أثارت التعديلات التي أجرتها الحكومة الانتقالية في السودان على بعض القوانين موجةً من الجدل بين السياسيين والخبراء القانونين، حيث اعتبرها كثيرون تتنافى مع الشريعة الإسلامية، وأنها بمثابة تدشين للدولة العلمانية في السودان.
وألغت التعديلات الجديدة حد الرِّدَّة عن الإسلام، وسمحت لغير المسلمين بشرب الخمور وتصنيعها وبيعها، دون أن يترتب على ذلك أية عقوبة، كما سمحت للمرأة بالسفر هي وأطفالها إلى خارج السودان دون موافقة الزوج، فضلاً عن أنها أعادت تعريف المادة الخاصة بالدعارة والعقوبة التي تترتب عليها.
دافع كثيرون عن هذه التعديلات، واعتبروها أنصفت غير المسلمين في السودان، وأنها ستقود إلى إدارة التنوّع الإثني والفكري والديني، وأنها ستحولُ دون انفصال جزء آخر من هذا البلد كما انفصل الجنوب، وأصبح دولة مستقلة.
ويزعم هذا الفريق أن النظام الإسلامي السابق سعى لفرض الشريعة الإسلامية على الشعب دون مراعاة للتنوع.
فيما انتفض فريق من الناس ونظموا مسيرات احتجاجية رافضين هذه التعديلات، واعتبروها تجاوزاً في حق الدين وانقلاباً على ثوابت الدولة المسلمة، وأنها تفتح باب انهيار المجتمع أخلاقياً وسلوكياً.
وبين هذا وذلك يبرز سؤال حول من يقف وراء تلك التعديلات، وما الغرض منها، وهل هناك أجندة سياسية وراءها، أم أنها جاءت من باب الضرورة القانونية؟
هل يستهدف المشرع تعديل قوانين أخرى مستقبلاً، وهل يدفع المشرع جموع الشعب للخروج في مظاهرات رافضة لتعديلات يراها تمس عقيدتهم، وقد تهدد استمرار الحكومة الحالية، أم أنه اطمأن لمرورها دون مقاومة شعبية؟
الوجه الحقيقي للحكومة الانتقالية
أعلن حزب المؤتمر الوطني المنحل ـــ الحزب الحاكم سابقاً ـــ رفضه لهذه التعديلات القانونية، ووصفها بأنها تتنافى مع الشريعة، مؤكداً أنها أزاحت النقاب عن الوجه الحقيقي للحكومة الانتقالية، وارتباطها بالمنظمات الأجنبية التي تعادي الإسلام والسودان.
وقال الخبير القانوني، والقيادي في المؤتمر الوطني المنحل، الشيخ النذير، لـ"عربي بوست"، إن السودان دخل فعلياً مرحلة الدولة العلمانية التي تتقاطع مع توجهات أكثرية السودانيين الذين عُرفوا بتدينهم الشديد، وذلك لإرضاء الغرب.
وأشار النذير إلى أن اليساريين والعلمانيين جاؤوا إلى السلطة بخيارات صفرية تهدف لإقصاء الإسلام وطقوسه وتستهدف الحاضنة الاجتماعية والشعائرية للسودان، من أجل السيطرة والتمكين وفرض العلمانية.
ولفت النذير إلى أن الشعب السوداني لن يسكت على تلك التعديلات، لأنها سوف تحوّل البلاد إلى سوق للدعارة المقننة، وبها سوف تفتح البارات والملاهي الليلية الماجنة.
وكانت الخرطوم شهدت الجمعة الماضي تظاهرات في عدد من المساجد، تنديداً بالتعديلات التي أجرتها الحكومة السودانية، وذلك على الرغم من أن السلطات السودانية أغلقت الكباري المؤدية إلى الخرطوم.
وأكد القيادي في حزب المؤتمر الوطني استمرار التظاهرات في الأيام القادمة لرفض هذه القوانين، وليس من أجل البحث عن السلطة، مشدداً على أن الذين تظاهروا ضد التعديلات ليسوا جميعاً من رجال النظام السابق كما يشيع البعض، بل أكثرهم من جموع الشعب السوداني الذين استفزتهم توجهات الحكومة لتغيير قوانين تمس عقائدهم.
