أصبح واضحاً أن الاتحاد الأوروبي يستقوي على جيرانه الأقربين وحلفائه التقليديين أكثر من خصومه، وهو ما ظهر في اتهام بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا، لأوروبا بتعريض بلاده للتجويع.
فقد اتهم رئيس الوزراء البريطاني الاتحادَ الأوروبي بالتهديد بضرب وحدة أراضي المملكة المتحدة، من خلال فرضه "حصاراً" غذائياً بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية، ليصب بذلك الزيت على النار في محادثات بريكست (خروج بريطانيا للاتحاد الأوروبي) التي تشهد توتراً كبيراً.
وتسعى المملكة المتحدة لإجراءات ميسَّرة للتنقل بين شطري أيرلندا، الشمالية الخاضعة للحكم البريطاني؛ ومن ثم ستخرج من الاتحاد الأوروبي، والجنوبية التي ما زالت جزءاً منه.
جونسون ووسط أجواء تشير إلى عدم التوصّل لاتفاق بنهاية هذا العام حين يدخل "بريكست" حيّز التطبيق التام، شدد على أن الاتحاد الأوروبي عازم على "تفسير متطرف" للقواعد الخاصة بأيرلندا الشمالية، وفق قوله.
"سوف نعاقبكم على الانفصال"
وبينما يناشد الساسة البريطانيون دوماً جيرانهم الأوروبيين عدم معاقبتهم على قرار الطلاق من الاتحاد الأوروبي، فإنه في المقابل حتى من قبل الاستفتاء، يلوّح الاتحاد الأوروبي بمعاقبة بريطانيا إذا قرر شعبها الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
وكأن لسان حال الاتحاد الأوروبي يقول: سنعاقب بريطانيا إذا تمردت على بروكسل؛ حتى لا يفعلها أعضاء آخرون بالاتحاد الأوروبي.
وبينما يقدّم الاتحاد الأوروبي نفسه وتروّج له الصحافة الغربية باعتباره منارة الحرية والديمقراطية والليبرالية كأنه بالنسبة لليبراليين الخلافة للمسلمين القدامى، فإن من الواضح أن مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه العديد من جيرانه الأقربين تخالف قيم الانفتاح والديمقراطية وقبول الآخر.
فحتى لو كان قرار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي خاطئاً، فإنه في النهاية من حقوق الشعب البريطاني.
فإذا كان من المفترض أن الحضارة الغربية التي يمثلها الاتحاد الأوروبي تؤكد فكرة حق تقرير المصير وحريات عديدة، فلماذا تكون حرية الخروج من الاتحاد الأوروبي منكرة؟!
ولكن التنمر الأوروبي على المملكة المتحدة ليس عملية التنمر الوحيدة على الجيران المقربين.
التنمر الداخلي.. اليونان نموذجاً
هذا التنمر بدأ من الداخل الأوروبي حينما قررت قيادة الاتحاد الأوروبي، الممثلة في فرنسا وألمانيا، معاقبة الشعب اليوناني على فساد نخبته، متجاهلة أن أحد أسباب الأزمة هو تساهل المصارف الألمانية والفرنسية في منح القروض لهم، وكذلك دور اليورو الذي شوه الاقتصاد اليوناني وجعله غير قادر على التنافس، كما أفقد اليونان حقها في تخفيض عملتها وهو الإجراء الطبيعي الذي يحدث عند مواجهة أي دولة لأزمة ويساهم عادة عبر ما يحققه من زيادة تنافسية المنتجات المحلية وتنشيط الاقتصاد في الخروج من الأزمة.
سياسات التقشف القاسية التي أجبر الاتحاد الأوروبي اليونان عليها أدت إلى معاناة كبيرة لدى الشعب اليوناني خلال الأزمة الاقتصادية الشهيرة، وصلت إلى بيع اليونانيين فضيَّاتهم وضياع جزء كبير من مدخرات التقاعد لملايين اليونانيين.
وكان الجرح اليوناني غائراً، وظل اليونانيون يشعرون بغضّة كبيرة تجاه الاتحاد الأوروبي، خاصةً ألمانيا ومستشارتها أنجيلا ميركل، التي يرون أنها السبب في معاناتهم، بسبب رفضها جدولة ديون اليونان بشكل يؤدي في النهاية إلى تحقيق مصالح الاتحاد الأوروبي، وتقليل معاناة الشعب اليوناني، كما يحدث في أي عملية جدولة لأي دولة أو شركة مفلسة، ولكن ميركل والقيادة الفرنسية كان حرصهما الأول على أموال البنوك الفرنسية والألمانية التي أقرضت اليونان رغم مسؤولية هذه البنوك أيضاً عن الأخطاء التي حدثت في عملية الإقراض، حسبما يقول جوزيف ستغلتر في كتابه "اليورو.. كيف تهدد العملة الموحدة مستقبل أوروبا" (ترجمة عالم المعرفة).
