من أبرز أسباب تبديد المقدرات المالية التي يعاني منها العراق بعد عام 2003، فساد المنافذ الحدودية نتيجة سيطرة الميليشيات والمتنفذين من رجال الأعمال والأحزاب عليها.
يعود ذلك لضعف أجهزة الدولة التي تواجه تصاعد نفوذ الفصائل المسلحة التي تخترق دوائر الحكومة وتسيطر على أهم مرافقها، فضلاً عن ارتفاع معدلات السرقات وتهريب الأموال والنفط والسلاح، وتزامناً مع ارتفاع معدلات الإصابة بجائحة فيروس كورونا في البلاد.
يملك العراق منافذ حدودية على امتداد حدوده مع الدول الست المحيطة به "إيران وتركيا والكويت والأردن والسعودية وسوريا"، ويبلغ عدد هذه المنافذ 22 منفذاً برياً وبحرياً، هذا فضلاً عن المنافذ الجوية المتمثلة بالمطارات ومنها المرخصة، وغير المرخصة، ما جعلها بوابة للفساد وتزوير البضائع المهربة حيث لا تدقيق في المنشأ الأصلي للبضائع، ومن ثم تذهب إيرادات البلد إلى جيوب المتنفذين.
الأحزاب والميليشيات متورطة بالفساد
وبحسب مراقبين فإن الأحزاب والميليشيات تتدخل في شؤون المنافذ الحدودية، فكل حزب وفصيل مسلح له دور ومهام تختلف عن البقية، فأحزاب تتورط في تهريب وبيع النفط في الخارج.
وأحزاب أخرى ترتبط بتهريب المخدرات من إيران، ونشاطات تتعلق بالحصول على إتاوات من تجار الخضار، واحتكار المنتجات الغذائية، وطرق توزيعها في المحافظات الجنوبية، ولا يختلف الأمر كثيراً في المنافذ الحدودية الشمالية في إقليم كردستان العراق.
ويقول عقيد بحرس الحدود بمحافظة البصرة لـ"عربي بوست": "تعد محافظة البصرة الشريان الاقتصادي الرئيس للبلد، كونها تمتلك موارد اقتصادية كبيرة، كحقول النفط والشركات الصناعية الكبيرة، فضلاً عن امتلاكها 9 منافذ حدودية، إلا أن هذه المنافذ تقع تحت سيطرة الجماعات المسلحة التي تنتمي لجهات سياسية متنفذة، تُهدد وتقتل كل من يكشف فسادها".
ويكشف العقيد الذي رفض ذكر اسمه، أن الشركات الأجنبية المكلفة بفحص البضائع المستوردة في ميناء أم قصر تلقت تهديدات من عناصر أمنية تابعة لفصائل مسلحة أبرزها تنتمي لمنظمة بدر وكتائب عصائب أهل الحق بسبب كشف الشركات الأجنبية عن تهريب مواد غذائية إيرانية منتهية الصلاحية.
وهذه التهديدات بالقتل واختطاف المهندسين أجبرت الشركات على مغادرة الميناء، ما أدى إلى دخول السلع بطريقة عشوائية من غير فحص طبي.
ويتابع العقيد: "استمرار هذه التصرفات الابتزازية يضعف من عمل أجهزة الرقابة في هيئة المنافذ الحدودية، كما تتدخل الفصائل المسلحة بفرض الإتاوات وتأخذ حصة من الضرائب الجمركية بشكل غير قانوني، وعندما نتحدث نحن الضباط لوكالات الأخبار والمراسلين يتم تهديدنا بالتصفية أو تحويلنا إلى التقاعد".
وفي بعض الأحيان يتم تلفيق اتهامات غير صحيحة ضد الضباط تحت مسمى التعاون وأخذ الرشاوى مقابل تمرير السلع عبر المنافذ الحدودية.
لماذا يفتح ملف فساد المنافذ الحدودية؟
ويرى مصدر عراقي مسؤول أن الفساد أصبح جائحة تصيب الدولة العراقية ومؤسساتها ودوائرها وهيئاتها، والمعنيون بالمنافذ الحدودية مشاركون في ممارسة هذا الفساد سواء كأفراد أو مؤسسات أو متواطئون بالصمت أو خائفون من التهديدات التي يتعرضون لها.
