رئيس المحاولات الفاشلة.. ماكرون يريد فرنسا مهيمنة أوروبياً ودولياً، لكنه لا يستطيع لهذه الأسباب

عربي بوست
تم النشر: 2020/09/03 الساعة 13:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/06 الساعة 12:44 بتوقيت غرينتش
إيمانويل ماكرون

يتردد اسم الرئيس الفرنسي في الإعلام العربي ربما أكثر من الرؤساء العرب أنفسهم في الأسابيع الأخيرة، فقد زار لبنان مرتين في غضون ثلاثة أسابيع مبشراً بعهدٍ جديد في أعقاب فجيعة تفجير مرفأ بيروت، كما زار العراق ووعد بدعم سيادة بلاد الرافدين، فماذا يريد إيمانويل ماكرون؟ وهل بإمكانه تحقيق وعوده وما أكثرها؟

"بحبك يا لبنان"

كان ماكرون أول من زار لبنان في أعقاب تفجير المرفأ وتوجه موقع التفجير والتقى المواطنين اللبنانيين المفجوعين والغاضبين، وهو ما لم يجرؤ عليه أي من زعماء لبنان وما أكثرهم، وقدم وعوده للشعب اللبناني بأنه سيدير بنفسه عملية تنسيق المساعدات كمهمته الأولى، وأنه سيعمل على خطة لتحقيق تحول سياسي يحل أزمة البلاد بصورة جذرية.

ووصف ماكرون زيارته لفيروز بأنها "جميلة وقوية للغاية"، وقال: "تحدثت معها عن كل ما تمثله بالنسبة لي عن لبنان نحبه وينتظره الكثير منا.. عن الحنين الذي ينتابنا".

ثم زار لبنان للمرة الثانية في أقل من شهر واستهل الزيارة بلقاء السيدة فيروز في بيتها وقال بالعربية "بحبك يا لبنان" في فيديو نشره قصر الإليزيه، واختار بنفسه رئيس وزراء لبنان الجديد مصطفى أديب، بحسب التقارير الإعلامية، كما التقى محمد رعد زعيم الكتلة النيابية لحزب الله، وكان اللقاء عاصفاً وشهد تهديدات صريحة من ماكرون الذي غضب بشدة وانفعل على الصحفي جورج مالبرونو من "لو فيغارو" لأنه نشر تفاصيل اللقاء.

وبينما يرحب الكثيرون بتدخل ماكرون في لبنان بتلك الصورة التي تخلو من الدبلوماسية، يرى البعض في تصرفاته محاولة لتعزيز النفوذ الفرنسي في لبنان وحتى تحسين صورته هو كرئيس، خاصة بعد انخفاض مستوى شعبيته منذ أزمة السترات الصفراء في فرنسا، والسؤال هنا هو: ماذا يريد ماكرون فعلاً؟ والأهم هل يمكنه تنفيذ وعوده؟

هل ماكرون زعيم أوروبا الجديد؟

منذ وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه رئيساً لفرنسا عام 2017 كان واضحاً أنه يريد أن تستعيد فرنسا دورها كقوة مؤثرة ليس فقط في أوروبا ولكن حول العالم، وهو في ذلك متأثر بشدة بمؤسس الجمهورية الفرنسية الحالية شارل ديغول، وفي رأي كثير من الخبراء وجد ماكرون الظروف الدولية مواتية تماماً لتحقيق طموحاته؛ فأوروبياً كانت المستشارة أنجيلا ميركل تقترب من اعتزال المشهد، بينما بريطانيا مشغولة بمغادرة الاتحاد الأوروبي والفوضى التي تنتظرها نتيجة لذلك الخروج، بينما الولايات المتحدة تحت رئاسة دونالد ترامب وشعاره "أمريكا أولاً" تركت فراغاً في كل مناطق العالم تقريباً، بحسب دراسة لمعهد كارنيجي أوروبا.

وفي هذا الإطار نشط ماكرون بشكل لافت في جميع الملفات الساخنة حول العالم؛ حاول أن يتوسط لعقد محادثات مباشرة بين أوكرانيا وروسيا، كما سعى جاهداً لعقد لقاء مباشر بين ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني أثناء الجمعية العمومية للأمم المتحدة العام الماضي، وهي جهود مبهرة بحسب المحللين، لكنها لم تؤدِّ لأي نتيجة في نهاية المطاف، وحتى عندما اجتاح وباء كورونا العالم منذ مارس/آذار الماضي، كان ماكرون أكثر زعماء أوروبا انتقاداً للصين بصورة عجز كثير من المراقبين أن يجدوا تفسيراً منطقياً لها.

