لا توجد مبادئ ولا مواقف ثابتة في السياسة، والتغيير هو طبيعتها، وفي هذا السياق يجب أن نتساءل عن التغير الجذري الذي طرأ على موقف العرب من قضية فلسطين: فمن الجهاد ضد الصهيونية إلى السلام مقابل السلام، هو انقلاب في المواقف وليس تغييراً، فكيف وقع هذا الانقلاب، ولمصلحة من؟
"لا اعتراف، لا تفاوض، لا سلام"
كان قيام الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارته المفاجئة لإسرائيل وإلقاء خطابه الشهير في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) انقلاباً في الموقف العربي الموحد منذ إعلان قيام دولة إسرائيل على جزء من أراضي دولة فلسطين في مايو/أيار 1948 (يوم النكبة)، وكان الموقف العربي يُعرف باللاءات الثلاثة: (لا سلام، ولا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل).
اللاءات العربية الثلاثة كانت ما تم التوافق عليه في القمة العربية بالخرطوم والتي تم عقدها في أعقاب هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل في حرب يونيو/حزيران 1967، ونتج عنها احتلال الدولة العبرية لبقية أراضي فلسطين (القدس والضفة الغربية وقطاع غزة) وشبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية ومنطقة نهر الأردن.
وجاء رد الفعل العربي على ما قام به السادات سريعاً وحاسماً، فتم نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، ومقاطعة الدول العربية جميعاً لمصر، واستمرت تلك المقاطعة نحو عقد من الزمان، ووقتها كانت مصر منتصرة في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وأدت زيارة السادات إلى توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل (اتفاقية كامب ديفيد) عام 1979 والتي أدت إلى استعادة مصر بقية شبه جزيرة سيناء.
وجرت في النهر مياه كثيرة، وبعد محاولات وجهود من أطراف دولية عديدة تم عقد مؤتمر الشرق الأوسط للسلام مطلع التسعينيات، وتم توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة الراحل ياسر عرفات ووزير خارجية إسرائيل وقتها شيمون بيريز، برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1993 وكانت تسمى اتفاقية الحكم الذاتي الانتقالي، وكان من المفترض أن تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بحلول مايو/أيار 1998، لكن لم يحدث ذلك بالطبع.
ثم جاءت المبادرة العربية مطلع القرن الحالي والتي أطلقها ملك السعودية الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وكان عنوانها "الأرض مقابل السلام"، وتفسيرها ببساطة هو أن تنسحب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب يونيو/حزيران 1967، وتشمل هضبة الجولان السورية وأراضي فلسطين (القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة) مقابل أن تعترف جميع الدول العربية بإسرائيل وتقيم علاقات طبيعية معها.
التطبيع الإماراتي انقلاب على الموقف العربي
وأصبحت المبادرة العربية تمثل الموقف العربي الجديد من قضية فلسطين حتى يوم 13 أغسطس/آب الماضي، عندما أعلنت الإمارات عن اتفاق تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وهو ما مثَّل انقلاباً آخر في الموقف العربي من قضية فلسطين، نقل الموقف من خانة "الأرض مقابل السلام" إلى خانة "السلام مقابل السلام"، وهو الشعار الذي رفعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ ظهوره على الساحة السياسية كردٍّ على المبادرة العربية.
والواقع أن الانقلاب الإماراتي على الموقف العربي سبقته خطوات مهدت له، ومحطات كان من الطبيعي أن تمثل عقبات في طريق أي تطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، إلا أنها مرت مرور الكرام، ولعل أبرز تلك المحطات كان إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس وذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، ثم الإعلان عن ضم هضبة الجولان السورية المحتلة رسمياً إلى إسرائيل، وأخيراً إعلان صفقة القرن التي تعترف بضم أكثر من ثلث أراضي الضفة الغربية المحتلة لإسرائيل، وهو ما يعني عملياً إنهاء فكرة إقامة دولة فلسطينية من الأساس.
