حملت أول طائرة تجارية إسرائيلية إلى الإمارات اسم "كريات غات" وهو اسم مستوطنة أصبحت مدينة إسرائيلية على أنقاض بلدتي الفالوجة وعراق المنشية الواقعتين 32 كم شمال شرقي غزة.
اختيار الإسرائيليين لهذا الاسم بالتحديد أثار تساؤلات عديدة وفتح أوراق التاريخ لجرح عميق لدى الشعب الفلسطيني، الذي قاوم مع ضابط شاب في العام 1949، اسمه جمال عبدالناصر، لحماية البلدة ضد عناصر العصابات الصهيونية.
تأخرت النكبة في هاتين القريتين اللتين شهدتا بسالة ودفاعاً مستميتين من أهلها أولاً والقوات المصرية والسودانية حتى 24 فبراير/شباط من العام 1949.
ولكن في صيف مثل الصيف الذي حطت به الطائرة الإسرائيلية بمطار أبوظبي، كانت الاشتباكات في الفالوجة وعراق المنشية على أشدها ولكن قبل 72 عاماً.
العصابات الصهيونية تحاصر عراق المنشية
في أواخر مارس/آذار عام 1948، بدأت المناوشات بين المتطوعين من أهل البلدة وعناصر الجيش المصري والسوداني من جهة، وقوات العصابات الصهيونية التي كانت تحاصر البلدتين من جهة أخرى.
ولكن المعارك الحقيقية بدأت في أواخر شهر يونيو/حزيران، عندما ازدادت حدة وشراسة المعارك وتضييق الحصار من قبل اليهود.
سقوط القرى المجاورة دفع بالعديد من اللاجئين إلى النزوح إليها، ما ضيَّق الخناق على القوات العربية المرابطة هناك.
وعندما فرضت العصابات الصهيونية حصاراً، لم يتبقَّ خيار للجيش المصري والأهالي إلا القتال.
تكاتف أهل البلدة مع القوات المصرية والسودانية
ولأن سكان عراق المنشية مزارعون وفلاحون، فتولوا مهمة تأمين الغذاء للسكان والقوات المصرية من الحبوب المخزنة، وتخصيص يوم الجمعة لتوزيع اللحوم لإطالة أمد المواد الغذائية؛ بعدما انقطعت سبل اتصال الجيش بقياداته ودمر الإسرائيليون طاحونة البلدة.
كان عدد السكان نحو 3 آلاف نسمة، بينما بلغ تعداد الجيش المصري نحو 1300.
بدأ الهجوم على البلدة من الغرب بعدما سقطت البلدات الغربية، فتصدَّت الوحدة السودانية مع المتطوعين؛ ما أدى لسقوط مئات القتلى والجرحى من العصابات الصهيونية، والذين تم دفنهم في مقابر جماعية.
أما الهجوم الثاني الشهير فقد جاء من الشمال، حيث استعمل البكباشي جمال عبدالناصر حيلة لاستدراج العصابات إلى فخ نصبه بعدما أجرى مفاوضات مع القائد سايل سكرمان.
الفخ الذي نصبه جمال عبدالناصر
أبلغ عبدالناصر الإسرائيليين وقتها أن الجيش المصري سيسلم البلدة بلا قتال، مقابل عدم الانتقام من الجيش والأهالي بعد الهزيمة الأولى التي حلت بهم.
دخل الجنود بلا أسلحة وطلب من المواطنين والجنود عدم الاشتباك، قبل أن يطلق إشاراته وهي طلقة حمراء.
وعندما دخل عدد كبير منهم بلا أسلحتهم الثقيلة، أعطى عبدالناصر الإشارة وبدأ استهداف الجنود.
وقال الرئيس عبدالناصر، في 3 مارس/آذار 1955: "ولستُ أنسى معركة 16 أكتوبر/تشرين الأول عام 1948، في عراق المنشية، حين واجهنا اليهود وهم متفوقون في القوة والعدد وكنا نحن في موقع منعزل محاصر، وتمسكنا بالشرف، وتمسكنا بالواجب، وتمسكنا بالوطن. فهزمنا المعتدين. فرأيت العسكري اليهـودي وهو يفر مذعوراً لمجرد رؤيتنا. رأيتهم يُهزمون رغم دباباتهم ومدرعاتهم التي تركوا بعضها في الميدان".
