من الصعب ألا يجذب مسلسل نتفلكس القصير Unorthodox انتباهك، بدايةً من اسمه غير المألوف، الذي يعني غير أُرثوذكسي، بالإضافة لإعلان المُسلسل، والبوستر الخاص به أيضاً.
كل هذه الأشياء، تعدك بأنك هذه المرة، ستُشاهد شيئاً، لم تره من قبل، وهذا هو ما فعله Unorthodox معي، ووفى بوعده فعلاً.
إذا كنت مهتماً مثلي بالقصص التي تدور في عوالم مُختلفة تماماً عن عالمنا التقليدي، حيث ترى من خلاله، طقوس مُجتمعية غريبة، ومفاهيم جديدة للحياة، ورحلة مؤثرة للبحث عن الذات، فعلى الأغلب، ستروقك مشاهدة المسلسل الفريد من نوعه Unorthodox.
في البداية، قادني الفضول للبحث عن معنى كلمة أُرثوذكس، والتي لا تعني لغير المسيحين، غير أنها مذهب ديني مسيحي، ولكنّي وجدت أنّ الكلمة أصلها يوناني، ومعناها العام الالتزام بالأعراف القديمة، أمّا معناها المتعارف عليه، فهو الالتزام بعقيدة المسيحية، كما مثّلتها المذاهب في الكنيسة القديمة.
لهذا نفهم لماذا يُترجم البعض اسم المسلسل Unorthodox إلى كلمة: غير مُلتزمة، أي غير مُلتزمة بتعاليم الدين.
الشيء الغريب بخصوص إستر شابيرو
إستر شابيرو، أو إستي، هي فتاة صغيرة لم تتجاوز العشرين من العُمر، تعيش في حي ويليامسبرغ ببروكلين، نيويورك.
في البداية حينما تراها، ستشعر أنّ هناك شيئاً غريباً بها، فجسدها جسد طفلة، ولكنّها ترتدي ملابس لا تُناسب عُمرها، بخلاف أنّ تعابير وجهها ناضجة جداً، ورغم أنّها قليلة الكلام، إلّا أنّ عيناها، معبّرة بشدة عمّا يجول في نفسها.
سرعان ما سيتضح لنا، أنّ إستر تنتمي إلى مجتمعٍ شديد الخصوصية، وهو مجتمع الساتمار أو الحاسيدية اليهودي، والذي تعود أصوله إلى المجر، حيث اللغة اليديشية هي اللغة الأصلية، التي يتحدث بها أهل هذا المجتمع.
معظم هؤلاء اليهود، هم الذين نجوا من الهولوكوست في ألمانيا قبل الحرب، وبعدها قاموا بتأسيس هذا المجتمع المغلق في بروكلين بنيويورك.
لهذا، فإنّ الشيء الغريب بخصوص إستر شابيرو، أنّها لم تكن يوماً، فتاة عاديّة، تحيا حياةً طبيعية، بل كانت فتاة صغيرة، تعيش في مجتمعٍ مُحكم الإغلاق، وشديد القمع، تم تحويلها فيه إلى امرأة قسراً، ليُمارس عليها التسلّط باسم الدين، ما اضطرها للهرب من قارّةٍ إلى قارّةٍ أخرى، كي تبحث عن هويّتها، التي سُلبت منها في وطنها.
ولكن.. هل كان لابد لإستر أن تفقد مذهبها، حتى تكتشف طريقها في الحياة؟ سنكتشف الإجابة معاً في نهاية هذا المقال.
عن السحر الذي قاد إستر من نيويورك لبرلين
في اللقطة الأولى من المسلسل، نرى إستر وهي تستعد للهرب من نيويورك، والسفر لبرلين، بدون أن تخبر زوجها أو أسرتها، وبينما نُتابع رحلتها السريّة والمُخيفة هذه، يأخذنا المسلسل عن طريق لقطات الفلاش باك، لحياة إستر قبل الزواج، وهي المشاهد التي امتدّت عبر حلقات المسلسل كاملةً، وسارت جنباً إلى جنب، مع مشاهد حياتها الجديدة في برلين.
بالنسبة لي، كانت مشاهد إستر في نيويورك في عالمها القديم، هي المشاهد الأمتع، لأنّها كانت بمثابة الدخول لعالمٍ سرّيٍ غامض، لا يعرف الكثيرون عنه شيئاً.
بمرور الأحداث، سنكتشف سبب هروب إستر، الذي بدا كنتيجة طبيعية، لسلسلة من الأحداث التي تعتبر تقليدية بالنسبة لمجتمع الحاسيدية، ولكنها تُعتبر مؤذية بشدّة، لأي بيئة مُعتدلة أخرى.