على الجانب الآخر، كان رئيس حزب دولة القانون والتنمية، الدكتور محمد علي الجزولي، قد وجَّه انتقاداً للتعديلات القانونية بشدة، وذلك قبل ساعات من اعتقاله، حيث لايزال قيد الاحتجاز.
وأكد الجزولي أن التعديلات القانونية تبرهن على أن أولويات الحكومة الانتقالية ليست في حل الأزمة الاقتصادية الخانقة، ولا الاستجابة لمطالب السودانيين في تحقيق شيء من الرفاهية وبسط الحريات، وإنما في تثبيت مشروعها الثقافي الذي يناقض توجهات أغلبية الشعب السوداني.
واستغرب الجزولي من توجيه الانتقاد لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك وقوى الحرية والتغيير وحدهما في مسألة التعديلات القانونية، مشدداً على أن رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبدالفتاح البرهان مسؤول عن هذه التعديلات، بمجرد توقيعه عليها واعتمادها دون اعتراض.
مخاوف من انفصال جديد
الانتقادات الحادة التي وجَّهها حزب المؤتمر للتعديلات القانونية، قابلتها الحكومة الانتقالية بسخرية شديدة، وشددت على أن الذين تورطوا في قتل المتظاهرين وظُلم السودانيين وإذلالهم ليسوا مؤهلين للحديث عن الأخلاق والعدل، وأكدت أن التعديلات جاءت لإنهاء التضييق على حريات السودانيين ومعتقداتهم.
وقال الخبير القانوني، القيادي في قوى الحرية والتغيير، معز حضرة، لـ"عربي بوست"، إن القوانين التي تم تعديلها كانت فضفاضة وفيها إهانة وإذلال للمواطنين، ولذلك تم ضبط نصوصها التي كانت تتيح لرجل الشرطة ووكيل النيابة والقاضي تفسيرها وفقاً لتصوراته، وليس وفقاً للوقائع.
ولفت حضرة إلى أن النظام السابق كان يستخدم تلك القوانين كأداة سياسية للتضييق على خصومه، منوهاً بأن "التعديلات جاءت لإنصاف غير المسلمين الذين عانوا اضهاداً شديداً من النظام السابق"، لافتاً إلى أن القوانين الجديدة تبسط الحريات الدينية، وتحقق مبدأ الإسلام الذي لا يقهر الآخرين من غير المسلمين، وإنما يحاورهم، كما أنه لا يفرض الحدود الإسلامية عليهم.
وأشار القيادي في قوى الحرية والتغيير إلى أن النظام السابق كان يضيّق على غير المسلمين، ويحاكمهم بالقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، ما أسهم بصورة أو بأخرى في انفصال جنوب السودان، لإحساس أبنائه بالتمييز السلبي والقمع وفقاً لتقديرات قانونية خاطئة كلياً، على حد قوله.
وحذّر حضرة من أن الإصرار على فرض هذه التعديلات يمكن أن يعرقل مفاوضات السلام الجارية في جوبا عاصمة جنوب السودان، بين الحكومة السودانية وقوى الكفاح المسلح، خاصة أن بعضها يطالب بإنهاء التضييق على غير المسلمين، مشيراً إلى أن الإصرار على التعديلات يهدد بفقدان أجزاء أخرى من الوطن كما انفصل جنوب السودان.
فيما تطالب الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة عبدالعزيز الحلو، بإقرار نظام علماني في السودان كشرط لتوقيعها على اتفاق السلام، وتشدد على أنه في حال لم يتم إقرار العلمانية كنهج للدولة، فإنها ستتجه إلى المطالبة بتقرير المصير لمواطني منطقة جنوب كردفان في المفاوضات، ما قد يؤدي إلى انفصالها عن السودان.
