عندما انهارت أسعار النفط في أبريل/نيسان الماضي ووجدت دول الخليج نفسها في مواجهة أزمة مزدوجة في ظل كارثة وباء كورونا وتداعياتها الاقتصادية، اتخذت دول مثل السعودية إجراءات تقشفية وصفتها بالضرورية والمؤقتة للمرور من عنق الزجاجة، لكن يبدو أن التقشف قد يتحول لأسلوب حياة، فما القصة هذه المرة.
أسعار النفط لا ترقى "للتعادل"
نشرت رويترز تحليلاً للوضع الاقتصادي في دول الخليج بعنوان "التقشف قد يجلب معاناة أشد بالخليج"، تناول الاستراتيجية التي اتبعتها الدول النفطية في المنطقة والتي تعتمد على أساليب مجربة خلاصتها تقليص الإنفاق وزيادة الاقتراض لاجتياز أزمة فيروس كورونا، غير أن مخاطر هذه الاستراتيجية أشد من أي وقت مضى بسبب الغموض الذي يكتنف آفاق النفط.
وتنسجم التدابير المتخذة في الوقت الحالي على صعيد السياسات مع أسلوب السلطات الإقليمية في التصدي للأزمات السابقة، فقد شهدت منطقة الخليج ارتفاع مستويات الدين بعد انهيار أسعار النفط في 2014-2015، ونفذت عدة دول سياسات عمالية لصالح مواطنيها على حساب العمالة الوافدة بعد انتفاضات الربيع العربي في 2011، غير أن المخاطر هذه المرة أكبر لأن الغموض يكتنف مستقبل أسعار النفط بدرجة أكبر.
ويتوقع غولدمان ساكس ارتفاع أسعار برنت في 2021 لتصل إلى 65 دولاراً للبرميل بحلول الربع الثالث من العام المقبل، غير أن مسحاً أجرته رويترز حديثاً أظهر توقعات لزيادة متواضعة في 2021 يبلغ فيها متوسط سعر برنت 50.45 دولار للبرميل.
ولكن في جميع الأحوال لن يكفي ذلك لتغطية العجز لدى معظم دول الخليج، ففي أبريل/نيسان الماضي قدر صندوق النقد أن السعر الذي تحقق به السعودية التعادل بين الإيرادات والمصروفات هو 76.1 دولار للبرميل هذا العام و66 دولاراً في العام المقبل.
وقالت موديز للتصنيفات الائتمانية "نتوقع أن يستغرق تحديث اقتصادات مجلس التعاون الخليج وتنويع مواردها بدلاً من الاعتماد على النفط وقتاً". وهي تقدر أن يظل نمو النشاط الاقتصادي غير النفطي ضعيفاً في العامين المقبلين بالمقارنة مع متوسطاته السابقة، وقال متحدث باسم وزارة المالية السعودية إن للأزمة تأثيراً سلبياً على نمو النشاط الاقتصادي غير النفطي هذا العام، غير أن هذا التأثير أقل من التقديرات في بداية الركود.
خزائن فارغة من الأموال
والقصة هنا أن نوبات ربط الأحزمة السابقة اعتمدت بالأساس على انتعاش أسعار النفط في إعادة ملء الخزائن، غير أنه أصبح لدول الخليج احتياجات تمويلية أكبر وأصول خارجية أقل مما كان عليه الحال في الأزمات السابقة، في حين أن الجائحة قد تفرض استمرار الطلب عند مستوى منخفض لفترة أطول.
صحيح أن أسعار برنت انتعشت منذ هوت إلى أدنى مستوى خلال أكثر من 20 عاماً في أبريل/نيسان لكنها لا تزيد إلا قليل فوق 40 دولاراً للبرميل، أي أنها أقل بكثير مما تحتاج إليه أغلب دول الخليج لضبط ميزانياتها، وفي الوقت نفسه، ظهر بالفعل الأثر السلبي على آفاق النمو الناتج عن التحول إلى التقشف في منطقة يعد الإنفاق الحكومي فيها المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، فضلاً عن سعي بعض البلدان لحماية وظائف المواطنين على حساب العمالة الوافدة.
وقالت مونيكا مالك كبيرة الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري "المشكلة التي تواجهها دول مجلس التعاون الخليجي هي أن الطلب المحلي يدفعه الإنفاق الحكومي وهذا يتطلب أسعاراً أعلى بدرجة كبيرة للنفط"، وأضافت "هوامش الأمان المالي تدهورت خلال السنوات القليلة الماضية مما يحد من مجال دعم النمو ويتطلب إصلاحات في الميزانية".
وتسلط تدابير خفض الإنفاق، التي تتناقض مع حزم التحفيز التي ضختها حكومات خارج المنطقة بتريليونات الدولارات، الضوء على محدودية مساحة المناورة المتاحة لدول الخليج، حيث يدور عجز الميزانيات في الوقت الحالي بين 11.4% من الناتج المحلي الإجمالي في السعودية و16.9% في سلطنة عمان وفقاً لصندوق النقد الدولي، والدولة الوحيدة التي يُتوقع أن تحقق فائضاً هي قطر.
أسلوب إدارة الأزمة يختلف من بلد لآخر
لكن دول الخليج الست لا تعتمد نفس الأسلوب في إدارة الأزمة الحالية، فهناك بعض الاختلافات في النهج بينها، إذ قالت السعودية، صاحبة أكبر اقتصاد في المنطقة، أنها لم تدخل مرحلة تقشف، وأنها ستلتزم على الأرجح بالميزانية التي أعلنتها في ديسمبر/كانون الأول.
