عاد المشهد اللبناني ليسير نحو المجهول كما كان قبل أسابيع من تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد انقضى النصف الأول من المهلة التي حددتها فرنسا للقوى السياسية لإنجاز ملف تشكيل الحكومة، إلا أن القوى السياسية تتنازع من أجل الاحتفاظ بالمكاسب الوزارية والمالية، بعيداً عن مصلحة لبنان.
وكان الرئيس الفرنسي قد منح قادة الأحزاب مهلة أسبوعين فقط لإنجاز الوزارة وتسهيل مهمة الرئيس المكلف مصطفى أديب، إلا أنه هدد بتنفيذ العقوبات التي اقترحتها الإدارة الأمريكية على القوى التي تعطل تشكيل الحكومة الجديدة.
على الجانب الآخر يسعى مصطفى أديب لإنهاء المهمة التي ينسقها مع الفرنسيين من خلال السفير السابق إيمانويل بون، المستشار السابق للرئيس ماكرون، الذي أكدت مصادر مطلعة لـ"عربي بوست" أنه يتواصل يومياً مع أديب، بالإضافة لتواصله الدائم مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، لتذليل العقبات أمام الرئيس المكلف.
مساعي أديب لتشكيل الحكومة
تؤكد المصادر أن أديب يركز في اجتماعاته على لقاء شخصيات من المجتمع المدني والحراك والمجموعات السياسية، ما يعد مؤشراً لاتجاه نيته مشاركتهم في الحكومة القادمة، على الرغم من أن تكليفه جاء نتاج توافق سياسي من أحزاب السلطة.
إلا أن أديب حتى الآن لم يتسلم أي اسم من مرشحي الكتل النيابية، في حين تتصاعد إشكالية التمثيل المسيحي، خاصة إذا صحت المعلومات المتداولة عن نية البعض إقناع الرئيس المكلف، بعدم إشراك التيار الوطني الحر في مشاوراته وإبعاده عن أي تشكيل محتمل في حكومته القادمة.
ماكرون يراقب المهلة ويجهز للمؤتمر
وفق خارطة ماكرون، فإنه خلال أسبوع يجب أن يُعلن تشكيل حكومة الرئيس مصطفى أديب، ويؤكد مصدر دبلوماسي أنه إذا استغرقت مهلة التأليف 20 يوماً بدلاً من أسبوعين، فإن انطباع الفرنسيين سيكون سيئاً جداً، وخاصة أن المهلة التي حدّدها ماكرون محسوبة بالأسابيع والأيام، ونسقها مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.
لذلك، ترغب باريس في إنجاز الحكومة خلال أسبوعين، تليها خطوات إصلاحية، ثم ينعقد مؤتمر الدعم في باريس، الذي سيدعو له ماكرون بعد انتهاء الأسبوعين، وسوف يشارك فيه قادة وممثلو دول أوروبية وعربية، فيما تعمل باريس على إقناع السعودية بالمشاركة.
ويشدد المصدر على أن تَنازع قوى السلطة على الحقائب الوزارية والأسماء، كما كان يجري عند تشكيل الحكومات السابقة، سيؤكد للفرنسيين أنّ أولوية هذه القوى ما زالت لعبة المال والسلطة، وأنه لا مجال للمراهنة على إنقاذ البلاد، وهذا قد يدفع فرنسا لتأييد وجهة النظر الأمريكية التي تهدد بالعقوبات.
قبل أيام، مَهّد ماكرون لهذا التغيير المحتمل في الموقف الفرنسي عندما هدد بشكل واضح بمعاقبة شخصيات سياسية ومسؤولين على مستويات رفيعة، وبمشاركة الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، إذا لم يتم التزام الخطوات الإصلاحية المطلوبة.
يرى المصدر أن السياسة التي اختارتها فرنسا تقوم على منطقٍ يشبه ما يعرف بقانون العفو في لبنان، أي التغافل عما ارتكب من فساد، بشرط ألّا يعود الفاسد إلى سلوكه السابق، وأن الفرنسيين ليسوا متحمسين لفتح ملفات الفساد في حال التزمت القوى والأحزاب السياسية بالمهل والإصلاحات المطلوبة.
شكل الحكومة موضع خلاف
مازال طريق تشكيل الحكومة مملوءاً بالعراقيل، فكل طرف يلجأ إلى رفع سقف مطالبه لتحقيق أكبر كمّ من المكاسب، لكن بحسب المصدر فإن العراقيل سوف تزول، وسوف تتشكل الحكومة بنهاية الأسبوع الجاري، وقد تُعلن يوم السبت المقبل، هذا ما تؤكده شخصية سياسية بارزه.
نزاع على الوزارات
من جهته يرى الصحفي منير الربيع أن رئيس الجمهورية ميشال عون مصمم على أن تضم الحكومة الجديدة 24 وزيراً، لأهداف عديدة، أولها أن الفرنسيين يطالبون بتسمية 4 وزراء يثقون بهم لإدارة ملفات أساسية في المرحلة المقبلة، وهي وزارات الأشغال والنقل ووزارة الطاقة ووزارة الاتصالات ووزارة العدل.
