هي بالفعل المرة الأولى التي تطلب فيها مصر تأجيل اجتماعاً مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، كما أنها المرة الأولى أيضاً التي تتحدث فيها الخرطوم بشكل مباشر عن الأضرار الجدية التي تخشاها من السد، فهل يعني ذلك أنَّ صبر القاهرة قد نفد أخيراً، وأن المرحلة القادمة ستشهد أسلوباً مختلفاً في التعامل مع الأزمة؟
التعبئة الأولى للسد لم تمنع القاهرة من مواصلة التفاوض
كان يوم 21 يوليو/تموز الماضي، وهو اليوم الذي شهد عقد قمة مصغرة بمشاركة الدول الثلاث ورئيس جنوب إفريقيا رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي، يوماً فاصلاً في مسلسل المفاوضات المستمر منذ نحو عقد من الزمان، حيث أعلن خلاله آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، انتهاء بلاده من المرحلة الأولى لملء السد، مبرراً ما حدث بأنه بفعل "الطبيعة".
وجاء رد الفعل المصري صادماً للرأي العام، حيث صدر بيان الرئاسة معلناً استمرار المفاوضات بغرض التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن تعبئة وتشغيل السد، رغم أن ما أقدمت عليه أديس أبابا يمثل تحدياً سافراً لفكرة المفاوضات في حد ذاتها، ورغم ذلك انطلقت الجولة الحالية من المفاوضات وأيضاً برعاية الاتحاد الإفريقي وبحضور مراقبين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
مصر والسودان تبدآن الجولة بتسجيل موقف
وفي الاجتماع الأول من الجولة الحالية، انتقدت مصر والسودان بدء الملء المنفرد للسد من جانب إثيوبيا، وسط تبادل الاتهامات نفسها من الجانبين بالتعنت والرغبة في فرض حلول غير واقعية، وإصرار إثيوبيا على أنها لا تستهدف الإضرار بمصالح مصر والسودان، وأن الهدف من بناء السد هو توليد الكهرباء بالأساس.
ومساء الثلاثاء 4 أغسطس/آب، أعلنت وزارة الري والمياه الإثيوبية أن مصر والسودان طلبتا تأجيل اجتماعات سد النهضة؛ للنظر في قواعد ملء السد التي قدمتها أديس أبابا، وذلك في بيان نشرته الوزارة على موقعها بـ"فيسبوك".
وقال البيان إن إثيوبيا أرسلت نسختها من المبادئ التوجيهية والقواعد الخاصة بملء سد النهضة، تماشياً مع بيان مكتب الاتحاد الإفريقي الصادر في 24 يوليو/تموز الماضي والتفاهم الذي توصل إليه وزراء شؤون المياه خلال اجتماعهم في 3 أغسطس/آب الجاري، للعمل على وثيقة مشتركة.
ماذا قالت القاهرة؟
أعلنت مصر والسودان، الثلاثاء، تعليقاً مشروطاً لمفاوضات سد النهضة، إثر طرح إثيوبي بشأن تشغيل السد قال البلدان إنه يخالف الاتفاقات السابقة، وأوضح البيان أنه "قبيل الاجتماع الثالث (كان مقرراً له الخميس 6 أغسطس/آب) للجولة الثانية للدول الثلاث برعاية الاتحاد الإفريقي، قام وزير المياه الإثيوبي بتوجيه خطاب إلى مصر والسودان".
الخطاب الإثيوبي "تضمَّن مسودة خطوط إرشادية وقواعد ملء سد النهضة لا تتضمن أي قواعد للتشغيل ولا أي عناصر تعكس الإلزامية القانونية للاتفاق، فضلاً عن عدم وجود آلية قانونية لفض النزاعات"، بحسب البيان المصري، الذي أضاف: "طلبت مصر والسودان تعليق الاجتماعات؛ لإجراء مشاورات داخلية بشأن الطرح الإثيوبي الذي يخالف ما تم الاتفاق عليه خلال قمة هيئة مكتب الاتحاد الإفريقي في 21 يوليو/تموز الماضي، ونتائج اجتماع وزراء المياه أمس".