كان المفترض- مقارنةً بالموقف العربي من قضية فلسطين على مدى نحو 70 عاماً، هي عمر دولة إسرائيل- أن تؤدي تلك القرارات الترامبية التي تنتهك القرارات الدولية وثوابت القانون الدولي، بل السياسة الأمريكية ذاتها، أن تؤدي- على أقل تقدير- إلى بيانات الرفض والشجب والتنديد العربية المعتادة لكن ذلك لم يحدث، أو إلى خروج مظاهرات شعبية رافضة ومنددة، لكن ذلك أيضاً لم يحدث.
اختلاف الأولويات العربية
المتتبُّع لمسار الأحداث في المنطقة العربية منذ زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، يلاحظ أنه في عام 1948 كانت غالبية الدول العربية- إن لم تكن جميعها- تقع تحت الاحتلال الغربي، بريطانيّاً كان أو فرنسياً، ورغم ذلك فقد أرسلت الدول العربية جيوشها إلى فلسطين لمحاربة العصابات الصهيونية المسلحة، وأبرزها الهجانة، التي ارتكبت فظائع بحق الفلسطينيين رصدتها تقارير دولية متعددة ترقى إلى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وكانت هزيمة تلك الجيوش العربية- لأسباب متعددة، منها الفساد وسوء الإدارة وتشتت القيادة- وإعلان قيام دولة إسرائيل بمثابة صفعة تركت جرحاً غائراً في كرامة العرب قيادةً وشعوباً.
ومن ثم ظلت قضية فلسطين حاضرة وبقوة في الوجدان العربي وتمثل أولوية للشعوب لا يمكن أن يتغاضى عنها الزعماء العرب، وكانت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 تجسيداً لتلك الحقيقة، حيث ساهمت فيها جميع الدول العربية بصورة أو بأخرى، وكان قرار حظر النفط العربي عن الدول الغربية وأمريكا حاسماً في إبراز قضية فلسطين بالنسبة للعرب.
وحتى بعد أن وقَّعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل وتم افتتاح سفارة للدولة العبرية في عاصمة أكبر دولة عربية، ظلت مسألة التطبيع الشعبي مع إسرائيل من المحرَّمات، وكان من يتجرأ ويزور إسرائيل من الفنانين أو الكُتاب أو غيرهم يتم عقابه شعبياً ونقابياً، وظلت إسرائيل العدوَّ الأول للمصريين والعرب، ويمكن القول إن ذلك لم يتغير كثيراً حتى الآن، على المستوى الشعبي على الأقل.
لكن اندلاع ثورات الربيع العربي نهايات 2010 وبدايات 2011، كشف عن حقائق ربما لم ينتبه لها كثيرون، وهي أن الشعوب العربية التي عانت طويلاً من فساد الأنظمة فيها وديكتاتورية حكامها، ثارت سعياً للتخلص من هؤلاء الحكام والسعي لحياة كريمة وعادلة، ولم تكن قضية فلسطين هي الدافع وراء تلك الثورات التي فشل معظمها- باستثناء تونس والسودان حتى الآن- في تحقيق أهدافها، وعادت تلك الأنظمة لسيطرتها وسطوتها مرة أخرى ولكن بصورة أكثر قمعاً وباستخدام أساليب العصر وبالتحديد الدعاية الإعلامية الجبارة.
الاستقطاب السياسي والنعرة القومية
انشغلت كل دولة عربية إذن بقضاياها الداخلية، وتمت إعادة ترتيب الأولويات من ناحية الأنظمة الحاكمة ومن ناحية الشعوب والناشطين السياسيين أيضاً؛ فالأنظمة بدأت تستغل سلاح "الإرهاب" وتتحالف مع القوى الخارجية في مواجهة العدو المشترك، وأصبحت إسرائيل إحدى تلك القوى الخارجية التي تحارب الإرهاب أيضاً، في وجود عدو آخر مشترك وهو إيران- بالنسبة للسعودية والإمارات والبحرين ومصر بصفة خاصة- ومن ثم لم تعد إسرائيل عدواً للعرب، وبدأت الآلة الإعلامية التابعة لتلك الأنظمة في عملية "تسويق" إسرائيل كدولة ديمقراطية تتمتع بالرخاء والتقدم، في مقابل قادة فلسطين الذين تتلاعب بهم إيران لمصالحها الخاصة.
