الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في لبنان أجبرت بعضاً من اللبنانيين على مقايضة بعض مقتنياتهم مقابل توفير الحليب لأطفالهم أو الغذاء، لكن يبدو أن الأزمات لم تصل لنهايتها بعد، فمع اقتراب العام الدراسي الجديد، يجد كثير من الأهالي أنفسهم مجبرين على حجز أماكن في المدارس الحكومية، والسؤال: هل يجدون مكاناً لأبنائهم؟
فقطاع التعليم في لبنان يواجه أزمات خانقة، حيث لم تمر على المدارس الحكومية والخاصة مثل الضغوط الراهنة، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية وتداعيات جائحة كورونا، ما دفع وزير التربية والتعليم العالي طارق المجذوب، إلى طلب المساعدة من الخارج.
ووجّه المجذوب، الأسبوع الماضي، "نداء ملحاً من أجل دعم دولي، كي لا تضيع السنة الدراسية، لا سيما أن العام الدراسي على الأبواب والمتطلبات كثيرة والقدرات شبه معدومة".
التعليم الخاص والحكومي
على مدى عقود طويلة، شكّل التعليم الخاص في لبنان عنصراً أساسياً، خاصة لناحية تميزه ومعاصرته، حتى أنه كان مقصداً من الدول العربية المجاورة، لكن الآن تقف العائلات اللبنانية حائرة بين خيارين: إما تسجيل أبنائهم للعام الدراسي المقبل في المدارس الخاصة، أو تأمين المستلزمات الحياتية الأساسية، والأخير هو الخيار الأقرب.
يقول رئيس مصلحة التعليم الخاص بوزارة التربية عماد الأشقر، للأناضول، إن "صرخة الوزير تحذيرية"، مضيفاً أن "كادر الإدارة المختصة في المدارس الرسمية (الحكومية) يعمل على موضوع القدرة الاستيعابية للطلاب، الذين سينتقلون (من التعليم الخاص) إلى التعليم الرسمي (شبه مجاني بنفقات رمزية)".
وحول القدرة الاستيعابية للمدارس الحكومية، يرد الأشقر بأن "الموضوع جغرافي بامتياز، هناك مناطق قدرتها الاستيعابية كاملة، وأخرى وسط، ومناطق غير قادرة على الاستقبال"، ويتابع: "من الطبيعي أن نكون أمام مشكلة في القدرة الاستيعابية، لذلك أطلقت الوزارة الصرخة التحذيرية للأطراف كافة، فالوزارة أمام تحدٍّ كبير. لسنا أمام سنة دراسية طبيعية، إن كان لناحية مواجهة جائحة كورونا وتداعياتها ولناحية الأوضاع الاقتصادية التي تسوء يوماً بعد يوم".
توفير الكتب الدراسية
ويعاني لبنان أسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، ما فجّر منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، احتجاجات شعبية غير مسبوقة ترفع مطالب سياسية واقتصادية.
وعن الكتب المدرسية وكيفية الحصول عليها كونها ترد من الخارج، يقول الأشقر إن "وزارة التربية لا تتدخل في هذا الشأن، إنما وزارة الاقتصاد.. التربية تتدخل فقط في الكتب الوطنية (الخاصة بالمدارس الحكومية)"، ويستطرد: "الأزمة ليست متعلقة بوزارة، وإنما بأزمة ووضع اقتصادي، وسط ارتفاع جنوني بالأسعار".
وفيما يتعلق بدعم المدارس الخاصة، يجيب بـ"تحوّل مشروع قانون من الحكومة إلى المجلس النيابي، وهو لدعم القطاع الخاص كي لا ينهار بمبلغ 350 مليار ليرة (أكثر من 232 مليون دولار)، و250 مليار ليرة (نحو 166 مليون دولار) للقطاع الرسمي، علماً بأن الآلية لم يتم وضعها إلى الآن".
وتتكبد المدارس الخاصة خسائر مالية ضخمة، خصوصاً أن معظم أهالي الطلاب لم يدفعوا المستحقات المترتبة عليهم، ويقول الأشقر: "أبواب المدارس الرسمية مفتوحة لجميع للطلاب، حتى لو لم يحصلوا على إفادات مدرسية (تصريح نجاح)، فلا تلميذ من دون مقعد دراسي، في حال كان هناك عام دراسي".
ويضيف: "المدارس الخاصة التي لم تحصل على مستحقاتها المالية من الأهل، لها مرجعية قانونية، والتلميذ لا علاقة له بالعقد المربوط بين أهله والمدرسة".
