عاشت البلاد الإسلامية خلال القرنين الحادي إلى الثالث عشر الميلادي ظروفاً قاسية سبَّبتها الحروب الصليبيّة التي بدأها الصليبيون الأوروبيون للسيطرة على المشرق الإسلامي. وظلّت الحروب طيلة مئتي عام منذ عام 1096 وإلى عام 1291، خرج خلالها أبطالٌ من المشرق الإسلاميّ مثل نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس وغيرهم، وفي هذا التقرير سنقص عليكم إحدى قصص البطولة في معركة حارم.
ما قبل معركة حارم.. نظرة على العالم الإسلامي
لنفهم سياق المعركة جيداً، علينا أولاً أن نفهم سياقها. فقد بدأت الحملات الصليبية على العالم الإسلامي عام 1096، وكان من نتيجتها تأسيس ممالك صليبية في العالم الإسلامي، مثل: إمارة أنطاكية، ومملكة بيت المقدس، وإمارة طرابلس، وكونتيّة الرها.
استمرّت مقاومة المسلمين للغزو الصليبيّ طيلة تلك السنين الطويلة، حتّى استطاعوا إخراجهم أخيراً من المشرق الإسلامي عام 1291.
فماذا كان وضع العالم الإسلامي حينها؟
كان المسلمون السلاجقة الأتراك يسيطرون على بغداد، حيث كان الخليفة العباسي فيها لا يملكُ من الحكم والخلافة سوى الاسم فقط، ويسيطر عليه السلطان السلجوقيّ. وكانت الخلافة العباسية تمتد من العراق إلى الشام، ومع خفوت قوّة السلاجقة أنفسهم استقلّت العديد من الإمارات الإسلامية في الشام وغيرها عن الخلافة.
وكانت مصر مقرّ الدولة الفاطميّة، التي تسمّت باسم "الخلافة الفاطمية" وكانت تسيطر على بعض سواحل شمال إفريقيا وجزءٍ بسيط من الشام.
وفي منتصف القرن الثاني عشر، برز رجل سيظلُّ اسمه يتردّد طيلة قرونٍ بعد ذلك، ذلك الرجل هو نور الدين محمود زنكي. القائد المسلم الطموح الذي حارب الصليبيين طيلة حياته، والذي جهّز منبراً للمسجد الأقصى ليصلي عليه بعد تحرير بيت المقدس من الصليبيين، ذلك المنبر الذي ورثه صلاح الدين من بعده ووضعه في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين.
كان مقرّ نور الدين محمود في حلب، ومنها انطلق إلى بقيّة أراضي الشام، محارباً الصليبيين وموسعاً مناطق نفوذه، التي هي بالطبيعة مناطق نفوذ المسلمين.
وعلى الجانب الآخر كانت الدولة الفاطمية في حالةٍ يرثى لها، فالحكم فيها كان قد انتقل بأيدي الوزراء المتحكمين في الخليفة الفاطميّ الصغير، ومع مرور الوقت، ذهبت طبقة الوزراء الأقوياء المؤثرين، وبرزت مكانهم طبقة وزراءٍ منتفعين وفقط، لا مشكلة لديهم في التعاون مع الصليبيين ضدّ المسلمين!
الصراع في مصر يصل إلى الصليبيين والمسلمين في الشام
قبل أن تنال مصر نصيبها من الحملات الصليبية كانت الحملات الصليبية الأولى مركزة بالأساس في منطقة الشام. وفي ذلك الوقت برز صراعٌ بين وزيرين في مصر، الأوّل هو شاور، والثاني هو ضرغام.
وما لبث الأخير أن أطاح بالأوّل، فهرب الأوّل مستجيراً بنور الدين محمود، طالباً منه العون والدعم ليصل للوزارة مقابل أن يجعل لنور الدين ثلث خَرَاج مصر وأن يترك نور الدين محمود حاميةً عسكريةً تابعةً له في مصر.
كان العرضُ مغيراً جداً، فمن ناحية يستطيع نور الدين أن يستخدم الأموال المصرية في دعم حملاته ضد الصليبيين، ومن ناحيةٍ استراتيجية ستكون جبهته أقوى كثيراً إذا انضمت إليه مصر في صراعه مع الصليبيين. إذ بانضمام مصر سيقع الصليبيون في بيت المقدس تحديداً بين فكّي "كماشة إسلامية".
دعم نور الدين محمود الوزير شاور، وأرسل معه أسد الدين شيركوه أبرز وأقوى قادته، ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، الذي سيصبح بعد عشرين عاماً البطل الأوّل في العالم الإسلامي لقرونٍ طويلة. واستطاع شيركوه أن يعيد شاور للوزارة ويقتل ضرغام، لكنّ شاور ما إن تمكّن من الوزارة حتى غدر بشيركوه وطلب منه الرحيل واستعان بملك بيت المقدس الصليبيّ عليه!
كانت الفرصة سانحةً لملك بيت المقدس، فضربة شيركوه ستضعف نور الدين محمود في الشام، خصوصاً أنّ نور الدين هُزم منذ أقل من سنة هزيمةً كبيرة من تحالف الإمارات الصليبية ضده!
