر في تركيبة المجتمع المدني يجد أنه "يشمل الحياة الاقتصادية للجماعة جنباً إلى جنب مع التنظيمات القانونية والسياسية والاجتماعية التي تضمن قيامه بعمله بسهولة". لكن إذا ما قارنا هذه المجالات وتطورها في الدولة سوف نجد تمايزاً ملحوظاً، إذ إن الجانب الاقتصادي في المجتمع المدني يقوم على العمل في إطار المجال الداخلي، واستغلال الثروات الطبيعية فيه، بيد أن الدولة الفردية في انفتاحها على الدول الأخرى، واعتمادها على اتفاقيات متبادلة معها، تجعل السوق الاقتصادية مفتوحة على باقي الدول، ومنه ينتقل التبادل التجاري إلى خارج حدود الدولة، ويساهم في زيادة الثروة، ويعزز النشاط الخاص بالإنتاج.
في هذا السياق يقول البعض إن غاية الدولة جزئية، بحيث تسهر على إشباع حاجات المواطنين، وحماية ممتلكاتهم الخاصة، وضمان رفاهيتهم، لكن "هذه النظريات جميعاً هي أنصاف حقائق لأنها لم تذهب أبعد من وجهة نظر المجتمع المدني، إنها لم تصل إلى الفكرة الصحيحة عن الدولة".
هذا يدفعنا إلى القول إن هيغل ميَّز بوضوح هذه العلاقة، خاصة بين ما هو سياسي، وما هو اجتماعي؛ بحيث أن تركيبة الدولة تحتضن الحياة السياسية، ومن ثم "ما يتعلق بمجالات القانون الخاص والخير الخاص، والأسرة والمجتمع المدني فإن الدولة تعدّ ضرورة خارجية وسلطة علُيا تخضع لها القوانين والمصالح".
إلى جانب هذا، أشرنا سابقاً إلى أن المجتمع المدني يقع قبل الدولة، فهل يعني هذا أن الدولة لم تظهر إلا بعد المجتمع المدني؟ إن كان الجواب بالإيجاب، فهذا دليل على عدم فهم الفكرة بصفة عامة، ونفس الأمر إن عزلنا الأسرة عن الدولة، بيد أن الدولة أساساً هي عينية، ومنه سيكون "المجتمع المدني هو تجريد محض أو هو لحظة وحيدة الجانب يتم إلغاؤها في الدولة". وإن كان المجتمع المدني قبل الدولة، فهو يتقوَّم بالدولة، ومنه الدولة تتقدم على المجتمع المدني.
علاوةً على هذا، قد يقول البعض إن الجزئي والكلي متعارضان، لكن هذه الآراء "تمثل آراء الفهم المجرد؛ في حين أن الطبيعة الحقيقية للدولة لا يمكن أن يعرفها إلاّ العقل النظري فحسب الذي يدرك الهوية في الاختلاف".
وفي حديثنا عن الفرد، نجد أن الفرد في الأسرة، ومن ثم في المجتمع المدني، إلى أن يصل لحظة الدولة، يتطور وفق الفكرة؛ بحيث نجد أن غاية الفرد في المجتمع المدني غاية جزئية، وهي إشباع حاجاته الخاصة والأنانية، بيد أن غايته في الدولة تصبح غاية كلية، وهذا ما دفع هيغل إلى القول: "إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية".
هنا يظهر جلياً انتقاده للتصور الليبرالي للدولة؛ حيث يُطبق العقد الاجتماعي على الدولة، الأمر الذي يؤدي إلى خلط واضح بين المجتمع المدني والدولة. بيد أن الدولة (الفردية) ترفع الفرد إلى درجة الوعي بالحرية، الحرية التي تعتمد على استقلالية الدولة نفسها، الشيء الذي يجعل الفرد يضحي من أجلها.
إن الدولة بوصفها الغاية الكلية المطلقة، فهي غاية جميع عناصر الدولة، والمجتمع المدني أحد هذه العناصر، بل هو إحدى لحظات الفكرة، هنا قد يسأل سائل: هل لحظة الفردية أهم من لحظة الجزئية في الفكرة؟ جواب هذا السؤال، أن "كل لحظة من هذه اللحظات الثلاث ممثلة للحظتين الأخريين [بالإضافة] إلى نفسها. ومن هنا كانت كل لحظة هي الفكرة الشاملة التي لا تنقسم".
وفي بيان دور الفكرة الشاملة في هذه العلاقة، لا بد أولاً من الحديث عن فلسفة الروح عند هيغل، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الروح الذاتي، والروح الموضوعي، والروح المطلق. هنا، سوف نتحدث عن الروح الموضوعي بوصفه يتضمن مرحلة الأخلاق الاجتماعية، وهي ثالث مرحلة بعد مرحلتي: الحق المجرد، والأخلاق الفردية، بحيث أن مرحلة الأخلاق الاجتماعية، أو الحياة الأخلاقية، هي التي تشمل الأسرة، المجتمع المدني، الدولة.
إن أول ما يلاحظه الناظر المتبصر أن هناك منطقاً يحكم هذا الترتيب، إنه منطق الفكرة الكلية، وهو ما ينطبق على الروح الموضوعي أيضاً، وعلى لحظاته الثلاث (الكلي، الجزئي، الفردي)، وهذا الأخير: "وإن كان في جوهره عالم قوانين اجتماعية كالملكية الخاصة property، أو مؤسسات أخلاقية كالأسرة مثلاً، ومؤسسات اقتصادية وسياسية كالمجتمع المدني والدولة – هو عالم للحرية [وللوعي بالذات] مع ذلك".
لقد ثبت من هذا أنه لا يمكن فصل المجتمع المدني عن الدولة. وبالجملة وصول هيغل إلى هذه النتائج دليل على اعتماده على العقل، وإلا لم يكن هذا البناء المنطقي ليحصل، وهذا ما لاحظناه في عملية انتقاله من مفهوم إلى آخر، وللتوسع أكثر في فكرة هيغل نجد أن "الانتقال من (الروح الموضوعي) إلى (الروح المطلق) دليل على أن (المثالية الفلسفية) قد اكتملت، وعلى أن الإنسان قد أصبح قادراً على حل كل مشكلاته بالاعتماد على العقل وحده دون عون من أي مصدر آخر".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.