وأصبح مصطلح "السلام الدافئ" مع إسرائيل- الذي أطلقه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للمرة الأولى عام 2015- يتردد كثيراً وفي مناسبات متعددة، آخرها الثلاثاء 8 سبتمبر/أيلول 2020، على لسان علي النعيمي، رئيس لجنة الدفاع والداخلية والعلاقات الخارجية في المجلس الاتحادي بدولة الإمارات، واصفاً اتفاق التطبيع مع تل أبيب بأنه "سلام دافئ سيصمد أيضاً أمام أزمات، مثل الحرب في غزة".
ويمكن القول إن تصريحات النعيمي في حديثه لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، جاءت بمثابة شيك على بياض لدولة الاحتلال بأن تفعل ما تشاء في المنطقة دون أن يؤثر ذلك على علاقات الإمارات وحاكمها الفعلي محمد بن زايد معها، وهذا ليس فقط انقلاباً على موقف الشيخ زايد مؤسس الإمارات، الذي لم ينطق قط اسم إسرائيل؛ بل كان اسمها "العدو"، لكنه أيضاً إذعان يستعصي على التفسير- بحسب رافضين إماراتيين للتطبيع- في ظل رفض نتنياهو السماح للإمارات بشراء طائرات F-35 الأمريكية الصنع.
هل تريد إسرائيل السلام فعلاً؟
الآن وقد انقلب موقف العرب من "لا تفاوض لا سلام لا اعتراف" إلى "الأرض مقابل السلام" وأخيراً إلى "السلام مقابل السلام"، يصبح السؤال مشروعاً تماماً: هل ما تريده إسرائيل هو السلام فعلاً؟ والإجابة هنا تكمن بين السطور كما يقال، فالمعلن هو أن إسرائيل تريد السلام مع جيرانها العرب، لكن أليس من الضروري أن يتم ترسيم حدود إسرائيل كدولة أولاً؟
إسرائيل أعلنت أن الجولان السورية جزء منها ولن تتخلى عنها، وتقيم المستوطنات في أراضي الضفة الغربية كافة، وتعتبر القدس عاصمة لها، وتحاصر قطاع غزة منذ عام 2006، والحديث عن إسرائيل "من النيل للفرات" هو المحرك للسياسات الإسرائيلية، وهو ما يعني أن الهدف الأساسي "إسرائيل الكبرى" هو المحرك الأوحد لما تقوم به إسرائيل، فعن أي سلام يتحدث القادة العرب إذن؟
والآن بدأت التقارير تتحدث عن اتفاق إسرائيلي مع أبوظبي لفتح المجال أمام عرب 1948، وهم يعيشون في إسرائيل ويحملون جنسيتها، للهجرة والعمل في الإمارات، أي السعي لتفريغ الداخل الإسرائيلي من المواطنين العرب، فإسرائيل تريد التخلص من الفلسطينيين بأي طريقة، وبعد أن قضت- أو كادت- على فكرة عودة اللاجئين الذين أجبرتهم على الفرار من أراضيهم منذ نشأتها عام 1948، تريد التخلص من الباقين منهم في الداخل.
ولا شيء من هذه المعطيات خافياً لا على العرب ولا على غيرهم، وهو ما ينعكس في عشرات التقارير الغربية، التي رأت في اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي مصلحة خاصة لترامب ونتنياهو وبن زايد، أما السلام في الشرق الأوسط فقد أصبح أبعد مما كان عليه قبل الإعلان عن ذلك الاتفاق الذي يمثل انقلاباً في الموقف العربي من فلسطين دون أي مقابل من جانب دولة الاحتلال.