لكن جاءت الأفعال مناقضة للتصريحات، حيث رفعت الحكومة ضريبة القيمة المضافة لثلاثة أمثالها وأوقفت صرف بدل غلاء المعيشة وأعلنت تخفيضات في الإنفاق في المجالات التي لا تدخل في نطاق الأولويات.
وقال جون سفاكياناكيس الخبير في الشأن الخليجي بجامعة كمبريدج "ثمة وجهة نظر قوية تملي سياسة الإنفاق في السعودية مفادها أن أسعار النفط ستنتعش هذا العام إلى مستوى يبرر الحفاظ على الإنفاق دون تغيير"، وأضاف "وهذا نهج أكثر جرأة من دول خليجية أخرى تعمل فقط على خفض الإنفاق والاقتراض في إطار استعدادها لانتعاش أسعار النفط بوتيرة أبطأ وانتعاش الإنفاق بوتيرة أشد بطئاً".
وقال المتحدث باسم وزارة المالية السعودية إن قطاع النفط ليس المحرك الرئيسي للانتعاش الاقتصادي، وأضاف "الحكومة اتخذت بعض التدابير لزيادة الإيرادات غير النفطية خلال 2020 بما في ذلك زيادة ضريبة القيمة المضافة والرسوم الجمركية، وسيعزز الانتعاش الاقتصادي المستمر الإيرادات من خلال هذه التدابير على أن يظهر الأثر السنوي الكامل في العام المقبل، وهو ما يمثل المصدر الرئيسي لزيادة الإيرادات غير النفطية المتوقعة في 2021".
وفي الوقت نفسه، خفضت البحرين وسلطنة عمان والكويت ودبي الإنفاق الحكومي هذا العام، ولم يرد مسؤولون في القطاع المالي بهذه الدول على طلبات من رويترز للتعليق.
وقد أتاحت البنوك المركزية الإقليمية حزما تحفيزية كبيرة للتخفيف من أثر تفشي الفيروس على اقتصاداتها، غير أن الدعم الحكومي في بعض الحالات كان أقل كثيراً، ففي الإمارات، يقول صندوق النقد الدولي إن ذلك بلغ اثنين% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل حزمة تدابير من البنك المركزي بلغت 20% من الناتج الإجمالي.
وللمقارنة، تقدر فيتش للتصنيفات الائتمانية أن تدابير دعم الميزانية المعلنة منذ مارس/آذار تدور بين 20 و35% من الناتج المحلي في دول مثل بريطانيا وإيطاليا واليابان وألمانيا.
وقال المتحدث باسم وزارة المالية السعودية إن دعم الموازنة السعودية ليس مقيداً وإن الحكومة تتخذ التدابير "اللازمة لحماية الأرواح والأرزاق وضمان الانتعاش الاقتصادي"، وقال إن الحكومة نفذت إجراءات لضبط الإنفاق "للحفاظ على الاستقرار والاستدامة".
أثر سلبي على النشاط الاقتصادي
وتوضح بيانات مؤشر مديري المشتريات أن إجراءات تقييد الإنفاق كان لها بالفعل أثرها السلبي على النشاط الاقتصادي إذ تدهورت ظروف الأعمال في السعودية والإمارات في أغسطس/آب الماضي.
وقالت كابيتال إيكونوميكس في لندن "مؤشرات مديري المشتريات للاقتصاد الكلي لشهر أغسطس/آب من شتى أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا انخفضت كلها مما زاد العلامات الدالة على أن النشاط بلغ مرحلة الثبات في المنطقة وسط تقشف في الإنفاق واستمرار تدابير احتواء الفيروس"، وأضافت "نتوقع أن يكون الانتعاش من الأزمة الحالية عملية بطيئة".
ومع انكماش الاقتصاد وتدهور الميزانيات، من المرجح أن تحاول الحكومات الحصول على قروض أطول أجلاً وأقل كلفة في الشهور المقبلة بعد أن جمعت بالفعل ما يقرب من 50 مليار دولار في أسواق الدين العالمية هذا العام.
فقد عادت دبي إلى أسواق الدين العام في الشهر الجاري للمرة الأولى منذ ست سنوات، لتجمع ملياري دولار في صفقة جيدة التسعير تعطي مؤشراً على أن الأسواق مازالت مفتوحة للمنطقة رغم الركود.
وتقدر ستاندرد آند بورز للتصنيفات أن العجز التراكمي للحكومات المركزية في دول مجلس التعاون الخليجي سيصل إلى نحو 490 مليار دولار إجمالاً بين 2020 و2023، وتتوقع أن يرتفع الدين الحكومي لدول المجلس بمبلغ قياسي يصل إلى 100 مليار دولار هذا العام.
وفي الوقت الذي تشدد الحكومات قيود الإنفاق، اكتسبت النزعة الوطنية في المجال الاقتصادي زخماً في بعض الدول، إذ تحركت الحكومات لحماية وظائف المواطنين وأجورهم وسط مخاوف من أن تفضي تدابير التقشف إلى اضطرابات سياسية.
وتحاول الكويت سن قوانين لتقليل عدد العاملين الوافدين، وأمرت سلطنة عمان شركات الدولة بإحلال المواطنين محل العاملين الوافدين، واستغنت شركتا الطاقة العملاقتان أرامكو السعودية وقطر للبترول عن أعداد من العاملين معظمهم وافدون لتقليل التكاليف.
وقال روبرت موجيلنيكي الباحث المقيم بمعهد دول الخليج العربية في واشنطن "انطوى التدخل الأولي بالسياسات الاقتصادية من جانب حكومات المنطقة على إجراءات أكثر اعتياداً بدلاً من التجريب الجذري"، مضيفاً: "لو أن ثمة اقتصاداً سياسياً مختلفاً اختلافاً جوهرياً بمنطقة الخليج في الطريق، فهو لم يصل بعد".