تعديلات صحيحة في وقت خاطئ
ولفت القيادي في الحرية والتغيير معز حضرة إلى أن كثيراً من هذه التعديلات القانونية سبق أن دعا لها وتبناها عراب نظام الإنقاذ، الراحل الدكتور حسن الترابي، وخصوصاً عقب الخلاف الذي وقع بينه وبين الرئيس المخلوع عمر البشير في عام 1999م، وبموجبه أسس الترابي حزب المؤتمر الشعبي، وأصبح أحد أبرز معارضي البشير.
وهنا يقول الخبير القانوني، والقيادي في حزب المؤتمر الشعبي، أبوبكر عبدالرازق، إن التعديلات التي تم إجراؤها على بعض القوانين من قِبل الحكومة الانتقالية مهمة، لكن توقيتها خاطئ.
وأكد عبدالرازق لـ"عربي بوست" أن الحكومة الانتقالية لها مهام محددة، أبرزها حل الضائقة الاقتصادية التي ضربت البلاد، وتهيئة المناخ السياسي للتنافس الانتخابي النزيه، وليس من بينها البت في القضايا الجدلية والخلافية، مشدداً على أن التعديلات القانونية ينبغي أن تأتي من البرلمان المنتخب، لا أن تُفرض فرضاً من خلال فئة محدودة لا تمثل كل السودانيين.
وأثنى على إلغاء عقوبة الردة في التعديلات الجديدة، منوهاً بأن القرآن الكريم لم ينص عليها، وأنها من صُنع وتأليف المستبدين.
واعتبر التعديلات التي أُدخلت على المادة الخاصة بالدعارة ممتازة، لأن التعريف جاء مُحكماً وحدد موقع الدعارة، وحدد الجريمة والعقاب، بعكس النص الذي وضعه النظام السابق، حيث كان فضفاضاً وحمّال أوجه، على حد قوله.
وأضاف: "النص السابق يجعل رجل الشرطة ووكيل النيابة والقاضي يفسرون الواقعة كلّ بحسب تقديراته، بل إنه إذا تم وضع قضية دعارة واحدة أمام عشرة قضاة، فإن كل واحد منهم سيُصدر حكماً مختلفاً عن الآخر.
وانتقد عبدالرازق سعي الحكومة للسماح لغير المسلمين بتصنيع وبيع وشرب الخمر، دون أن تستشيرهم في هذا التعديل القانوني.
واعتبره تقليلاً من قدر ومكانة غير المسلمين في السودان، وصورتهم على أنهم ثلة من السكارى ولا يبحثون سوى عن اللهو، لذلك كان من الأوجب أخذ مشورتهم، خاصة أن كثيرين منهم يرفضون شرب الخمر ويحرّمونها.
وأرجع القيادي البارز في حزب المؤتمر الشعبي التظاهرات التي خرجت ضد التعديلات القانونية إلى فشل الحكومة في إيصال المضمون الحقيقي للتعديلات، وقال إن ذلك وفّر فرصة لخصوم الحكومة لتأليب الرأي العام ضدها، بحجة أنها أباحت الزنا والدعارة.
واتهم عبدالرازق الحكومة الانتقالية واعتبرها غير مخوّلة قانوناً وغير مؤهلة شعبياً لإجراء تعديلات قانونية حول القضايا الخلافية، وأنه من الأوجب ترك الأمر للبرلمان المنتخب.
على خُطى البشير
وليس بعيداً عن حديث القيادي البارز في حزب المؤتمر الشعبي، أبوبكر عبدالرازق، فإن أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، الدكتور عزالدين المنصور، يرى أن انفراد مجموعة سياسية محددة بالقرارات المصيرية، يُحاكي الطريقة المستبدة التي كان ينتهجها الرئيس المعزول عمر البشير في حكم السودان.
وقال المنصور لـ"عربي بوست" إن البشير سعى لفرض مشروعه الفكري بالقوة، مستغلاً السلطة والسلاح في بعض الأحيان، وهو ما كان مرفوضاً من قِبل كثيرين ممن يحكمون السودان حالياً، ولذلك فإنهم يستحقون أن يوصفوا بالاستبداد، حال سعوا لفرض مشروعهم بقانون القوة، لا بقوة القانون.