وقال عبدالناصر بتاريخ 22 يونيو/حزيران 1962: "وفي سنة 1948، حاربنا وحوصر جزء من الجيش المصري في الفالوجة وعراق المنشية. ولقد رأيت الفلسطينيين في عراق المنشية. وكان معنا الشيخ خالد (خالد الطيطي الذي منحه الرئيس جمال عبدالناصر فيما بعدُ وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى) مختار في عراق المنشية، وقد استشهد أبناؤه أمامي ولم يكن يلتفت لأحد من أبنائه، وقد أُريق في هذا اليوم الدم الفلسطيني والدم المصري، وقد بلغ عدد الذين استشهدوا 150 شهيداً من الكتيبة المصرية وقتل أيضاً عدد كبير من الفلسطينيين المناضلين، ودخل اليهود واستولوا على ثلثي عراق المنشية، ولكن لم يتمكنوا من الصمود، واستطعنا أن نعيد الاستيلاء على مواقعنا، وتكبَّد اليهود في هذا اليوم يوم 28 ديسمبر/كانون الأول سنة 1948 خسائر بلغت نحو 400 قتيل. وقمنا بدفنهم. وأنا ذهبت بعد أنتهاء الحرب وبعد الهدنة إلى عراق المنشية في يناير/كانون الثاني سـنة 1950، ودخلت بواسطة رجال الهدنة؛ لأطلع اليهود على مقابر هؤلاء الجنود، لأنهم لم يستطيعوا معرفتها وطلبوا من رجال الهدنة أن يرسلوا أحد المصريين ليريهم هذه المقابر… وقد أوفدني الجيش المصري لأعيّن لهم المقابر، لأننا كنا نتبادل الجثث".
العتاد الزائف ومجزرة السودانيين
في 17 فبراير/شباط عام 1949، وصلت قافلة بنحو 100 جمل محملة بعتاد زائف وقليل من التموين، بحجة أنها لدعم القوات المصرية، لكن قائدها كان ضابطاً بريطانياً يلبس كوفية حمراء.
بعد خروجه بـ24 ساعة، دكت العصابات الصهيونية البلدة من كل حدب وصوب بالطائرات والدبابات والأسلحة الثقيلة.
وبعد ليلة طويلة أُرهقت فيها قوى الجيش المصري، دخل الجنود الإسرائيليون إلى مواقع كان يسيطر عليها السودانيون فذبحوا نحو 54 جندياً وضابطاً.
جمعت العصابات السكان في مكان يقال له حارة الطيطي؛ ظناً منهم أن الجميع قد قُتل بالقصف، فتحرك وقتها عبدالناصر مع بقية الجنود هرباً من البلدة.
وتشير روايات شهود العيان إلى أن تلك الليلة شهدت أمطاراً غزيرة أجبرت الجنود على التجمع من منزل أحمد أخريوش، فظنت القيادات الإسرائيلية أن القوات المصرية تجمعت هناك، فقصفت المنزل خطأ وبدأ الناجون بالهروب.
عندها وقع في الأسر 5 ضباط يهود، من بينهم القائد البريطاني الذي قاد حافلة الإمدادات التي زُعم أنها إمدادات عربية لنجدة أهل البلدة.
الإسرائيليون ينقضون عهد إبقاء أهل البلدة ووقف القتل
وبعد المفاوضات، تحولت القريتان (عراق المنشية والفالوجة) إلى منطقتين محرَّمتين، وتم سحب الجيش المصري إلى غزة في تاريخ 25 فبراير/شباط عام 1949.
من حيث المبدأ، قبِلت إسرائيل مطلب المصريين في رسائل متبادلة تم إيداعها لدى الأمم المتحدة وملحقة باتفاقية الهدنة الرئيسية، واتفقت الحكومتان على السماح للمدنيين الراغبين في البقاء بالفلوجة وعراق المنشية بالبقاء، وأنه "يجب أن يكون كل هؤلاء المدنيين آمنين تماماً فيما يتعلق بأشخاصهم ومساكنهم وممتلكاتهم وأمتعتهم الشخصية".
لكن الاتفاق لم يدم يوماً واحداً، ففي 26 فبراير/شباط نكثت العصابات الصهيونية العهد، دخلت القرية مدمرةً الممتلكات وأجبرت الأهالي على الهجرة.
وبتوجيه من إسحاق رابين (رئيس وزراء إسرائيل لاحقاً)، وربما بالموافقة المباشرة من رئيس الوزراء المؤسس ديفيد بن غوريون، وفقاً للمؤرخ بيني موريس، شنت القوات الإسرائيلية فوراً "حملة قصيرة وحادة ومنسقة إلى جانب الحرب النفسية المصممة لترهيب السكان ودفعهم إلى الفرار".