البحث عن عدو خارجي انتهى إلى تحويل الصديق لخضم
وبسبب هذه الخلافات الدائرة داخل الاتحاد الأوروبي وشعور دول شرق أوروبا بأنها دول من الدرجة الثانية أو الثالثة، والأسوأ شعور دول جنوب أوروبا تحديداً بالغبن، من جرّاء العديد من السياسات التي أضرتها اقتصادياً، منها سياسة اليورو القوي، وكذلك موقف بعض الدول الأوروبية المشين مع إيطاليا خلال بداية أزمة كورونا، فإن بعض قادة أوروبا، خاصةً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يبحثون عن عدو خارجي يوحِّد القارة ويؤكد زعامتهم ويُنسي دول جنوب أوروبا مشكلاتها مع الشطر الشمالي للقارة.
وتقدِّم الحالة اليونانية التركية نموذجاً لذلك، إذ تحاول فرنسا تقديم الصراع اليوناني التركي على أنه صراع بين تركيا وأوروبا واعتداء تركي على السيادة الأوروبية.
ولكن هذه الرواية تتجاهل أن تركيا دولة شريكة رسمية للاتحاد الأوروبي، وأنها ما زالت رسمياً مرشحة للانضمام إلى الاتحاد، ومراراً قال الاتحاد الأوروبي إنها أوفت بأغلب الالتزامات والمعايير المطلوبة.
ولكن الاتحاد الأوروبي هو الذي لم يفِ بالتزامه تجاه أنقرة في أغلب الأحوال، رغم أنه ضم دولاً أخرى أقل في المستوى الاقتصادي وفي استيفاء الشروط إلى الاتحاد مثل بلغاريا.
"لن نسمح لكم بالانضمام مهما فعلتم"
وبينما تُصور الصحافة الغربية الخلافات الأوروبية التركية باعتبار أن سببها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فإن هذه الرواية تتجاهل المحطات الرئيسية في تطورات العلاقات التركية الأوروبية على مدار السنوات الماضية، وأن تصرفات أردوغان كانت رداً على مواقف أوروبية ونكوص عن العهود من قِبل بروكسل.
فقد كان جزء من نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا نابعاً من وعده للشعب التركي بتطبيق معايير الاتحاد الأوروبي في التنمية والديمقراطية؛ توطئة للانضمام إليه.
وأوفت تركيا بشكل كبير بمعظم شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن أوروبا تجاهلت الرد على طلب أنقرة الانضمام (كان هذا في وقت لا توجد خلافات مع تركيا).
الاتحاد الأوروبي لم يقل السبب علناً يوماً، رغم أن الجميع يعلمه، وهو أن تركيا دولة إسلامية كبيرة ولا يجوز ضمُّها إلى الاتحاد الأوروبي لهذا السبب لا غيره.
تفهَّمت تركيا تحت حكم أردوغان السبب؛ بل تجاوزت عقدة أوروبا التي تتمثل في الرغبة الحميمية في الانضمام إلى أوروبا والتي كانت في الأصل موجودة بشكل أكبر في أوساط العلمانيين، خاصةً أن أنقرة نجحت في تحقيق كثير من سمات جودة الحياة، القريبة من دول أوروبية (وأفضل من العديد من دول أوروبا الشرقية)، وفي الوقت نفسه تجنبت عيوب الاتحاد الأوروبي مثل سلبيات العملة القوية التي كان من الممكن أن تعرقل تنافسية منتجاتها في مجال التصدير.
كانت أنقرة رغم علمها بأنه لا أمل لها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حريصة على إقامة علاقة قوية معه.
"ولكن يجب أن نظل أوصياء عليكم".. هكذا تركوها وحدها في لحظة حرجة
غير أن الاتحاد الأوروبي كان يريد أن يمارس وصايته على تركيا دون أن تكون عضوة فيه، كان مفهوماً أن تمارس بروكسل دوراً رقابياً على تركيا وهي مرحلة الترشح، وهو دور رقابي يكون فعلياً، أقوى من الدور الرقابي على الدول الأعضاء، ولكن بما أن تركيا لم تعد مرشحة بقدر ما هي شريك، فإنَّ شكل العلاقة يجب أن يكون فيه ندية ومساواة.
