في الوقت الذي تبدو فيه التطورات السياسية في تونس مشتعلة، ويبرز عنوانها العريض في محاولة إزاحة الإسلاميين من مربع الحكم، يرتفع العنوان ذاته في المغرب، لكن هذه المرة بطريقة ناعمة تحمل شعار الرتابة والملل من حكومة الإسلاميين التي قاربت على العقد من الزمن، وأن الحاجة باتت تفرض تناوباً سياسياً يرفع إلى قيادة الحكومة حزباً آخر غير حزب العدالة والتنمية.
والحقيقة أن الأوضاع في تونس مختلفة تماماً عن المغرب، وإن كان يجمعهما عنوان واحد هو رغبة بعض الجهات في الداخل والخارج بإزاحة الإسلاميين من مربع السلطة، ففي تونس ثمة ديناميات سياسية لم يعد بالإمكان التفاعل معها من غير المدخل الدستوري، فحركة النهضة التي طالبت بسحب الثقة من رئيس الحكومة، اضطر رئيس الحكومة إلى تقديم استقالته، وأصبحت الحكومة مستقيلة تبعاً لذلك، ولم يعد هناك من حل سياسي سوى باستنطاق المقتضيات الدستورية، التي تفرض التشاور بين الرئيس والكتل البرلمانية لتعيين وتسمية رئيس للحكومة في آجال زمنية محددة، والمصادقة عليه برلمانياً، وإلا فليس هناك حل إلا العودة من جديد لانتخابات تشريعية مبكرة.
المشكلة التي ستطرح اليوم أمام الإسلاميين في تونس، أمام تصاعد موجة العداء الداخلي والخارجي ضدهم، هو البحث عن حلفاء جدد لتشكيل الحكومة، فعلى الرغم من أنهم يشكلون الكتلة البرلمانية الأولى (54 مقعداً) فإن تحالفاتهم ستبقى رهينة بأحزاب أخرى غير أحزاب التحالف التي شكلت الحكومة المستقيلة، وسيكون عليهم أن يمدوا يدهم إلى كتلة (قلب تونس) وكتل أخرى لاستكمال العدة التي تمكنهم من تشكيل تحالف واقع الأمر الذي سيفاوضون به ومنه ستنبثق الحكومة بالضرورة. وفي المقابل، فإن خصومهم، سيكون عليهم أن يمنعوا قيام أي تحالف يضمن بقاء الإسلاميين في مربع الحكم.
هكذا يبدو ملخص الوقائع السياسية في تونس أو هكذا يبدو جوهرها، أما التفاصيل الصغيرة المرتبطة بالتكتيكات السياسية التي يقدم عليها هذا الحزب أو ذاك، أو ما يتعلق بموقع الرئيس نفسه، فهذا كله، يبقى تبعاً لقضية التحالفات وقدرة الإسلاميين على نسجها من جديد.
في المغرب يبدو الأمر مختلفاً، لكنه في الجوهر لا يخرج عن الإطار نفسه، ففي انتخابات 2016 فاز الإسلاميون بالمرتبة الأولى، وتم تعيين الأستاذ عبدالإله بن كيران رئيساً للحكومة، ورهنت البلاد قرابة ستة أشهر بدون حكومة، لأن عقدة المنشار كانت في ممانعة أحزاب قريبة من الإدارة والسلطة، ورفضها الدخول لحكومة بن كيران إلا باشتراطات مضمونها أن يصير بن كيران مؤتمِراً بأوامر هذه الأحزاب، وأن يكون رئيس حكومة بمجرد الاسم بدون صلاحيات تذكر، وكانت النتيجة أن تم إعفاء رئيس الحكومة بن كيران، وتم تعويضه بسعد الدين العثماني، حيث فضل فيها الملك بقاء رئاسة الحكومة في يد العدالة والتنمية تأميناً لجوهر النص الدستوري مع حديثه عن وجود خيارات دستورية أخرى.
اليوم، ترى أطروحة التناوب السياسي في المغرب (اللغة الناعمة التي يعبر بها عن إزاحة الإسلاميين من مربع الحكم) أن الانتخابات إن أفرزت مرة ثالثة تصدر الإسلاميين، فليس ثمة حل آخر سوى تحالف عريض من الأحزاب السياسية لرفض التعاون مع الإسلاميين والتحالف معهم لتشكيل الحكومة، وبالتالي منعهم من الحصول على النصاب القانوني لتشكيل الحكومة، أي الصيرورة لنفس الحالة التي يتم الحديث عنها من قبل خصوم النهضة في تونس.
