مَن كان يتصور قبل أيام قليلة فقط أن تعلن إثيوبيا أنها انتهت من الملء الأول لسد النهضة وأن يوجِّه رئيس وزرائها آبي أحمد تهنئة رسمية للشعب بتلك المناسبة مصحوبةً بمقاطع فيديو تعرض كيف تم ذلك، ويقابل ذلك صمت مصري رسمي، وكأن ما حدث شيء عادي أو متوقع؟ وزير خارجية إثيوبيا يغرد قائلاً: "كان اسمه نهر النيل والآن أصبح بحيرة إثيوبية"، وأيضاً لا يوجد رد مصري ولو ببيان عن الخارجية، ماذا حدث إذن في "مسألة حياة أو موت" كما وصفها الرئيس المصري؟
احتفالات إثيوبية بالانتصار المدوي
الواقع الآن هو أن إثيوبيا استطاعت، منذ أن وصل آبي أحمد لرئاسة الحكومة في مارس/آذار 2018، أن تربح أول جولة في معركة سد النهضة بالضربة القاضية والنقاط معاً من خلال تنفيذ التعبئة الأولى لخزان السد، حتى وإن أرجعتها لـ"الطبيعة" وليس لقرار سياسي منها، وهذه النقطة تحديداً تحتاج للتوقف عندها للتفسير.
الإعلان عن تنفيذ المرحلة الأولى من ملء السد عقب اجتماع القمة الإفريقية المصغرة الثلاثاء 21 يوليو/تموز، جاء تدريجياً وتصاعدياً من ناحية، وجاءت صياغاته تحمل تفسيرات تصلح للداخل الإثيوبي وأيضاً للخارج؛ فبعد نفي رسمي ومراوغات لعدة أيام، أعلن مكتب آبي أحمد في بيان، الثلاثاء، أنه "أصبح من الواضح على مدى الأسبوعين الماضيين، في موسم الأمطار، أن عملية ملء سد النهضة في السنة الأولى قد تحققت".
والأربعاء 22 يوليو/تموز، جاء دور الخطاب التعبوي الموجه للداخل، فقال آبي أحمد فيما يمكن وصفه بالاحتفالات الصاخبة: "أهنئ كل الشعب الإثيوبي على الإنجاز، فهذا السد كان يجب أن يتحقق قبل 200 عام على الأقل، فهو الرمز والأيقونة لهذا الجيل والضوء الساطع للإثيوبيين على مدى سنوات، ونقطة تحول للإثيوبيين للتألق مرة أخرى، والقضاء على الفقر والتخلف"، وأضاف: "إذا تجاهلنا الخلافات، وأغلقنا الأبواب على أولئك الذين يريدون تفكيكنا، فسنحقق إنجازات مختلفة".
الأفراح الإثيوبية كانت قد بدأت بتغريدة وزير الخارجية جيدو أندرغانشو صباح الأربعاء 22 يوليو/تموز عبر حسابه الرسمي على تويتر قائلاً: "تهانينا! كان اسمه نهر النيل وأصبح النهر بحيرة. لن يتدفق الماء عبر النهر مرة أخرى. ففي البحيرة، استسلمت إثيوبيا لجميع مطالب التنمية. الحقيقة هي أن النهر ملك لنا!".
صمت مصري مثير للتساؤلات
ليس خافياً على أحد أن مسألة السد بالنسبة لآبي أحمد ومن سبقوه في رئاسة الحكومة الإثيوبية تمثل القضية الوطنية التي يأملون من ورائها ليس فقط بتحقيق تنمية تحتاجها البلاد، لكن بالأساس هدفها سياسي هو القفز على تشققات داخلية في دولة تقطنها عشرات القوميات التي يسعى بعضها للانفصال، لكن المسألة بالنسبة لمصر كما جاء على لسان رئيسها عبدالفتاح السيسي "مسألة حياة أو موت"، وبالتالي أن يسود هذا الصمت الرسمي المصري في ظل هذا التطور الخطير أمر يحتاج لتفسير.
ما يمثله سد النهضة من خطورة على وجود مصر كدولة ليس خافياً على أحد، والطريقة التي أدارت بها إثيوبيا هذا الملف منذ وضع حجر الأساس للسد العملاق في أبريل/نيسان 2011 تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن النوايا الإثيوبية لا تحمل أي قدر من أخذ الحقوق التاريخية لدولتي المصب في الاعتبار، وقد ثبت ذلك من خلال أسلوب إدارة عملية التفاوض على مدار ما يقرب من عشر سنوات، وصولاً إلى فرض الأمر الواقع.
