أُحيلت قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، إلى المحاكمة في بلدٍ بعيد عن مسرح الجريمة، دون احتجاز أيٍّ من المتهمين. وتكلّفت الملاحقة القضائية ملايين الدولارات، ووظّفت جيوشاً من المحقّقين والباحثين والمحامين. ولكن الحكم الذي صدر في واحدةٍ من أهم الاغتيالات السياسية في تاريخ لبنان المعاصر، يوم الثلاثاء 18 أغسطس/آب، ترك البلاد دون خاتمة وفشل في الإجابة عن السؤال الأساسي: مَن الذي أمر بالقتل؟
وبالنسبة للهجوم الانتحاري الهائل بسيارةٍ مُفخّخة في بيروت عام 2005، الذي هزَّ الشرق الأوسط وقتل الحريري و21 آخرين، فقد برّأت المحكمة المدعومة من الأمم المتحدة في هولندا 3 متّهمين لعدم كفاية الأدلة.
أما الرجل الرابع وهو سليم عياش، فقد أُدين بالمشاركة في مؤامرة لتنفيذ التفجير، ولكن المحكمة ستضطر لإعادة محاكمته مرةً أخرى إذا تم القبض عليه في أي وقت، لأن هذا الحكم قد صدر غيابياً.
وقالت المحكمة إنّها تفتقر إلى الأدلة المباشرة على تورّط سوريا وحزب الله -الميليشيا اللبنانية النافذة- في الجريمة، رغم أنّها صرّحت بأنّ لديهما دوافع "للقضاء" على الحريري.
"تحميل أيّ شخص المسؤولية"
بينما قالت مها يحيى، مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، لصحيفة New York Times الأمريكية، إنّها شعرت بأنّ المحكمة تُعقد "في حقبةٍ مختلفة".
وصدر الحكم إبان الجدل الدائر بين الساسة اللبنانيين حول إمكانية فتح تحقيقٍ دولي في تفجير بيروت، لكن الإدانات المحدودة ربما تُقوّض الآمال في محاسبة المسؤولين عن التفجير.
إذ تساءلت مها: "هل هذا هو ما انتهينا إليه بعد 15 عاماً أمام محكمة خاصة للبنان مع محققين دوليين؟ كيف إذن سيتم تحميل أيّ شخص المسؤولية عن تفجير الميناء؟".
ويرى مراقبون أن الحكم، جاء بمثابة مفاجأة لكثيرين، ممن كانوا يتابعون القضية، داخل لبنان وخارجه، والذين كانوا يتوقعون إدانة لعدد أكبر من المتهمين، ففوجئوا بإدانة شخص واحد، بتدبير وتنفيذ عملية الاغتيال.
وحضر سعد الحريري، نجل السياسي الذي صار رئيساً لوزراء لبنان في السابق أيضاً، جلسة يوم الثلاثاء، وقال للمراسلين بعد الحكم إنّه وأسرته يقبلون به. واعتبرت المحكمة جريمة القتل عملاً إرهابياً بدوافع سياسية، ووصفت المتّهمين الأربعة بأنّهم من أنصار حزب الله، وهم عياش وحسن حبيب مرعي وحسين حسن عنيسي وأسد حسن صبرا.
وقبل شهور من قتله، كان الحريري الأب قد استقال من منصبه في رئاسة الوزراء، احتجاجاً على التدخّل السوري المستمر في البلاد، بما في ذلك وجود القوات السورية.
ولم يذكر القضاة هوية من خطّط للهجوم، لكنّهم رجّحوا أنّ القرار النهائي بقتله اتُّخِذَ بعد اجتماعٍ في الثاني من فبراير/شباط عام 2005، وفيه توافق الحريري وغيره من الساسة على الدعوة إلى "الانسحاب الفوري والكامل للقوات السورية من لبنان".
وبعد قتله وقعت الشكوك عموماً على سوريا، التي نفت أيّ دورٍ لها في الجريمة. وتسبّب الهجوم السافر في خروج ملايين المحتجين إلى الشوارع، بينما أسفر الاحتجاج، والضغوطات الدولية، عن إجبار سوريا على سحب قواتها.