ولكنّ السؤال الذي شغلني حقاً، ما الذي جعلها تقرّر ذلك القرار المصيري الخطير؟
فمن الغريب أنّ إستر كانت معزولةٌ تماماً عن الحياة خارج بيئتها المُغلقة، وهي بالتالي، جاهلةٌ بكل ما ينقصها كإنسانة، وبكل ما حُرمت منه كإمرأة، فمّا الذي جعلها تتمّرد على وضعها، حينما كانت تحيا في نعيم الجهل بنيويورك؟
وكيف تاقت نفسها إلى شيءٍ، لم تعرف أنّ له وجوداً أصلا؟
لم يطل تفكيري، ووجدت نفسي أرتاح إلى فكرة، أنّ إستر كانت كالهاربة من الجحيم، هي لا تعرف فعلاً أنّ هناك جنّة ونعيم على الجانب الآخر، هي فقط هربت من آلام الاحتراق بشكلٍ تلقائي.
رغم ذلك، ففي رأيي أنّه كان هناك شيء واحد فقط بمثابة السحر الخفي، الذي جذب إستر بعيداً عن عالمها القديم، الذي يُحرَم فيه على النساء الغناء أو العزف.
كانت الموسيقى هي ذلك السحر، الذي أشعر إستر بأنّ هناك اختيارات أخرى في الحياة، وأنّ من حقها أن تشعر بكل هذا الجمال، الذي لا تعرف له اسماً، والذي يداعب مشاعرها، كلمّا سمعت الموسيقى.
اختيار إستر الحُرّ.. وتوقّعات الربّ منها
عانت إستر في عالمها القديم بنيويورك، عانت ككل أُنثى انتمت لذلك المجتمع، وكُتب عليها أن تكون مُجرّد أداة لإنجاب الأطفال، ولإشعار الرجل بأنّه ملكٌ مُتوّج، في حين أنّ عليها تقبل كونها نجسة، لمدة نصف الشهر تقريباً.
ولكن، لماذا إستر تحديداً هي من تألّمت وحدها، كل هذا الألم؟
وما الفارق بين إستر، وغيرها من فتيات مجتمع الحاسيدية، رغم أنّ مصيرهنّ واحد في النّهاية؟
أجابتني نفسي بأنّ كل الفتيات عانين مثلما عانت إستر، وربما أكثر، ولكنهنّ قبلن بهذه المعاناة، قبول اليائس الذي لا يعرف طريقاً آخر للحياة.
أمّا إستر، فلم تستطع أن تتكّيف مع مجتمعها، لم ترضَ، ولم تقبل أن تكون هذه حياتها، فلم تجد حلّاً آخر سوى الفرار. كما أنّه ليس مُستبعداً أيضاً، أن تكون إستر قد ورثت هذا التمّرد عن أمها، التي لم تقبل هي الأخرى أن تعيش بداخل الأسوار الحديدية لويليامسبرغ.
سافرت إستر إلى برلين، بطفلٍ لا تُريد أن تَفقدهُ، رغم كل شيء، وصارت الآن في مواجهة عالم جديد، حيث الحرية المطلقة لأن تقول، وأن تفعل، وأن ترتدي، فيه كل ما تريده، فهي هنا حُرةٌ تماماً، بينما كانت هناك في عالمها القديم، مُقيدة تماماً، فلا وسطية بين العالمين.
ولاحظ معي المفارقة هنا، أنّ برلين أو ألمانيا ككل، تُمثل لكل يهودي جرحاً لن يتوقف نزيفه، فهناك قُتل أجدادهم بالملايين، وهو نفس المكان الذي هرعت إليه إستر كي تُلملم جراحها، وتكتشف فيه إنسانيتها التي لم تشعر بوجودها قبلاً.
من بين كلمات إستر القليلة في المسلسل، علقت هذه الجملة في رأسي طويلاً:
"توّقع الربّ مني، أشياءاً أكثر من اللازم."
وفي رأيي، أنّه لم يكن الربّ هو من حمّل إستر بكل هذه الفرائض الواجبة، والتي لو لم تفعلها المرأة ستهلك حتماً.
لم يكن الربّ هو الموصي بأن تحلق النساء شعورهنّ قبل زفافهنّ، وبأن يرتدين بدلاً منها شعراً مُستعاراً طوال حياتهنّ، ولم يحرم الله النّساء من قراءة التوراة أو تعاليم الدين.
لذلك كان بديهياً لفتاة مثل إستر، أن تتحول من النّقيض إلى النّقيض، بعدما شعرت- خاطئة بالطبع- أنّ الرب يضطهدها شخصياً كأنثى، لتسأل بعدها، مُحرك البحث في الكمبيوتر، في براءة متناهية، عمّا إذا كان الله موجوداً من الأساس أم لا.