وشدد المنصور على أن النقاط الخلافية يجب أن تُترك للمؤتمر الدستوري الذي سيُعقد بنهاية الفترة الانتقالية للبت في القضايا الكبيرة، وفق ما أقرته الوثيقة الدستورية الموقّعة بين القوى المدنية والمجلس العسكري، الذي أدار السودان عقب الإطاحة بالبشير.
وخمّن أستاذ العلوم السياسية بأن الحكومة تسعى لإرضاء أمريكا التي تطالب ببسط الحريات العامة والحريات الدينية، من أجل إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لكنه شدد على أن تحرير السودان من العزلة الدولية التي كانت مفروضة عليه بسبب سياسات النظام السابق، لا فائدة منها، طالما أن البلاد تعيش شقاقاً شعبياً وسياسياً.
وأشار المنصور إلى أن الحكومة تسعى لإرضاء تيار الليبراليين الجدد الذي يتمدد الآن في السودان، كما أنها تهدف لمغازلة الحركات المسلحة التي ترفض التوقيع على السلام، من خلال السماح لغير المسلمين بتداول وشرب الخمر.
وتوقع أن تمضي الحكومة في اتجاه إعطاء إشارات حول إقرار العلمانية كنظام حكم في السودان، خاصة أن بعض الحركات تضع ذلك شرطاً لإيقاف الحرب وتوقيع اتفاق السلام.
وأضاف: "للأسف فرض العلمانية بالبندقية لا يقل خطيئة عن نهج البشير بمحاولة فرض مشروع الإسلاميين بالسلاح في مناطق غير المسلمين بالسودان".
وقطع أستاذ العلوم السياسية بأن التعديلات القانونية ستجد مقاومة كبيرة من قِبل قطاعات واسعة من السودانيين، متوقعاً استمرار التظاهرات في عدد من المساجد، لأن المجموعة الحاكمة أوشكت على أن تحوّل الثورة السودانية المطلبية إلى ثورة فكرية.
ونفى القيادي في المؤتمر الوطني المنحل، الشيخ النذير، أن يكون حزبهم سعى لفرض المشروع الإسلامي بالقوة، مؤكداً أنهم عكفوا على تثبيت قيم الإسلام في المجتمع السوداني ذي الأغلبية المسلمة، ولم يغفلوا معاملة غير المسلمين بالقوانين التي تتسق مع معتقداتهم.
ولفت النذير إلى أن المجموعة المتنفّذة حالياً فرضت مشروعها العلماني، دون مراعاة للأغلبية المسلمة في السودان، في حين أنها أعطت غير المسلمين كل ما ينادون به.
وكان وزير العدل السوداني، نصرالدين عبدالبارئ، أقر في حديث بثه تلفزيون السودان، بصعوبات تواجه تطبيق التعديلات القانونية، مشدداً – في الوقت ذاته – على أن التعديلات تهدف لبسط الحريات وسيادة حكم القانون دون تمييز.
وفي مقابل ذلك، شرعت وزارة العدل في إجراء تعديلات جديدة على عدد من القوانين، أبرزها القانون الجنائي، وقانون الأحوال الشخصية، كما أنها وضعت عدداً من الاتفاقيات أمام طاولة مجلس الوزراء للموافقة عليها.
وقال مصدر قضائي بارز لـ"عربي بوست" إن السودان سيوقّع في غضون الأيام القليلة المقبلة على "اتفاقية إنهاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة" المعروفة بـ"سيداو"، بعد أن يعتمد مجلس الوزراء التعديلات الجديدة.
وأثارت تصريحات سابقة لوزير العدل حول نية السودان التوقيع على "سيداو" موجة من الجدل، حيث ساندت مبادرة "لا لقهر النساء" مساعي الوزير، بينما رفضت مبادرة "سودانيات ضد سيداو" تلك المساعي، ونظّمت وقفات احتجاجية أمام وزارة العدل، لمناهضة التوقيع على الاتفاقية.