والمثير للمفارقة أن عدداً من التحليلات السياسية في كل من تونس والمغرب بدأت تؤكد أن الحصول على الرتبة الأولى في الانتخابات لا يعني بالضرورة قيادة الحكومة، ولا التواجد بقوة ضمن تشكيلتها، والبعض بدأ يفرق بين الصندوق وبين المزاج القلبي للجمهور، وأنه في حالة وجود رفض عام، فلا يمكن للإسلاميين قيادة الحكومة ولا التموقع فيها حتى ولو حصلوا على الرتبة الأولى في الاستحقاق الانتخابي، أي أننا بإزاء لغة جديدة موجهة تعتمد السيكولوجيا بدلاً عن القواعد الديمقراطية، وتعتمد مفاهيم الملل والرتابة أو مفاهيم الحب والكراهية القلبية بدلاً من الحديث عن الصندوق الانتخابي، وما يعبر عنه من وجوب أن يحكم من يتصدر العملية الانتخابية بالمقتضى الديمقراطي هذا قبل التنصيص الدستوري الذي يزيد من تأكيد القضية وجوهرها الديمقراطي.
في المغرب، وخوفاً من أن يتم وصم بعض القوى الديمقراطية التي تنخرط في تكتيكات لا ديمقراطية، يقترح بعضها تعديل الدستور، وأنه ليس ضرورياً أن يكون رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات، فقد يتصدر الانتخابات ويكون عاجزاً عن تكوين تحالف سياسي، وإذ ذاك، فالخيار هو أن يتم تعيين الحزب الذي نجح في تشكيل أكبر تحالف، حتى وإن جاءت مرتبته في الاستحقاق الانتخابي الرابعة أو الخامسة، لكن هذا المقترح، لم تتم الاستجابة إليه لأنه يمس بالصورة الديمقراطية للبلاد، التي سينظر إلى تعديل دستورها، كما ولو كان موجهاً بالأساس ضد حزب معين يمتلك القاعدة الشعبية العريضة التي تمكنه من الفوز بالمرتبة الأولى.
في تونس والمغرب تعتمد الآلية نفسها، ليس ثمة وسيلة للإطاحة بالإسلاميين سوى تفكيك تحالفاتهم ومنعهم من الحصول على التحالف الذي يحصل النصاب القانوني لتشكيل الحكومة.
في تونس الأمر واضح وليس فيه أي تعقيد كبير، فإذا عجزت حركة النهضة عن تأمين تحالفها الذي يمكنها من فرض اسم رئيس الحكومة، ومن ثم تشكيل الحكومة، فإن وضعها في أحسن الأحوال سيكون ضمن تشكيلة حكومية بموقع ضعيف، وفي أسوأ الأحوال فإن وضعها سيكون ضمن المعارضة السياسية.
أما في المغرب فثمة تعقيد جوهري، ذلك أن الدستور ينص على أن رئيس الحكومة يعين من قبل الملك من بين الحزب الفائز في الانتخابات، أي أن إزاحة الإسلاميين بعد فوزهم المحتمل في الانتخابات القادمة لا يمكن أن تتم إلا بعد تعيين رئيس الحكومة منهم، وبعد تعذر تشكيلهم للتحالف الحكومي أو الأغلبية الحكومية، وأن الخيارات الدستورية المنصوص عليها هي العودة إلى الانتخابات مرة أخرى، وأن أي خيار آخر غير ذلك سيكون من باب التأويل الدستوري الذي لن يخلو من ملاحظات.
الرهان اليوم لإفشال الإسلاميين في تونس وإزاحتهم ليس في مصارعتهم، وإنما في البحث خارجهم، أي في الكتل البرلمانية التي يحتمل تحالفها مع الإسلاميين، فهذه الكتل هي محور الاشتغال للعمل لإزاحة الإسلاميين، وأي فشل في ذلك، وأي نجاح للإسلاميين في تأمين تحالفاتهم، فمعنى ذلك أنهم يستمرون في الحكومة من موقع رئاستها أو من موقع المشاركة الفعالة فيها.
أما في المغرب، فليس ثمة حاجة للاشتغال على منع الكتل البرلمانية لمنع تحالفها مع الإسلاميين، ما يلزم فقط أن يكون المناخ السياسي الداخلي يسمح بذلك، أي أن يكون غياب الإسلاميين ليس مؤثراً على السلم الاجتماعي، إذ في ظل تعاظم التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعد جائحة كورونا، سيكون من الصعب التفكير في إزاحة الإسلاميين، إلا إن كان البديل حزباً سياسياً متجذراً في المجتمع قادراً على أن يلعب دور الوساطة ويجنب الحكم الاحتكاك المباشر مع الجمهور المتذمر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.