لغة سودانية جديدة أيضاً
في السياق ذاته، أوضح وزير الري السوداني ياسر عباس، في بيان، أن الخطاب الإثيوبي الذي تلقته بلاده "يثير مخاوف جدية فيما يتعلق بمسيرة المفاوضات الحالية (..) ويهدد استمراريتها".
ورهن عباس "استمرار مشاركة السودان في المفاوضات التي يقودها الاتحاد الإفريقي، بعدم الربط بين التوصل لاتفاق بشأن الملء والتشغيل من جهة، والتوصل لمعاهدة حول مياه النيل الأزرق من جهة أخرى".
ويقترح الخطاب الإثيوبي، وفق عباس، أن "يكون الاتفاق على الملء الأول فقط لسد النهضة، بينما يربط اتفاق تشغيل السد على المدى البعيد بالتوصل لمعاهدة شاملة بشأن مياه النيل الأزرق".
ووصف البيان السوداني موقف أديس أبابا الأخير بأنه "تطوّر كبير وتغيير في الموقف الإثيوبي يهدّد استمرارية مسيرة المفاوضات التي يقودها الاتحاد الإفريقي"، مؤكداً أن عباس أبلغ ذلك وزيرَ العلاقات الخارجية والتعاون الدولي في دولة جنوب إفريقيا التي تترأس اجتماعات المفاوضات بين الدول الثلاث.
ووصف البيان مخاطر السد الإثيوبي على السودان وشعبه بأنها "جدية"، "وضمن ذلك المخاطر البيئية والاجتماعية" بالنسبة إلى "ملايين من السكان المقيمين على ضفاف النيل الأزرق"، ونقل البيان عن عباس قوله إن "السودان لن يقبل برهن حياة 20 مليون من مواطنيه يعيشون على ضفاف النيل الأزرق، بالتوصل إلى معاهدة بشأن مياه النيل الأزرق".
ماذا يعني ذلك؟
الموقف الإثيوبي لا يحمل جديداً، فقد أصبح واضحاً منذ جولات المفاوضات برعاية واشنطن في أواخر العام الماضي وحتى فبراير/شباط من العام الجاري، أن أديس أبابا تستغل المفاوضات بغرض كسب الوقت والانتهاء من تشييد السد وتعبئته وتشغيله ليصبح أمراً واقعاً، وهو ما كاد يتم بشكل نهائي، حيث انتهت المرحلة الأولى من الملء بالفعل، وبحلول موسم الأمطار العام المقبل (بداية من يوليو/تموز 2021)، سيبدأ السد في توليد الكهرباء بالفعل.
لكن اللافت هنا هو الخطوة التي أقدمت عليها مصر والسودان وهي تعليق المفاوضات، فذلك- إضافة إلى كونه المرة الأولى التي تقْدم فيها القاهرة والخرطوم على تأجيل التفاوض- يطرح تساؤلات حول ما تعنيه الخطوة من ناحية، وحول ما قد تقوم به دولتا المصب من ناحية أخرى.
يرى كثير من المراقبين أنَّ طلب مصر والسودان تأجيل المفاوضات بمثابة رسالة قوية اللهجة، مفادها أن الصبر قد أوشك على النفاد، وأن سياسة النفَس الطويل ربما تكون قد وصلت إلى منتهاها، ومن ناحية أخرى ربما تكون الخطوة المصرية القادمة هي العودة لمجلس الأمن مرة أخرى وتدويل القضية، وربما يكون الخيار العسكري- أي محاولة تدمير السد- مطروحاً أيضاً ولو من قبيل الملاذ الأخير.
وفي كل الأحوال، أصبحت الكُرة الآن مرة أخرى بملعب القاهرة، في ظل حالة الإصرار الإثيوبي على عدم توقيع اتفاق ملزم من الناحية القانونية، والآن اتخذت أديس أبابا خطوة أخرى أكثر خطورة وهي الدعوة إلى التفاوض حول "المشاريع المستقبلية بشأن مياه النيل الأزرق"، كأن سد النهضة قد انتهى أمره وأصبح أمراً واقعاً.