ويتهم بالفساد كل من يعمل بهيئة المنافذ ومكاتب المفتشين العموميين وحرس الحدود وديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة والأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية والبرلمان ولجانه المسؤولة والقضاء والجهات التنفيذية.
ويقول المسؤول في ديوان الرقابة المالي الاتحادي لـ "عربي بوست": "يعاني العراق من عجز اقتصادي كبير في ميزانية الدولة وصل إلى 32 مليار دولار، وقد يصل إلى 40 مليار دولار إذا استمرت أزمة هبوط أسعار النفط ومعها سرقة أموال الجمارك في المنافذ الحدودية، لذا كان من الضروري إجراء تحقيقات جدية وصريحة مع المتنفذين في المنافذ الحدودية".
ويتابع المسؤول العراقي في حديثه عن انهيار قدرة الحكومة على دفع مرتبات الموظفين والمتقاعدين، وارتفاع التصعيد الشعبي بعودة الاحتجاجات والتظاهرات للمطالبة بإجراء إصلاحات ومحاربة الفساد.
ويكشف المسؤول بدرجة معاون مدير عام في ديوان الرقابة المالي الاتحادي ويقول: "يتعرض العراق لنكسة مالية خطيرة بسبب سيطرة عناصر مسلحة تابعة لحشود يتزعمها قادة أبرزهم من التيارات الإسلامية الشيعية، وبعض من قادة الحشود العشائرية السنية".
ويضيف: "هذه الفصائل المسلحة لديها شخصيات متنفذة في مؤسسات الدولة وأهمها وزارة الداخلية والمالية وهيئة النزاهة ومجلس القضاء الأعلى، فتحاول هذه الفصائل المسلحة إيقاف أي إجراء من الممكن أن يقلل الفساد في المنافذ الحدودية".
فيما يقول المحلل السياسي وائل الشمري لـ عربي بوست: "إن دولاً خارجية تحقق مكاسب كبيرة جرّاء الفوضى الحاصلة في المنافذ الحدودية العراقية، وعدم قدرة الحكومة على ضبطها، سواءً بإدخال البضائع غير الصالحة للاستهلاك، أو تخفيض رسوم الجمارك، أو تمرير البضائع الممنوعة من الاستيراد".
وأن هذا ما يتكرر في المنافذ الحدودية بين العراق وإيران، التي بلغت قيمة التجارة فيها 11 – 12 مليار دولار سنوياً.
ووفقاً للشمري، فإن فتح ملف فساد المنافذ الحدودية بهذا التوقيت جاء تزامناً مع ارتفاع حالات الفقر إلى نسبة 20% أي ما يعادل 7 ملايين شخص من سكان العراق حسب ما أعلنه الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط.
وهذا مؤشر خطير ربما سيؤدي إلى حدوث مجاعة كبيرة، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى 22.7%، كل ذلك كان بسبب الفساد المستشري في دوائر الدولة وأهمها المنافذ الحدودية التي تعتبر من أكبر مصادر دخل الحكومة العراقية.
تهريب النفط والسلاح والعملة الصعبة
لم تقتصر عمليات التهريب والتجارة غير القانونية على بيع السلع والأغذية الممنوعة أو منتهية الصلاحية، بل تعدى ذلك الفساد إلى عمليات تجارية كبيرة يقودها رجال أعمال يتعاملون بملايين الدولارات مقابل إتمام صفقات تمرير وبيع النفط والسلاح وعملة الدولار لسوريا ولبنان وإيران.
بهذا السياق يتحدث عضو لجنة النزاهة في البرلمان العراقي، والذي طلب عدم الكشف عن اسمه لـ عربي بوست قائلاً: "هناك فصائل مسلحة تنتمي لهيئة الحشد الشعبي وتمارس ضغوطات على حرس الحدود.