فقد سار نور الدين محمود عام 1163 بجيوشه إلى حصن الأكراد الصليبي، وهو حصنٌ منيع يقع في سوريا من ناحية حدود لبنان الشمالية. حاصر نور الدين الحصن وهدفه السيطرة عليه ثمّ المسير إلى إمارة طرابلس ومحاصرتها. لكنّ ما حدث كان مفاجئاً له وللمسلمين.
فقد انقضّت الجيوش الصليبية الثلاثة: جيش مملكة بيت المقدس، وجيش إمارة أنطاكية، وجيش إمارة طرابلس والمئات من المتطوعين الأوروبيين، أو من كانوا يسمَّون حينها "الحجّاج". وظهروا فجأةً صباحاً ودخلوا معسكر المسلمين غير الجاهز للقتال من هول المفاجأة.
فوجئ نور الدين محمود بالهجوم المباغت، واستطاع الهرب بصعوبةٍ شديدة وكاد أن يقتل، وعلى مقربة حوالي 20 كيلومتراً عسكر نور الدين بمن تبقّى معه من جيشه عازماً على الثأر من تلك الهزيمة التي كان من المفترض أن تكون نصراً يستطيع فيه هزيمة إمارة طرابلس بعد حيازته حصن الأكراد الحصين.
نور الدين محمود.. مصر ولعبة السياسة
أصبح نور الدين في وضعٍ لا يحسد عليه، فمن ناحيةٍ جاءته تلك الهزيمة القاسية، ومن ناحيةٍ أخرى كان جيشه في مصر بقيادة أسد الدين شيركوه قد اشتبك مع جيش مملكة بيت المقدس الصليبية، وحاصروه في مدينة بلبيس، وظلّ هذا الحصار طيلة ثلاثة أشهر.
قبل هذا الحصار كان نور الدين محمود من قاعدته في قلعة حلب يعدّ العدّة لمعركةٍ خاطفةٍ أخرى ينتصر فيها ويعيد للمسلمين هيبتهم وشعورهم بالنصر واستمرارية الحرب لتحرير بيت المقدس وبقية الأراضي التي احتلها الصليبيون، ولهذا سار مرةً أخرى إلى مدينة حارم (ضمن مناطق إدلب) في العام التالي 1164، ولديه هذه المرّة خطةٌ ذكية للإيقاع بهذا الحلف الصليبي الثلاثي.
وأثناء سيره للمعركة كان نور الدين يلعب لعبةً سياسيةً كبيرة، فالثمرة الناضجة التي ستقلب موازين القوى تماماً في تلك الحرب هي الدولة الفاطمية في مصر، ولو استطاع جيش مملكة بيت المقدس هزيمة أسد الدين شيركوه ودخل القاهرة لكانت هزيمةً أشدّ وقعاً على كلّ المسلمين، فوقوع مصر تحت السيطرة الصليبية معناها طول مدة الاحتلال الصليبي في المشرق الإسلامي.
معركة حارم، أو معركة الأمراء الثلاثة الأسرى!
نزل نور الدين محمود بعسكره ناحية حارم ونصب المجانيق عليها، ووصل الأمراء الثلاثة أنفسهم الذين هزموه منذ عدّة أشهر وكادوا يقضون عليه في معركة البقيعة قرب حصن الأكراد. لكنّ خطته كانت جاهزة، وجيشه هذه المرة جاهز لأيّ مفاجئة.
استدرج الجيش المسلم سلاح الفرسان الصليبي، فهجم جيش الفرسان على ميمنة الجيش المسلم، تقهقرت الميمنة سريعاً فظنّ الفرسان أنهم يحققون نصراً سريعاً، لكنّ الجيش المسلم التفّ على سلاح الفرسان وفرّقهم عن بقية جيشهم من المشاة، فكثر القتل في جيش الصليبيين حتّى توقّف المسلمون عن القتل وبدئوا في الأسر.
يحكي لنا ابن الأثير في كتابه الكامل أنّ المسلمين قد "أسروا ما لا يُحدّ، وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس، وكان شيطان الفرنج، وأشدهم شكيمةً على المسلمين، والدوك مقدِّم الروم، وابن جوسلين، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل".
هكذا انتهت المعركة بهزيمة ثلاث ممالك صليبيّة على يد نور الدين محمود. وقد أخذ نور الدين حارم وما حولها من قلاعٍ وحصون، ودخل ميناء وقلعة بانياس الاستراتيجية أيضاً.
عندما علم جيش مملكة بيت المقدس الذي يحاصر أسد الدين شيركوه في مدينة بلبيس بمصر بالهزيمة في معركة حارم صالحوا شيركوه على انسحابهما معاً من مصر دون قتال، ولم يكن شيركوه يعلم بخبر الهزيمة فقد كان محاصراً منذ ثلاثة أشهر.
وهكذا استطاع نور الدين بتحقيق هذا النصر في الشام الحفاظ على مصر بعيداً عن الحلف الصليبيّ بسبب الوزير الخائن شاور، وبعد سنواتٍ قليلة ستنضمُّ مصر لنور الدين محمود، ثمّ ستصبح في غضون سنواتٍ قليلة القاعدة الأساسية ورأس الحربة الذي سيُخرج الصليبيين من بلاد المسلمين للأبد، ومن بعدهم المغول.