أمام النكسات والإخفاقات التي منيت بها تجارب نضالية عديدة بعد أن خيمت النظم السلطوية والقمعية على عموم المنطقة العربية والإسلامية التي تمادت في العدوان على شعوبها والإجهاز على حقوقها، شكلت نقابة المعلمين الأردنيين إحدى النقاط المضيئة القليلة التي أعادت الاعتبار لنبض الجماهير وسط هذا الجو القاتم الذي ترتب عليه سيادة سلطة الخوف والإذعان. استطاعت النقابة أن تفرض نفسها رقماً صعباً، وأن تنتزع شرعية تمثيل المعلمين، بل أن تنجح في قيادة واحدة من أبرز معاركها النضالية حتى إنها فرضت على الدولة الأردنية تقديم اعتذار لها بفعل اعتداءات أجهزتها الأمنية بحق عدد من مناضلي النقابة في إحدى وقفاتها بداية الموسم الدراسي الحالي، وذلك بعد خوضها إضراباً مفتوحاً مطولاً انتهى باستجابة الدولة لعدد من مطالب المعلمين الأردنيين.
لم يكن عبثاً إذن هذا الاستهداف الأخير، فما كان للسلطوية أن تبلع هزيمتها تلك وتترك للمعلمين أن يحتفوا بهذا الانتصار الذي تتجسد قيمته في بعده المعنوي أكثر من المادي منه باعتباره أضحى نموذجاً ملهماً للحركة الاحتجاجية المحلية، وهو ما جعل عناصر من مسؤولي الدولة يتخوفون من أن يكون ذلك مقدمة لكسر الرهبة منهم، وهو ما دفعهم إلى تَحَيُّنِ الفرصة لرد الصاع صاعين للنقابة. وقد وجدوا في كورونا ضالتهم لتصفية حسابهم القديم معها محاولين استرجاع ما أعطوه في السابق للمعلمين، خصوصاً بعد الاقتطاعات من أجورهم التي قوبلت بالرفض، لكن وبدل تفهم موقف النقابة اختارت السلطة المضي نحو السرعة القياسية في إجراءات غير مسبوقة باقتحام الأجهزة الأمنية لمقر النقابة الرئيسي وبعض فروعها واعتقال مجلسها، معلنة حظر أنشطتها لمدة سنتين، معيدة بذلك الصراع إلى نقطة الصفر.
مشكلة القوم ليست في ممانعة نقابة المعلمين فحسب، فبالإضافة إلى أنها تعتبر من الأصوات النشاز القليلة التي لا تقبل الانتهاكات بحق أعضائها في وسط ألِف لغة الإملاءات السلطوية، الشيء الذي لن يكون مرحباً به عند صناع القرار. فقدرة المعلمين كذلك على تنظيم أنفسهم وعلى تجسيد ذلك بالاصطفاف في كيان وحدوي رغم اختلافاتهم الأيديولوجية والسياسية والعشائرية، كما أن تدبير شؤونهم بشكل ديمقراطي جعل هذا التشكيل النقابي يشكل استفزازاً لمؤسسات عليا لا تشم للديمقراطية رائحة. ذلك أن تواجد كيان مصغر حر ينعم باستقلاليته ويعبر عن إرادة من انتخبه هو في عرفهم رسالة عدوانية موجهة إلى نهجهم وخطر مستقبلي على سيادته حتى لا يطالبهم أحد بالنسج على منوال رجال التربية، مما خلق رغبة حثيثة في تحطيم هذه التجربة ووأدها في مهدها. ولئن لم تفلح مكائد السياسة وحيلها في ذلك، فعصا السلطة الغليظة في نهاية المطاف تتكفل في خلق الواقع الذي تريده للمدرسين بعد إدخالهم بيت الطاعة.
غير أن روح التضامن العالية بين المدرسين وحجم الالتفاف الكبير حول إطارهم النقابي عقد الأمور على أنصار المقاربة الأمنية، فرغم اختيارهم الوقت المناسب لإنفاذ خطتهم التصفوية للنقابة زمن العطلة وفي ظل ظروف الجائحة، إلا أن وقوف المعلمين وقفة رجل واحد مع ثبات قيادتهم ونزاهتها وشفافيتها بدليل تفضيلها المكوث في السجن مع إضرابها عن الطعام على المساومة على حقوق المعلمين الشيء الذي أحرج السلطة الأردنية، فلم تزد الاعتقالات والممارسات القمعية الأوضاع إلا تأججاً حتى أن تبعات ما تقوم به يطيل أمد المواجهة مع النقابة وهو ما لا يخدمها البتة، فتمديد المعركة للدخول المدرسي المقبل هو حتماً في صالح المعلمين. ثم إن دعاية السلطة ووجهها الحقوقي سيتضرران كثيراً هي المقبلة على استحقاق إنجاح محطة الانتخابات النيابية، فبأي منطق يمكن أن تقنع الناخبين بالانخراط في تلك الانتخابات هي التي انقضت على تجربة ديمقراطية وليدة تخص شريحة معتبرة من شرائح المجتمع الأردني؟
نقابة المعلمين الأردنيين اليوم تقدم درساً استثنائياً لمحيطها المحلي وكذا العربي دفاعاً عن قرارها، ففي الوقت الذي تشهد فيه الساحة النقابية في بلدان عربية عديدة عقد الصفقة تلو الأخرى من طرف قيادات تبيع من يفترض أنها تمثلهم بثمن بخس وتصطف دون حياء مع من يستغلهم، وفي الوقت الذي يصعب فيه لم شتات الشغيلة بسبب فرقتها وتشرذمها حتى أن حجم العداء والشماتة الذي يطال أية فئة مناضلة من زملاء المهنة يفوق في كثير من الحالات ما تتعرض له من باقي شرائح المجتمع، نجح هذا الإطار الفتي في تحصين نفسه من كل تلك الأمراض مقدماً في بضع سنوات ما لم تحققه إطارات نقابية عربية طيلة عقود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.