ولكن الأمر تعدَّى ذلك، فقد خذل الاتحاد الأوروبي أنقرة عدة مرات.
تحاول الروايات الأوروبية دوماً تقديم تصوُّر بأن البادئ في الخلاف هو الجانب التركي، ولكن الواقع هو أنه قبل أن تقع المشكلات بين أوروبا وأردوغان، فإن الاتحاد الأوروبي هو الذي بدأ في عدم الالتزام بتعهداته وخذلها في مواقف عدة، الأهم أنه لا يقبل النقد لهذه المواقف.
فخلال الحرب السورية ترك الاتحاد الأوروبي تركيا وحدها في مواجهة أزمة الطرف الآخر بها هو النظام السوري، الذي يعد من أسوأ أنظمة العالم في انتهاك حقوق الإنسان، ويدعمه اثنان من أعداء أوروبا والغرب: روسيا وإيران.
وفي ذروة الخلاف الروسي مع تركيا حول سوريا والذي شهد انتهاك طائرات روسية للأجواء التركية، سحبت دول أوروبية عضوة في الناتو صواريخ باتريوت من تركيا.
وقبل الرفض الأمريكي لتزويد أنقرة بصواريخ باتريوت، فإن الاتحاد الأوروبي اعترض على شراء تركيا أنظمة صواريخ مضادة للطائرات من الصين، وفي الوقت نفسه لم يقدم لها البديل، ليترك أنقرة بلا دفاع جوي حديث، مما اضطرها إلى شراء صواريخ إس 400 الروسية.
ولم يلتزموا بتعهداتهم
وإضافة إلى ذلك فإن الاتحاد الأوروبي لم يلتزم بالاتفاق مع تركيا الخاص بتنظيم اللجوء، وكان الاتفاق يتضمن إبقاء لتركيا معظم اللاجئين داخل البلاد (تركيا أكبر بلد مضيف للاجئين السوريين)، مقابل تقديم مساعدات وتعويضات اقتصادية لتركيا، إلى جانب منح الأتراك تأشيرة لدخول الاتحاد الأوروبي، ورغم التزام تركيا، باعتراف الاتحاد الأوروبي، بهذه الشروط، فإن الاتحاد لم ينفذ من جانبه التزاماته.
ولذا عندما تصور الصحافة الغربية فتح تركيا حدودها أمام اللاجئين للهجرة لليونان، مستنكرةً ما تفعله تركيا، فإنها تتناسى أنه يأتي رداً على عدم وفاء الاتحاد الأوروبي بالتزاماته في هذا الشأن.
وموقف صادم من الانقلاب
ولكن الموقف الأسوأ للاتحاد الأوروبي ظهر خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، علماً بأن محاولة الانقلاب هذه كانت قد حدثت قبل وصول العلاقة بين الرئيس التركي رجب أردوغان والدول الأوروبية إلى ذروة توترها.
كان موقف الاتحاد الأوروبي من محاولة الانقلاب مشيناً بالمعايير الأوروبية ذاتها.
إذ أخَّر الاتحاد الأوروبي إدانته، وكانت إدانة خافتة خالية من التلويح بالعقوبات، رغم أن الاتحاد الأوروبي عادةً إذا وقع انقلاب في دولة إفريقية صغيرة لا يعلم حتى القادة الأوروبيون موقعها، يسارعون بإدانته والتلويح للانقلابيين بالعزلة.
أما في حال محاولة الانقلاب بتركيا، فكان الرد الأوروبي بمثابة دعوة للانقلابيين لإتمام مهتمهم بنجاح.
كما أنه لا يمكن تخيل أن دولاً قوية ومتقدمة كالدول الأوروبية الكبرى والولايات المتحدة الأمريكية، لم يكن لديها علم بترتيبات الانقلاب قبل وقوعه، في ظل تقدمها بمجال تكنولوجيا الاتصالات والتجسس.
لِفهم خلفية الخلافات الأوروبية التركية يجب ملاحظة أن هذه المواقف وهذا التوتر أغلبه منسوب إلى دول شمال أوروبا، وبالأخص فرنسا وألمانيا. بينما العلاقات التركية مع دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا ودول شرق أوروبا، في أغلبها جيدة.