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون/ رويترز

كما شهدت السياسة الخارجية لفرنسا منعطفاً كبيراً يتمثل في التقارب مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، رغم العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو منذ 2014 بعد احتلالها شبه جزيرة القرم وغزوها لأراضي أوكرانيا، وهو ما أثار عاصفة من المقالات في الصحف الفرنسية تسعى لفكّ طلاسم تحركات ماكرون، وفي هذا الإطار كتبت الصحفية إيزابيل لاسير أكثر من مقال في "لو فيغارو" أشارت فيها إلى أن "الرئيس الفرنسي يعوّل على عودة روسيا إلى الحظيرة الأوروبية من أجل تطويع توحش النظام العالمي، لكن مسار التطبيع هذا دونه عوائق".

وشكك الباحث جان-سيلفستر مونغرينييه في جدوى "وضع هندسة جديدة للأمن الأوروبي مع الدولة التي تهدد هذا الأمن"،  كما أثار تقارب ماكرون من روسيا غضب وقلق بلدان أوروبا الشرقية التي ترى أن بوتين يروّج لليد الممدودة لفرنسا على أنها انتصار رمزي لروسيا على أوروبا.

"لا يمكن فرض الديمقراطية من الخارج"

الحقيقة أن ماكرون لم يحظَ بتلك المتابعة الإعلامية في الشهر الأخير فقط، فالرجل كان مصدراً لعشرات إن لم يكن آلاف التحليلات التي تحاول أن تفكّ طلاسم نشاطه الوفير وتحركاته السريعة على كل الجبهات، وقد نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية أكثر من تقرير في هذا السياق كان أحدها بعنوان "ماكرون يتصرف كديغول"، جاء فيه أن الرئيس الفرنسي يتخطى بريطانيا وألمانيا وإيطاليا سعياً لاستعادة جذور السياسة الخارجية لبلاده.

فماكرون يصر على استقلالية المواقف الفرنسية عن الأمريكية على أساس أن الموقف الفرنسي يجب أن تكون له الريادة، وفي حواراته مع عديد الصحف الأوروبية بعد انتخابه رئيساً بفترة قصيرة، أعلن ماكرون أنه "سينهي شكل السياسة التقليدية الجديدة التي استوردتها فرنسا في العقد الأخير"، في إشارة لسلفيه هولاند وساركوزي، وأعلن رفضه لمحاولة الولايات المتحدة فرض رؤيتها على العراق قائلاً: "لا يمكن فرض الديمقراطية من الخارج دون مشاركة الشعوب. كانت فرنسا محقة عندما رفضت المشاركة في حرب العراق وأخطأت بدخول الحرب بتلك الطريقة في ليبيا".

ماكرون مع حفتر/رويترز

من يقارن بين ما قاله ماكرون بشأن الغزو الأمريكي للعراق ومشاركة بلاده في الإطاحة بمعمر القذافي لابد أن يستوقفه هذا التناقض الصارخ بين ما يقوله الرئيس الفرنسي وما يفعله؛ فها هو يقدم للسياسيين في لبنان "ورقة عمل" عليهم تنفيذها دون مناقشة، مهدداً بعدم تقديم المساعدة في حالة عدم تنفيذ رؤيته الخاصة لحل أزمات لبنان المعقدة، فهل قدم حلولاً بالفعل؟

لكن واقع الأمر هو المبادرة السياسية التى تحدث عنها ماكرون وطرحها خلال اجتماعه مع القيادات اللبنانية فى قصر الصنوبر، لم تكن سوى أفكار عامة حول تحييد لبنان والاهتمام بالاقتصاد وإجراء الإصلاحات فى قطاعات أساسية، كما أثار حديثه عن "ميثاق سياسى جديد لتغيير النظام" الكثير من التساؤلات حول ما يريده ماكرون، وطبيعة مبادرة فرنسا للحل فى لبنان.