وعن تداعيات الأوضاع على المدارس الخاصة، يجيب: "نحن كوزارة تربية لسنا مكتب تحصيل للمدارس الخاصة، والوزير جمع العائلات التربوية، في مايو (أيار الماضي) لتوزيع الخسائر على الجميع"، ويقدر الأشقر أن ينتقل ما بين 100 و150 ألف طالب من مدارس خاصة إلى حكومية، وفق مديرين ومراقبين.
خوف على المستقبل التعليمي
وكأن اللبناني لا تكفيه الأزمات المعيشية التي أثقلت كاهله، لتأتي أزمة التعليم مهددة مستقبل أولاده، ويقول محمد برجاوي (54 عاماً)، محاسب، للأناضول، إنه اضطر إلى اتخاذ قرار بنقل أولاده الأربعة إلى التعليم الحكومي.
"مع إقفال المؤسسة التي خدمت بها، لم يعد لديّ أي مصدر رزق، لذا ليس هناك أي حل أمامي غير نقل أولادي إلى الرسمي، فأنا عاجز عن دفع ثمن دفتر أو مقلمة جديدة"، مضيفاً: "آمل ألا يفرق مستوى التعليم، لكن ليس باليد حيلة.. لا أنكر خوفي على مستقبل أولادي، في حال لم أستطع حجز مقاعد لهم بسبب التهافت على المدارس المجانية في بيروت".
ويستبعد كثيرون احتمال تحسّن الأوضاع قريباً في لبنان، خاصة أنها باتت أكثر سوءاً منذ أن أجبر المحتجون حكومة سعد الحريري على الاستقالة، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وحلت محلها حكومة حسان دياب، في 11 فبراير/شباط الماضي.
ويطالب المحتجون برحيل الطبقة السياسية، التي يحمّلونها مسؤولية "الفساد المستشري" في مؤسسات الدولة، والذي يرونه السبب الأساسي للانهيار المالي والاقتصادي في البلاد.
المدارس الخاصة "تدبر حالها"
بدوره، يقول محمد شمس الدين، باحث في الشركة الدولية للمعلومات (أهلية)، للأناضول: "هناك حديث عن أن ما بين 100 ألف و120 ألف تلميذ سينتقلون من الخاص إلى الرسمي، لكن خلال سبتمبر (أيلول المقبل) يكون الرقم النهائي أوضح".
وقررت شركات عالمية عديدة، في الآونة الأخيرة، إغلاق مقراتها في لبنان إثر ضائقة مالية تواجهها، متأثرة بالأوضاع الاقتصادية المتردية في البلد العربي، والتي فاقمتها إجراءات التصدي لكورونا.
وتحملت المدارس الخاصة تداعيات الوضع المالي وكورونا، في ظل غياب مبادرات حكومية لمساعدتها من أجل إنقاذ هذا القطاع.
وتقول المديرة الأكاديمية في مدرسة "سمارت هاي سكول" ريما شرف الدين، للأناضول، إن "70% من الطلاب لم يسددوا الأقساط المترتبة عليهم للعام الدراسي 2019 – 2020".
وتتابع أن "المدارس الخاصة تتحمل وحدها انعكاسات الأوضاع المالية، خصوصاً أن لديها واجبات (التزامات) مع الأساتذة والإداريين".
وعن الخطوات المتخذة للصمود أمام الأزمات العاصفة، تردّ: "اقتطعنا من رواتب الموظفين، لا سيما أن الأهل لم يتجاوبوا مع مطالباتنا بتسديد الأقساط، رغم التسهيلات التي قدمناها والحسومات، كما خففنا بعض النفقات".
وتعتبر شرف الدين أن وصول القطاع التربوي الخاص إلى هذه الحال نتيجة "غياب السياسات، ناهيك عن تداعيات كورونا".
وبشأن الإقبال على التسجيل للعام المقبل، توضح أن "التسجيل حتى الآن صفر بالمئة، ونحن بالفعل أمام خطر، ونستنجد بوزارة التربية"، وترى أن "المدارس الرسمية غير مهيأة لاستيعاب النزوح من التعليم الخاص، على مستويات القدرة الاستيعابية وغياب التجهيزات للتلاميذ ذوي الصعوبات التعلمية أو أصحاب الإرادات الصلبة، أو للكادر التعليمي".
وتقول مديرة إحدى المدارس الكاثوليكية في العاصمة بيروت، للأناضول، طالبة عدم نشر اسمها، إن "الكادر التعليمي وضع سيناريوهات عدة للعام الدراسي الذي يبدأ في سبتمبر المقبل"، وتوضح: "وضعنا خطة حول إمكانية أن يكون التعليم عن بعد بشكل كلي، وسيناريو التعليم الهجين، أي 50% حضور و50% عن بعد"، وحول تجاوب وزارة التربية، تجيب: "المدارس الخاصة متروكة، وهي تدبّر حالها بحالها".