العملية إيريني.. حظر السلاح على طرف ليبي واحد
تمثل العملية الأوروبية إيريني نموذجاً لغرابة السياسات الفرنسية التي تقود الاتحاد الأوروبي، وهي العملية التي قررها الاتحاد الأوروبي دون تفويض أممي لتفعيل الحظر الذي فرضه مجلس الأمن على توريد السلاح لليبيا.
وبالإضافة إلى عدم قانونية إنفراد الاتحاد الأوروبي بهذه العملية كما قالت روسيا وجنوب إفريقيا، فالأغرب أن دور العملية الرئيسي هو تفتيش السفن، التي تنقل الأسلحة إلى ليبيا، أما بالنسبة لنقل الأسلحة والمقاتلين الأجانب براً أو جواً، فتكتفي "إيريني" بالمراقبة الجوية وبالأقمار الصناعية دون أن يكون لها أي آلية تنفيذية لوقف تهريب السلاح بكميات كبيرة براً وجواً إلى حفتر.
فالعملية تحاصر حكومة الوفاق لمنع جلب الدعم من تركيا، بينما تترك حدود ليبيا البرية مع ست دول؟ وتحديداً حدودها التي يبلغ طولها ألفاً و200 كيلومتر مع مصر، التي تقول الأمم المتحدة إنها مع الإمارات أكبر داعم للجنرال خليفة حفتر الذي اخترق وقف النار مراراً، هل تتم مراقبتها؟
وحتى الصحافة الفرنسية ذاتها وصلت إلى نفس الاستنتاج، حيث علقت صحيفة "جون أفريك" على العملية: "إن السفن، في نهاية المطاف، هي المستهدفة من طرف معايير الإلزام (التفتيش الإجباري)".
واعترف جوزيف بوريل، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، بأنه لا يمكن نشر قوات على الحدود المصرية الليبية؛ مشيرا إلى أنها دولتان ذواتا سيادة.
كما أن العملية لم تفعل شيئاً أمام تدفق المرتزقة الروس والطائرات الحربية الروسية وغيرها من الأسلحة الليبية، علماً بأن الأمر لايحتاج إلى تحليل عميق لفهم أن أحد أسباب تدخل روسيا في ليبيا وسيطرتها على قاعدة الجفرة الاستراتيجية هو محاصر الاتحاد الأوروبي من خاصرته الجنوبية.
صناعة السيارات المصرية تحت الهجوم الأوروبي
لكن محاولات التنمر الأوروبي لا تقتصر على تركيا وبريطانيا وليبيا.
مصر على سبيل المثال، حاولت تأجيل أو تعديل اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية، خاصةً المتعلقة بالغاء الجمارك على السيارات الأوروبية، لأن هذا البند يضرب صناعة تجميع السيارات المصرية التي بالكاد تحاول الحفاظ على نصيبها من السوق المحلي.
ولكن القاهرة اضطرت إلى الرضوخ لأوروبا؛ مما أدى إلى تعرُّض صناعة السيارات المصرية لأزمة حقيقية في مواجهة تدفق المنتجات الأوروبية التي تباع حالياً في مصر أرخص من بعض الدول الأوروبية، بينما لا تستطيع صناعة السيارات المصرية المنافسة في الأسواق الأوروبية.
وتظهر أيضاً مشاكل عدة وتهديدات من الاتحاد الأوروبي تجاه المغرب فيما يتعلق بكثير من القضايا، وضمنها حقوق الصيد في مياه المحيط الأطلنطي، وقضية الصحراء.
وفي السودان يقال إنه يموّل الجنجويد
ولكن مواقف الدول الأوروبية مع محيطها العربي والإفريقي تصل للذروة مع السودان.
إذ إن الاتحاد الأوروبي الذي يصدِّع العالم بالحديث عن حقوق الإنسان، والمؤسسية، قيل إنه موَّل قوات الدعم السريع (الجنجويد سابقاً)؛ لمنع الهجرة غير الشرعية، فأمام طوفان المهاجرين الذي قد يُسقط الحكومات الأوروبية في صناديق الانتخابات تسقط كل القواعد الأخلاقية.