وفي ظل الصمت الرسمي، نجد أن الدكتور محمد نصر علام، وزير الري المصري الأسبق، قال في تصريحات متلفزة نقلتها وسائل إعلام محلية، الأربعاء، إن تبرير آبي أحمد بدء ملء الخزان بزيادة نسبة الأمطار هو "خاطئ وغير مبرر، لأن أديس أبابا كان بإمكانها فتح بوابات الخزن لمرور المياه الزائدة التي ملأت المرحلة الأولى".
وبالتالي فإن إعلان إثيوبيا "مخالف للقوانين الدولية التي تنظم عمل الأنهار العابرة للدول"، وهو ما أكده علام، فلماذا صدر البيان الرئاسي المصري بالاستمرار في مسار المفاوضات برعاية الاتحاد الإفريقي وخلا حتى من الإشارة لعدم قانونية الإجراء الإثيوبي الأحادي؟ البعض يرى أن الاحتفالات الإثيوبية التي انطلقت في اليوم التالي للقمة ووصلت إلى درجة خطيرة من الاستفزاز باعتبار "نهر النيل بحيرة إثيوبية" – بحسب وزير الخارجية شخصياً – يرجع في أحد أسبابه للتهاون المصري الرسمي الذي كانت بدايته توقيع السيسي إعلان المبادئ في مارس/آذار 2015.
كيف حققت إثيوبيا ذلك الانتصار؟
الرصد والقراءة الأولية للمشهد منذ وضع الحجر الأول في السد وصولاً لانتهاء التعبئة الأولى يشير إلى وجود استراتيجية إثيوبية قامت على مناورات ومحاور متعددة، لكنها لم تتبلور كخطة عمل مُتقنة إلا بوصول آبي أحمد للسلطة.
الاستراتيجية شملت جوانب تعبوية تتعلق بزيادة طموحات الداخل الإثيوبي وحشده لتأييد المشروع كرمز وطني لتحويل البلاد إلى قوة إقليمية، وجوانب خارجية تتعلق بإطالة أمد المفاوضات مع مصر والسودان لكسب وقتٍ لبناء وملء السد، وجوانب تشمل تصدير الإرباك للخارج بتلويح عسكري، وصدمات عبر التراجع عن أي مسار تفاوض يصل لنقطة التوقيع على اتفاق – مهما قدمت مصر من تنازلات – كما حدث في مفاوضات واشنطن.
فعلى المستوى الداخلي، يواجه آبي أحمد احتجاجات ضخمة من قومية الأورومو التي ينتمي إليها وسقط عشرات القتلى خلال الاحتجاجات في العاصمة أديس أبابا وإقليم أورومو المحيط بها إثر اغتيال المغني الشعبي هاشالو هونديسا على أيدي "مجهولين"، وكان تعامله مع الموقف المتأجج على محورين، الأول هو أن تلك الاضطرابات تقف وراءها جهات خارجية – إشارة ضمنية لمصر – والثاني هو هذه الاضطرابات لن تعطل خططه لبدء ملء السد.
وفي 8 يونيو/حزيران الماضي، وسط انتقادات محلية متصاعدة، ركز آبي أحمد على أهمية ملء السد والرخاء المنتظر، بينما كان يرفض مطلب معارضيه تشكيل حكومة انتقالية، بمجرد انتهاء ولايته في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، في ظل قرار اتُخذ في مارس/آذار الماضي بتأجيل انتخابات، كانت مقررة في أغسطس/آب المقبل، لأجل غير مسمى؛ بسبب "كورونا".
المفاوضات من أجل المفاوضات
إطالة أمد المفاوضات لم تكن استراتيجة آبي أحمد وحده، فهو نهج إثيوبي متواصل، منذ وضع أول حجر في السد، في 2 أبريل/نيسان 2011، ففي 13 مايو/أيار 2011، زار رئيس وزراء مصر آنذاك، عصام شرف، نظيره حينها ميليس زيناوي، واتفقا على تشكيل لجنة ثلاثية لبحث دراسات متعلقة بالسد.
ومرت أكثر من 9 سنوات في حلقة مفرغة من المفاوضات دون اتفاق شامل، وشهد 2012 اجتماعات فنية دون اتفاق، تلاها بعام توقف المفاوضات، قبل أن تتفق القاهرة وأديس أبابا على استئنافها، صيف 2014، وإجراء مباحثات فنية لم تسفر عن شيء.