"حزب الله غير معني بقرارات المحكمة"
وإبان قراءة مُلخص الحكم المُكوّن من 2600 صفحة، قال القضاة إنّ خطة القتل اعتمدت على كميةٍ هائلة من المتفجرات عالية الجودة، وكان الهدف منه هو إثارة "الخوف والذعر" الذي سيتردّد صداه في جميع أنحاء لبنان والمنطقة.
وقلّل زعيم حزب الله حسن نصرالله من شأن المحكمة مراراً، واصفاً إياها بالمؤامرة الغربية. كما هدّد بمطاردة أي من أتباعها الذين يتعاونون معها. ولم تُعلّق الجماعة فوراً على أحكام يوم الثلاثاء، لكن نصرالله قال مؤخراً إنّ حزب الله غير معني بقراراتها.
بينما قال ممثلو الادّعاء إنّ المشتبه به الرئيسي كان مصطفى أمين بدر الدين، أحد قدامى محاربي العمليات الخاصة في حزب الله، وأحدّ المقربين من كبار القادة، لكن القضية المرفوعة ضده انتهت حين قُتِلَ في سوريا عام 2016.
وبالنسبة لمنتقدي المحكمة، فإنّ محاكمة حفنة من عناصر حزب الله قليلة الشأن هي أبعد ما تكون عن النتائج التي توصّل إليها محقّقو الأمم المتحدة، الذين أُرسِلوا إلى بيروت بعد الاغتيال بوقتٍ قصير.
وفي تقريرهم، وصف المحققون جريمة القتل بالمؤامرة الاحترافية المُعقّدة التي تطلّبت "دعماً لوجستياً كبيراً"، وقدراً هائلاً من التمويل، و"دقةً عسكرية في التنفيذ".
بينما أنهى المدعي الألماني الذي قاد تحقيقاً آخر، ديتليف ميليس، تحقيقه في عام 2005 بقائمةٍ تضم نحو 20 مشتبهاً به، من بينهم العديد من كبار المسؤولين في لبنان وسوريا.
وقال الدبلوماسيون آنذاك إنّ ميليس أنهى مهمته على مضض بعد تحذيره من مؤامرتي اغتيال ضده، كما تعرّض ضابطا شرطة لبنانيان على الأقل للقتل بسبب مساعدتهم في تحقيقات المحكمة.
وبنى المدعون قضيتهم إلى حدٍّ كبير على أدلةٍ عرضية، غالبيتها سجلات ضخمة للهواتف الخلوية التي استخدمها العملاء إبان تعقبُّهم لتحرّكات الحريري سراً طيلة أسابيع.
وطلب محامو الدفاع الذين عيّنتهم المحكمة تبرئة مُتّهميهم، قائلين إنّه لا توجد أدلة على استخدام موكّليهم للهواتف المذكورة. إذ جادل المحامون بأنّ السجلات الإلكترونية يُمكنها الكشف عن الموقع والتاريخ والوقت، ولكنّها لا تُؤكّد هوية المستخدم.
تكاليف باهظة
كان من المقرر النطق بالحكم في السابع من أغسطس/آب، ولكنّه تأجّل بسبب تفجير مرفأ بيروت. وأُثيرت التساؤلات حول تكلفة موظفي المحكمة البالغ عددهم 400 شخص، ومن بينهم كتيبة مدعين و11 قاضياً شاركوا في القضية.
إذ دفع لبنان نصف ميزانيتها السنوية التي تصل إلى 60 مليون دولار بمساعدةٍ من السعودية، بينما تكفّلت تبرعات الدول الغربية والخليجية بالنصف الآخر. وبالنسبة للعديد من النقاد، فإنَّ هذه التكلفة الهائلة لا تُبرّرها رمزية المحاكمة غيابياً.
بينما قالت إحسان فايد الناصر، التي كان زوجها طلال ناصر رئيساً للفريق الأمني الخاص بالحريري ومات معه في الانفجار، عبر الهاتف، يوم الثلاثاء، إنّ المحكمة جمعت الأدلة وحدّدت المشتبه بهم، وحكمت على رجلٍ واحد فقط. ثم أردفت: "آمل أن يُلقى القبض عليه حتى يقودنا إلى العقل المُدبّر لهذه الجريمة".