بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على المسرح الدولي، أصبحت مخاطر الأسلحة النووية هي الشغل الشاغل للجميع، وبدأ العالم يتجه نحو التخلص من تلك الأسلحة تدريجياً، لكن مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض، حدث تحول خطير يتمثل في التوسع الأمريكي في إنتاج تلك الأسلحة، فما القصة ومن المستفيد؟
موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "تجار الحرب النووية يكافحون ويزدهرون في ظل الوباء"، ألقى الضوء على كواليس الضغوط التي تمارسها شركات التصنيع العسكري والتي أدت لحصولها على عقود بالمليارات للتوسع في إنتاج الأسلحة النووية.
نسخة ثانية من سباق التسلح النووي؟
يزيد اليوم عن أي وقتٍ سابقٍ عدد الأمريكيين الذين يبدأون في التساؤل حيال فاعلية النظام الذي يحكمهم، خصوصاً أنظمة الشرطة والقضاء. أضف لذلك المخاوف الجارية والمستمرة حيال التغير المناخي والوباء العالمي، ويبيت واضحاً أن هذه الحركة من التغيير يجب أن تطال أنظمة الدفاع النووي قبل أن يفوت الأوان.
مثلاً: منحت القوات الجوية الأمريكية عقداً لتنفيذ أنظمة الردع الاستراتيجي الأرضية لشركة Northrop Grumman في الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري معجلةً إنتاج المزيد من الصواريخ النووية في وقتٍ يتدهور فيه التعاون وتقويض السلاح، وتلوح في الأفق خيالات النسخة الثانية من سباق التسلح النووي.
ولا شك أن إدارة ترامب، بمساعدة شركات الصناعات العسكرية، تفكك نظام تقويض السلاح الأمريكي، ومؤخراً بات يبدو أنها تستخدم الوباء كإلهاءٍ عما تفعله.
والآن تُحدث إدارة ترامب ضرراً أطول أثراً بسعيها للتعجيل بعقود سلاح المواجهة طويلة المدى LRSO الذي سيعزز قوة الولايات المتحدة النووية، وصواريخ GBSD الجديدة التي ستحل محل صواريخ Minuteman III البالستية القارية، الذراع الصاروخي في ثالوث القدرة النووية الأمريكي.
عقد بـ85 مليار دولار؟
في أبريل/نيسان وقعت القوات الجوية عقد LRSO مع شركة Raytheon قبل سنتين من موعده، دون تفسيرٍ حقيقي للدافع وراء تلك الخطوة، وليست صدفةً أن وزير الدفاع مارك إسبر كان أبرز أعضاء اللوبي ونائب رئيس العلاقات الحكومية في الشركة نفسها قبل أن ينضم لإدارة ترامب.
كذلك منحت القوات الجوية عقد صواريخ GBSD لشركة Northrop Grumman، التي أصبحت مقدم العطاء الوحيد بعد أن سحبت شركة بوينغ عطاءها، وأثار ذلك الشبهات وتسبب في فتح تحقيقٍ فيدرالي بعد أن اشتكت شركة بوينغ من عدم عدالة المنافسة. تسبب غياب المنافسة في ارتفاع السعر إلى 85 مليار دولارٍ حتى الآن، وما زال السعر يرتفع. ولا يجب أن يكون مفاجئاً أن شركة Northrop Grumman لم تنفق فقط 5.6 مليون دولارٍ في حملة تبرعات عام 2018، بل إنها منحت أكثر من 4 ملايين دولار لأعضاء مهمين في لجان القوات المسلحة بمجلسي الشيوخ والنواب.
مخالب الشركات تسيطر على الجميع
وتصل مخالب شركات التصنيع العسكري لأبعد من إدارة ترامب، ولا يتلقى أعضاء لجان القوات المسلحة في مجلسي الشيوخ والنواب تبرعاتٍ سخيةً من مصنعي السلاح في حملاتهم الانتخابية فقط، بل إن هناك تحالفاً كاملاً في مجلس الشيوخ بشأن الصواريخ البالستية العابرة للقارات يعمل على ضمان نجاح مثل هذه العقود، وقد وفرت شركة Northrop Grumman لهذا التحالف 1.6 مليون دولارٍ منذ عام 2012 لحماية برنامج ICBM وضمان عدم تبني أي بدائل له.
لماذا يحدث كل هذا؟ الإجابة البسيطة هي لأن سباق التسلح يعد استراتيجية تجاريةٍ فعالةٍ، فتفكيك نظام الحد من التسلح الأمريكي هو الخطوة الأولى لإزالة العوائق أمام بناء المزيد من الأسلحة، وفي ظل عدم وجود معاهداتٍ أو اتفاقيات حدٍّ من التسلح للالتزام بها، يمكن للولايات المتحدة أن تفعل ما تريد.
ويضمن التعجيل بعقود التسليح ودفع المال لأعضاء الكونغرس لتلك الشركات استمرارية أعمالهم، بغض النظر عن شخص الرئيس. أضف لذلك أن عدد الأسلحة النووية والتكنولوجيا المرتبطة بها الضرورية لـ"كسب" سباق التسلح قد يكون لا نهائياً. ذلك يعني أنه كلما لاح خطرٌ وشيكٌ من غريمٍ مثل روسيا أو الصين ستصنع تلك الشركات المزيد من الأسلحة، وستحصد المزيد من الأموال.
لكن سباق التسلح إذا كان استراتيجية تجاريةٍ ناجحةً فذلك لا يعني أنه استراتيجية دفاعٍ ناجحةٍ. لن يساهم بناء المزيد من الأسلحة النووية الجديدة متزايدة التعقيد إلا في إظهار انعدام الثقة بين دولٍ مثل روسيا والصين وسيزيد من مخاطر وقوع حربٍ نوويةٍ سواءٍ خطأً أو عمداً.