وفي 2015، توصلت الدول الثلاث إلى اتفاق إعلان مبادئ، وشهد 2016 اجتماعات فنية حول السد، وظهر في العام التالي رفض إثيوبي لمشاركة البنك الدولي في المفاوضات، ولم تسفر لقاءات 2018 عن حل للخلاف بشأن الملء والتشغيل.
وقبلت الدول الثلاث، أواخر 2019، برعاية الولايات المتحدة للمفاوضات، وانتهت الرعاية الأمريكية، في فبراير/شباط الماضي، بتوقيع مصري أوّلي لاتفاق بشأن السد، وامتناع إثيوبي بدعوى ضرورة إجراء مشاورات مع الداخل، وكذلك تحفظ سوداني. ولم تفلح دعوة سودانية، في مايو/أيار الماضي، في حلحلة الخلافات المصرية-الإثيوبية.
وانتهت اجتماعات بين 3 و13 يوليو/تموز الجاري، برعاية الاتحاد الإفريقي، بقمة مصغرة الثلاثاء، أعلنت الدول الثلاث بعدها العودة إلى المفاوضات، إضافة إلى إعلان إثيوبي عن بدء ملء السد، رغم رفض مصري-سوداني.
ومنذ مجئ آبي أحمد للسلطة، كان خطاب الخارجية المصرية أكثر وضوحاً في اتهامه للجانب الإثيوبي بـ"مماطلة وإطالة" أمد المفاوضات لكسب الوقت، وعادة ما كانت إثيوبيا تنفي، وتتحدث عن حقها في التنمية، دون إضرار بأحد ولا استحواذ آخرين على حقوقها.
إرباك القاهرة والخرطوم
مناورة إثيوبيا لإرباك خطط مصر والسودان بدأت بالتلويح بإمكانية خوض حرب للحفاظ على السد، ففي 22 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قال آبي أحمد: إذا كانت هناك حاجة لخوض حرب بشأن سد النهضة، فإثيوبيا مستعدة لحشد الملايين، بحسب وسائل إعلام، وأعلنت القاهرة رفضها لهذا التصريح، إن صحَّ، مع تصعيد إعلامي مصري ضد آبي أحمد، وبعد يومين، عُقد لقاء بين السيسي وآبي أحمد، في منتجع سوتشي الروسي.
وقال آبي أحمد حينها إن تصريحه (بشأن خوض حرب) تم اجتزاؤه من سياقه، وشدد على تمسك بلاده بالمفاوضات للتوصل إلى اتفاق نهائي، وفي مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين، أعلن الجيش السوداني إحباط هجومين، أحدهما لـ"ميليشيا إثيوبية"، مسنودة من الجيش الإثيوبي.
ويرى مراقبون ارتباطاً لتكرار هذه "التحرشات الحدودية" بالملف المتعثر للسد، بينما يذهب آخرون إلى أن فترات الإعداد للموسم الزراعي والحصاد في المناطق الحدودية السودانية مع إثيوبيا، عادة ما تشهد اعتداءات من عصابات مسلحة، خارجة عن سيطرة أديس أبابا، للاستيلاء على موارد.
التراجع في اللحظة الأخيرة
وقبل انتهاء إثيوبيا من التعبئة الأولى للسد، وجدت نفسها في موقف حرج حين وصل مسار التفاوض في واشنطن لما يمكن تسميته "كِش توقيع"، حين وضعت واشنطن والبنك الدولي مسودة اتفاق على الطاولة بعد تعدد الاجتماعات وجولات التفاوض، في ظل أن مراقبين ذهبوا إلى أن تدخل دولة كبرى، كالولايات المتحدة، لرعاية المفاوضات، سينجز الأمر.
وهنا جاءت مناورة الصدمة من الجانب الإثيوبي، حين رفضت سفر الوفد إلى واشنطن في الجولة الأخيرة من أجل التوقيع، وكان ذلك في فبراير/شباط الماضي، رغم أن الجدول الزمني الأصلي كان قد حدد منتصف يناير/كانون الثاني للتوصل لاتفاق.