وتكون لوزارة الأشغال العامة والنقل وظيفة أساسية تتعلق بإعادة إعمار المرفأ وتشغيل المطار وغيرهما من المرافق العامة، بينما تتولى وزارة الطاقة مهمة إصلاح قطاع الكهرباء والنفط، وما يجري في البحر الأبيض المتوسط، ومصالح فرنسا في هذه المنطقة، أما وزارة الاتصالات فسوف تتولى بجانب مهامها إدارة مصالح فرنسية أخرى.
أما وزارة العدل، وفق الرؤية الفرنسية، فمهمتها إجراء إصلاح قضائي وإقرار التشكيلات القضائية المتأخرة، ويهدف المشروع الفرنسي من هذه المطالب لحماية وإدارة المساعدات التي يفترض أن يتلقاها لبنان من الجهات المانحة.
ويشدد الربيع على أن باريس تولي اهتماماً بالتنسيق مع وزارات أخرى كوزارة المالية، خصوصاً في مهمة التدقيق المالي الجنائي لحسابات مصرف لبنان، وعلى الرغم من تمسك الرئيس نبيه برّي بوزارة المالية، إلا أن الفرنسيين يريدون المشاركة في تسمية وزير المالية، أو إبداء الموافقة تجاهه على الأقل.
يأتي رفع رئيس الجمهورية سقف مطالبه بتشكيل حكومة من 24 وزيراً بهدف أن تضم الوزارة 12 وزيراً مسيحياً، بينهم 10 وزراء تابعين للتيار الوطني الحر، ووزيران من تيار المردة، الذي يتزعمه سليمان فرنجية، وفي حال سمّت باريس وزيرين مسيحيين يبقى لدى التيار الوطني 8 وزراء، أي ما يسمى بالثلث المُعَطِّل، أي الذي يعطل قرارات الثلثين الآخرين، في حال وقع خلاف بينهم.
لماذا الإصرار على الوزارات؟
يشدد مصدر مطلع لـ"عربي بوست" على أن إصرار حركة أمل على وزارة المالية أو اختيار شخصية تحظى بدعم رئيس البرلمان نبيه بري، يأتي من رغبة الحركة في إغلاق ملفات مالية متعلقة بالفترات التي تولت فيها الوزارة منذ عشر سنوات، خاصة بعدما كثر الحديث عن التدقيق الجنائي لحسابات الوزارة والمصرف المركزي.
وكشف المصدر أنّ الوزير السابق علي حسن خليل، المستشار السياسي لنبيه بري، أبلغ الرئيس المكلف مصطفى أديب، أنّ الثنائي الشيعي يعتبر وزارة المال حقاً لا مجال للتخلي عنه.
لافتاً إلى أنّ "ما عزز هذا الموقف هو ما فهم من الاتصالات الفرنسية المواكبة لعملية التشاور بأنّ باريس لا تعارض هذا الأمر، لرغبتها في أن تحظى حكومة أديب بغطاء سياسي لمهمتها الإصلاحية، لاسيما على مستوى التعاون المطلوب بينها وبين رئيس مجلس النواب نبيه بري، لإقرار القوانين والمراسيم ذات الصلة بهذه المهمة.
ويرى المصدر أن إصرار حزب الله على وزارة الصحة يأتي في إطار رفض الهزيمة السياسية، مادامت القوى السياسية مصرة على الحفاظ على مكتسباتها في الحكومة بشكل أو بآخر، فإن الحزب لن يعرقل تشكيل الحكومة وسوف يخفض سقف مطالبه لتسهيل مبادرة ماكرون، لكنه لا يريد أن تكون على حسابه في ظل التهافت الدولي على إقصائه وإبعاده عن الحكومة.
فيما يصر التيار الوطني الحر على تخيير أديب بين منح التيار وزارة الطاقة أو وزارة الداخلية، ويرى المصدر أن موقف باسيل والتيار الوطني الحر يأتي في إطار الضغط على تيار المستقبل، خاصة أن وزارة الداخلية كانت منذ سنوات مع تيار المستقبل.
أديب بين التشكيل أو الاعتذار
يشدد مصدر مقرب من الرئيس المكلف أنه بات يستند إلى سلاح الموقف، خشية انقضاء مهلة الأسبوعين، كما يستند إلى تأييد البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الذي دعاه أمس إلى تشكيل حكومة طوارئ مُصغّرة توحي بالجدّية والكفاءة، ليثق بها الشعب.
ويرى المصدر أن خطة أديب الأولى هي تأليف الحكومة وفق الالتزام الذي قطعه سائر القادة السياسيين للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتشكيل حكومة مستقلة مختصة.
وأن الخطّة الثانية تقضي بأن يعتذر الرئيس المكلّف مصطفى أديب عن مهمته الموكلة إليه بتشكيل الحكومة، إذا رفض رئيس الجمهورية ميشال عون تسهيل مهمته.