ورغم الترهيب، رفض سكان البلدتين المغادرة، فقتلت القوات شابين من عائلتي الجوابرة ومحيسن على مرأى ومسمع الجميع.
عندها طلب السكان حماية دولية من المراقبين الدوليين، الذين قالوا إنهم لا يستطيعون ذلك ونصحوهم بالمغادرة.
المراقبون الدوليون نصحوا السكان بالمغادرة
كانت بانتظارهم عربات صهيونية ثم أخرى أردنية في مكان يدعى "السنابرة"، وتم ترحيل جميع أهل البلدة إلى مكان يسمى العروب حيث نصبت لهم الخيام.
وذكر وسيط الأمم المتحدة رالف بانش، في تقريره، كيف بدأت العصابات الصهيونية تنتهك وقف إطلاق النار الذي وقَّعته مع الجانب المصري، حيث بدأ الجنود ترويع وتخويف المدنيين العرب واللذين شملا حالات الضرب المبرح والسرقات ومحاولات الاغتصاب؛ لجعل سكان القرية يغادرون بيوتهم.
وأشار مراقبو الأمم المتحدة الذين قدّموا تقاريرهم إلى بانش، الدبلوماسي الأمريكي البارز الذي كان حينها يتولى منصب الوسيط الرئيسي للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، ليس فقط إلى الضرب والسرقة، ولكن أيضاً حالات محاولة الاغتصاب و"إطلاق النار العشوائي" على المدنيين من قبل الجنود الإسرائيليين.
من الجدير ذكره أن بانش، الحائز جائزة نوبل للسلام عام 1950، قد تولى منصب كبير الوسطاء قبل بضعة أشهر بعد اغتيال سلفه، الكونت السويدي فولك برنادوت، على يد منظمة يهودية بقيادة إسحاق شامير، الذي أصبح لاحقاً رئيس وزراء إسرائيل.
ثم أصبحت كريات غات
هذه الأسباب اضطرت المدنيين إلى مغادرة قريتهم بحلول 22 أبريل/نيسان، وبدأت العصابات الصهيونية بهدم المنازل في يوم 27 من الشهر نفسه، ليبدأ من بعدها تأسيس مستوطنة كريات غات التي تحولت لاحقاً إلى مدينة تحتضن مصانع لكبرى شركات التكنولوجيا مثل Intel وHp وNumonix وغيرها.
وتسمى العملية العسكرية التي نفذها الإسرائيليون ضد البلدة "يوعاف"، والتي شملت أراضي فلسطينية أخرى، من ضمنها قرية الجورة وعجور وذكرين وغيرها.
وعراق المنشية والفالوجة المجاورة كانتا من بين ما لا يقل عن 418 قرية فلسطينية هُجرت من سكانها قبل إقامة دولة إسرائيل في عام 1948، أو عام النكبة، الذي قُتل خلاله آلاف الفلسطينيين، وأُجبر مئات الآلاف من السكان على الفرار، وحُرموا لاحقاً من حق العودة.
وعن عراق المنشية قال الشاعر محمد زعيزع الطيطي:
يـــا سائـــلاً عنــي وعن عنوانــي أنــا ابن بيتٍ راســخ الأركــانِ
لعشيرة ( الطيطي ) أعود وأنتمي أهـــل كـــرام حبّـهم عنوانـــي
إن تـــدعهم للخيــــر أهل حميـــةٍ وبيــوتهم في خدمة الضيــفان
تـــــاريخ أجــدادي سجلُّ بطولــةٍ عطر يفوح على مدى الأزمان
اسأل (جمال) عن الصمود بعزة: من قاوم المحتل فـي الميـدان
فــــي قريـــــةٍ منسيَّـــةٍ سكانُهــا رمـــز لكــل بســـالة الســـكان
كانـــت مثــــالاً للتوحـــد يُحتـذى من مصر وفلسطين والسودان
(منشيتي) لــو لــم أراك مــرة أقسمت؟ لن أنساك؟ بالرحمن
نحن الشباب اليوم نجمع شملنا علم وديـن فــي عــلا الأوطــان
بمخيــم العــروب أو فــي إربــد في جرش في الفوار في عمّان
إن كانــت الأميـــال تفصل بيـننا فالـدم يـجمعنـــا كــما الإخــوان
ســـنظل فـــي كــل البــلاد أحِبَّة ســنداً لنــصرة بعضنــا بتفاني
كـــل التحيـــة للعشـــائر كلـهـا وعشيرة (الطيطي) لها وجداني