يراها شخص بجوارها تفعل ذلك، فيُجيبها، بأنّ الإجابات كثيرة، ولكن لازال عليها أن تختار إجابة منها.
تجد إستر من جديد نفسها أمام نفس المُعضلة، فعليها أن تختار الإجابة الصحيحة وحدها.
حينما يكون البحث عن الذات ضدّ الدين نفسه
الكثير جداً من المشاعر تنتاب المرء بعد مشاهدته لمسلسل من هذه النوعية، ليس المشاعر فحسب، وإنّما الأفكار أيضاً. وكذلك تفعل، كل الأعمال التي تتناول رحلة البحث عن الذات، وخاصة حينما تتعارض تلك الرحلة مع الدين الذي ينتمي المرء إليه، ويخضع لقوانينه.
بالتأكيد رأينا جميعاً، الكثير من الأعمال التي تتناول فكرة التعصب الديني، ولكن Unorthodox أرانا كيف يبدو الأمر من الداخل، من قلب مُجتمع عانى قبلاً من الاضطهاد العنصري الذي وصل للإبادة الجماعية، فلملم أشلاءه ليهاجر بعيداً، ويقوم بتكوين جماعات مُغلقة، تعاهدوا فيها على الالتزام بكل عاداتهم، وطقوسهم الدينية القديمة، وفي نفس الوقت، شدّدوا على عدم الاتصال بالآخرين من حولهم، الذين يختلفون عنهم في العقيدة، فكأنّ من يراهم الآن، يظنّهم هاربين من القرن الماضي، بأزيائهم الغريبة، ،وتعليمهم البسيط المُقتصر على الدين فقط، وبُعدهم كل البعد عن التكنولوجيا الحديثة.
لهذا لم يكن غريباً، أنّه حينما سافر يانكي قبل زواجه من إستر، بصحبة والده إلى أوروبا، لم يزر إلّا قبور الحاخامات فقط.
وليس غريباً أن يصل الجهل في مجتمع الساتمار، لدرجة أن يقوم يانكي أيضاً، في مشهدٍ هزليٍ، بالإمساك بهاتفٍ محمول، وسؤاله شفويّاً: "أين زوجتي؟ أين إستر؟" منتظراً منه أن يجيبه.
لذلك أجد أنّ أسوأ ما في التّعنُّت الديني، أنّه للأسف، يُجبر الإنسان الرافض له، على أن يترك دينه نفسه، من أجل أن يحصل على بعضٍ من الحرية.
فلا توجد خيارات ها هنا، إمّا القبول والتسليم الكامل، وإما الرفض، وبالتالي النبذ الكامل من المُجتمع.
معلومات عن مسلسل نتفلكس القصير Unorthodox
المسلسل القصير الألماني الأمريكي المشترك، والمكوّن من 4 حلقات فقط، هو إنتاج أصلي لشبكة نتفلكس، بدأ عرضه في آخر مارس 2020. وهو أول المسلسلات على الإطلاق التي تظهر فيها اللغة اليديشية، وهي لغة يهود أوروبا، بالإضافة إلى اللغتين الألمانية والإنجليزية.
المسلسل مبني على مُذكرات ديبوار فيلدمان الأعلى مبيعاً: "رفضي السافر لجذوري اليهودية الحاسيدية"، والتي صدرت في عام 2012.
المسلسل كان شديد الدقة، فيما يتعلق بتجسيد القصة الحقيقية لديبورا، وذلك في الجزء الخاص بإستر نيويورك، أمّا إستر برلين، فكان أغلبه مُختلق من خيال فريق كتابة المسلسل.
قامت بدور إستر شابيرو، الممثلة الإسرائيلية الشابّة شيرا هاس، والتي لا يُمكن أن تُقدّم ممثلة أخرى، أداءاً أفضل منها في هذا الدور المُعقّد، والمليء بمختلف المشاعر.
استطاع صُنّاع المسلسل إبراز الشعائر الدينية والطقوس المجتمعية لمجتمع الساتمار بجدارة، وظهر ذلك في الكثير من المشاهد التي لا تُنسى في المسلسل، مثل مشهد الزفاف، ومشهد تعميد إستر قبل الزواج.
صدر فيلم وثائقي قصير عن مسلسل Unorthodox بعنوان Making Unorthodox مدته حوالي 20 دقيقة، يتحدث فيه صُنّاع المسلسل، عن الكثير من الأشياء التي تخصّ صناعة المسلسل، من الأزياء وأماكن التصوير واللغات المتحدث بها، وبعض التفاصيل المُشوّقة الأخرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.