ورأى لبنانيون أن تصريحات ماكرون لا يمكن التعامل معها بشكل عاطفى، ولا يمكن إغفال ما وراء سطورها باعتبارها إعلاناً عن عودة لبنان لما قبل عام 1943م تحت الانتداب الفرنسي، وتوقيع الميثاق الوطني اللبناني الذي ترتب عليه جلاء آخر جندي فرنسي في عام 1946م، واعتبر البعض أن زياراته لم يكن هدفها تقديم الدعم للبنان، بقدر ما هدفت لإيصال عدد من الأوامر التي تستغل الأزمة، والتي تمثلت في فرض الوصاية على لبنان وتسليم الموانئ والمطار والجوانب العسكرية لقوات الأمم المتحدة.

واستنكر عدد من اللبنانيين تصريحات ماكرون حول استقالة الحكومة والبرلمان قائلاً: "في حال رفض المسؤولون هذه المطالب سيصدر قرار عن مجلس الأمن خلال 10 أيام يقضي بتكليف حلف الناتو تولي فرض الأمن في لبنان"، واعتبروا ذلك محاولة للسيطرة على لبنان وليس مساعدته.

التناقض بين الكلام والفعل ليس بجديد

قبل الغوص في محاولة تفسير أقوال ماكرون ومقارنتها بالأفعال، لابد من التوقف عند دوره في أزمة ليبيا؛ فالرئيس الذي أعلن رفضه "مشاركة بلاده فرنسا في حرب ليبيا -عام 2011- بتلك الطريقة" التف حول الموقف الأوروبي والدولي الداعم لحكومة الوفاق الشرعية في طرابلس ومد يد المساعدة لزعيم ميليشيات شرق ليبيا الجنرال خليفة حفتر الذي انقلب على الاتفاق السياسي وهاجم العاصمة طرابلس محاولاً السيطرة عليها وإعلان نفسه حاكماً عسكرياً على البلاد، وبعد فشله وجد ماكرون نفسه في موقف لا يحسد عليه فأعلن أخيراً تخليه عن حفتر، واختفت ليبيا فجأة من أجندته بعد أن كان المتحدث الأبرز في ذلك الصراع.

فيما تظاهرت السترات الصفراء خارج الاليزيه، كان ماكرون بالداخل/ رويترز

ولو تركنا سياسة ماكرون الخارجية التي يصفها أغلب المراقبين بـ"السريعة والانتهازية والمتقلبة كثيرة التحركات شحيحة النتائج"، وغصنا أكثر في الوضع الداخلي لوجدنا أن نفس السمات هي أيضاً ما يميز أداء الرئيس الفرنسي؛ ففي خضم الاحتجاجات الشعبية ضد سياساته الضريبية المنحازة لأصحاب المال والأعمال والتي تحولت إلى حركة شعبية تعرف باسم "السترات الصفراء"، خرج ماكرون بخطاب يدعو فيه إلى "حوار مجتمعي" بهدف التوصل إلى عقد اجتماعي جديد فيه توافق حول الحقوق والواجبات بين المواطنين والدولة، مضيفاً أنه منفتح على كل الأفكار والتوجهات.

لكنه وفي نفس الخطاب قال إنه لا تراجع عن برنامجه الاقتصادي وتوجهاته السياسية التي انتخب على أساسها، وهو ما يكشف عن تناقض واضح، بحسب المحللين الفرنسيين؛ فكيف يكون منفتحاً على كل الأفكار إذا كان ملتزماً ببرنامج محدد؟ وفي مسألة الضرائب تحديداً قال ماكرون إنه منفتح على أي سياسة ضريبية يتم التوافق عليها، بينما قال في نفس الخطاب إنه لا تراجع عن إلغاء الضريبة الرأسمالية على الأثرياء وأصحاب الأعمال تشجيعاً على الاستثمار.

وبحسب كثير من المحللين، فإن هذا التناقض بين ما يقوله ماكرون وما يفعله هو السبب الرئيسي وراء عدم نجاحه في الملفات الداخلية المتعددة التي أدت إلى احتجاجات "السترات الصفراء"، التي لا تبدو لها نهاية قريبة، كما أن هذا التناقض نفسه هو السبب وراء فشله في جميع ملفات السياسة الخارجية حتى الآن رغم الجهود والتحركات الكثيرة التي يبذلها.

تحميل المزيد