قد يكون الرد على كل ما سبق، أن الاتحاد الأوروبي كيان سياسي يدافع عن مصالحه، وقد يكون هذا صحيحاً ولكن المشكلة أن هناك قوى إعلامية ومثقفين كثيرين في العالم ينظرون إلى أوروبا باعتبارها قلعة الحق والحرية في العالم ويعطونها قدراً من القداسة، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية فإن الكثير من القوى الليبرالية تتعامل مع أوروبا أو الاتحاد الأوروبي باعتباره النموذج الأمثل الذي على الولايات المتحدة تقليده.
ولكن الواقع أن الاتحاد الأوروبي لا يختلف في السياسة كثيراً عن القوى السياسية التي تبحث عن مصالحها حتى لو على حساب المبدأ، ولكن ما يميزه قدرته على ادعاء أنه يدافع عن المبادئ الأوروبية، وشيطنة الخصوم والمنافسين وحتى جيرانه الأقربين الذين كانوا يرونه نموذجاً؛ بل كانوا يتطلعون إلى أن يكونوا جزءاً منه.
فأر أمام روسيا.. هكذا تحاول فرنسا توجيه الاتحاد الأوروبي وفقاً لمصالحها
في المقابل فإن الاتحاد الأوروبي يبدو مستسلماً أمام روسيا الاتحادية التي يقودها الرئيس فلاديمير بوتين، الذي لا يُخفي رغبته في تفكيك الاتحاد الأوروبي، وفقاً لتقارير أوروبية رسمية تشير إلى الدور الروسي في تشجيع البريطانيين على التصويت لصالح الانفصال، إضافة غزو أوكرانيا وضم القرم، ودوره المشهود في تفاقم أزمة اللجوء السوري إلى أوروبا، وهي الصداع الأكبر للاتحاد الأوروبي، وذلك عبر دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، الذي تقوم سياسته على تهجير جزء كبير من الأغلبية العربية السُّنية من سوريا لتغيير هويتها.
ولكن الدولتين القائدتين للاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا، تبالغان في الحديث عن الخطر البريطاني والتركي، وتقللان من الخط الروسي.
حتى إن ألمانيا لم تحرّك ساكناً إزاء تسميم معارض روسي على أراضيها وما زالت مُصرة على خط الغاز "نورد ستريم" الذي يجعل أوروبا تعتمد بشكل كبير على روسيا.
وبينما يتحدث ماكرون عن تعزيز السيادة الأوروبية بمواجهة تركيا في خلافها البحري مع اليونان، فإنه يتقرب إلى روسيا العدو الأول لأوروبا والقيم الليبرالية، دون خجل.
تقدِّم فرنسا نفسها على أنها المدافعة عن القيم والمصالح الأوروبية، ولكن فرنسا على مدار التاريخ، تدافع عن مصالحها.
ففرنسا ليست عدواً لروسيا، لأن شرق أوروبا الذي يظهر فيه التهديد الروسي ليس منطقة نفوذ فرنسية؛ ومن ثم فإن التقارب مع روسيا لا يضر المصالح الفرنسية ولكنه بالتأكيد يضر مصالح عديد من الشعوب الأوروبية.
في المقابل، فإن مصالح فرنسا الأساسية هي الهيمنة في منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط، حيث ترفض أي دور محلي استقلالي من هذه الدول، كما أنها تتحالف مع المستبدين في الشرق الأوسط وإفريقيا.
ومن هنا فإن فرنسا تحاول أن تحشد سياسة الاتحاد الأوروبي في هذه المناطق ضد بقايا الربيع العربي وضد قوى سياسية يُفترض أنها حليفة وصديقة للاتحاد الأوروبي مثل تركيا.
كما أن فرنسا تمارس دور المحلل بمجال الأسلحة، في ظل وجود دول أوروبية تتخذ مواقف أخلاقية، مثل ألمانيا، من الأنظمة العربية المستبدة (حدث خلاف بين البلدين بسبب الأسلحة المشتركة التي تباع للسعودية).
ونتيجة هذه السياسات ابتعدت تركيا عن الاتحاد الأوروبي وتقاربت مع غريمها التاريخي روسيا، رغم أن المفارقة أنه في كثير من فترات التاريخ الأوروبية كانت دول أوروبا والدولة العثمانية تتعاونان أمام الخطر الروسي الزاحف على البلقان والقوقاز، ويبدو أن القادة الأوروبيين في القرن التاسع عشر كانوا أكثر حكمةً من القادة الحاليين، أو أن قادة ألمانيا وفرنسا يريدون البحث عن عدو خارجي يوحِّد الأوروبيين خلف قيادتهم ويخفف من الغضب من هيمنتهم على السياسات الأوروبية.