تلك الصدمة "الإثيوبية"، التي صنعها داخل متوتر، لم تكن بعيدة عن خطة أديس أبابا لملء السد، فمع عودة المفاوضات، برعاية إفريقية، رفضت إثيوبيا مجدداً طلب مصر إدراج نتائج مسار واشنطن ضمن مسار المحادثات، ولم يكن إعلان التلفزيون الإثيوبي بدء الملء إلا مناورة ثانية باستراتيجية الصدمة، والتي احتوتها أديس أبابا بنفي رسمي، قبل أن تعود الثلاثاء وتقر بالملء، لكن وفق سيناريو خارج عن إرادتها، وهي الطبيعة.
استغلال التعاطف الإفريقي لصالحها
لجأت حكومة آبي أحمد إلى استراتيجية الهروب إلى الأمام بعد أن أصبح أنه لا مفر من وجود طرف محايد في المفاوضات، فاختارت الراعي الذي يتيح لها استكمال سيناريو البناء والملء، للوقوف في وجه أي تحرك مصري محتمل، ففي 12 يناير/كانون الثاني الماضي – أثناء مسار التفاوض برعاية أمريكية – طلب آبي أحمد من رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، الوساطة لأن بلاده ستتسلم رئاسة الاتحاد الإفريقي هذا العام خلفاً لمصر.
وكان واضحاً أن هذا الطلب، أثناء مفاوضات مسار واشنطن، هو محاولة للقفز إلى الأمام للحيلولة دون اتهام أديس أبابا مستقبلاً بأنها لا تريد مفاوضات أو حلول، وبالتالي تكسب الوقت لإنهاء الملء المأمول.
وفي الأشهر الأخيرة، لاسيما يونيو/حزيران الماضي، صعدت إثيوبيا، خاصة عبر خارجيتها، لهجة غير دبلوماسية تبدو قريبة من لغة "الحروب الباردة"، وقال وزير الخارجية إن بلاده ماضية في ملء السد، في يوليو/تموز، حتى من دون اتفاق، واعتبر أن ذهاب مصر بملف السد إلى مجلس الأمن "لا تأثير له"، في ظل حق أديس أبابا بالتنمية، وأضاف أندارغاشو: "المصريون يلعبون مقامرة سياسية، يبدو بعضهم كما لو أنهم يتوقون إلى اندلاع حرب".
وهي تصريحات اعتبرها نظيره المصري، سامح شكري، "استفزازية" و"تبدو متتالية وبنبرة غير مناسبة"، ولا يمكن أن يكون تحوّل القصف الإثيوبي من إعلامي إلى دبلوماسي محض صدفة، فهذا لا يحدث إلا بضوء أخضر من حكومة آبي أحمد، التي تحتاج لمزيد من التجييش الشعبي.
الصمت لامتصاص الصدمة واستعداداً للقاضية
يرى البعض أن الصمت المصري الرسمي في مواجهة الأفراح الإثيوبية بالانتصار يأتي كرد فعل طبيعي مع الاضطرار لامتصاص "ضربة" الملء الأول، على أمل أن تستمر استراتيجية "النفس الطويل" في "توريط" إثيوبيا في مخالفات دولية تعزز جانب القاهرة إفريقياً ودولياً، في حال اتخذت موقفاً متشدداً، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق شامل.
وواضح من الإعلان الرئاسي المصري، الثلاثاء، أن القاهرة حالياً تريد أولاً حصر إثيوبيا في خانة "بلورة اتفاق قانوني ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة"، مع تحرك أديس أبابا لملء السد، وتأمل القاهرة على ما يبدو أن يلي ذلك "بلورة اتفاق شامل لكافة أوجه التعاون المشترك بين الدول الثلاث فيما يخص استخدام مياه النيل"، وفق البيان الرئاسي.
وبذلك تريد مصر أن تنهي آخر بنود الرفض الإثيوبي المتكرر خلال المفاوضات، فالقاهرة كانت تتحدث عن اتفاق قانوني شامل بينما ترفض أديس أبابا، لكن مع تحرك إثيوبيا لملء السد، تريد مصر أن تدفعها مجدداً إلى اتفاق ملزم أولاً، يقلل أي خسائر متوقعة للقاهرة وحصتها المائية (55.5 مليار متر مكعب سنوياً)، حتى لا يضيع الوقت.
ومن ثَم تبحث القاهرة الشق الآخر، وهو حقوق استخدام نهر النيل، عبر استراتيجية جديدة، فلا يزال أمامها وقت لمحادثات موسعة محلية ودولية وإفريقية.