وأبرز هذه الجهات ـ حسب قوله ـ هي كتائب حزب الله، وثأر الله ومجاميع من حركتي النجباء وعصائب أهل الحق، وحركات مسلحة محلية في محافظتي البصرة وديالى، بالإضافة إلى منافذ حكومة إقليم كردستان مع تركيا وأهمها منفذ إبراهيم الخليل الذي تسيطر عليه قوات البيشمركة".
ويؤكد عضو لجنة النزاهة بأن موانئ العراق مسيطر عليها من قبل الأحزاب والميليشيات التي تؤسس شركات كواجهة لها، وتقوم بالسيطرة على أرصفة في الموانئ للاستفادة من الواردات الكبيرة التي تؤمنها، بالتالي تقوم بتهريب النفط والعملة الصعبة لإيران، وذلك لإنقاذها من أزمة العقوبات الأمريكية.
وقال مصدر أمني في هيئة المنافذ الحدودية لـ عربي بوست: "إن منظمة بدر وعصائب أهل الحق وسرايا السلام تسيطر على أغلبية المنافذ الحدودية الممتدة من محافظة العمارة إلى الكوت وديالى، فيما تسيطر كتائب حزب الله العراقي على منفذ القائم بمحافظة الأنبار غربي العراق على الحدود مع سوريا".
ويضيف المصدر الأمني: "القوة الحقيقية لعمليات الميليشيات هي في المنافذ غير الرسمية التي تسيطر عليها، والتي تقوم من خلالها بتهريب الأسلحة وتبيعها للفصائل المسلحة الموالية لنظام الأسد في سوريا، وتقوم أيضاً هذه الميليشيات ببيع النفط بأسعار زهيدة من محافظة نينوى وتوصلها إلى منفذ ربيعة الحدودي مع سوريا، ليتم بيع النفط المهرب هناك ثم تحويل العملة الصعبة لمصارف في لبنان تابعة لحزب الله إلى أن تدخل فيما بعد إلى حسابات الحرس الثوري الإيراني".
ابتزازات وإتاوات وتهريب ممنوعات
تتنوع البضائع التي تدخل عن طريق المنافذ الحدودية بين المواد الغذائية والأجهزة الكهربائية والأدوية والمستلزمات الطبية وسلع أخرى، بالإضافة إلى البضائع غير القانونية.
وقد تعوّد التجار أن يقيموا علاقات جيدة ببعض الضباط والمتنفذين هناك من أجل تسهيل مرور بضائعهم وإعفائها من الرسوم المالية أو تخفيضها مقابل رشى كبيرة تدفع لهم. ولكن من لا يدفع إتاوات للعناصر المسلحة يتم حجز بضاعته وخطفه وفي بعض الأحيان قتله.
ويروي تاجر، يدعى أحمد الدوسري معاناته لـ عربي بوست: "أنا تاجر من أهالي البصرة أقوم باستيراد المواد الغذائية من الكويت عن طريق منفذ سفوان. لكني أواجه متاعب كبيرة بسبب اضطراري لدفع الإتاوات للمسؤولين على الحدود، وقد عانيت مسبقاً بحجز بضاعتي في الحدودة لمدة 16 يوماً حتى تعرض بعضها للسرقة والتلف.
والسبب هو أني تأخرت عن الدفع للعناصر الأمنية التي تفرض "الإتاوات"، وبهذه الحالة ندفع مرتين، مرة للجمارك الحكومية ومرة للمسؤولين التابعين لفصائل مسلحة وأحزاب".
من جهته يروي ضابط برتبة عميد في وزارة الداخلية لـ عربي بوست جزءاً من المشكلات التي يواجهها، ويقول: "نواجه صدامات متكررة مع الفصائل المسلحة التي لا تستجيب لقوانين الحكومة والتي تهرب الممنوعات ولا تستطيع هيئة المنافذ الحدودية محاسبتها".
ويتابع العميد، غالباً ما يتم تقسيم العمل في هذه المنافذ بين الضباط والمسؤولين الكبار، فلكل نوع من البضاعة مسؤولون عنه، يفاوضون التجار ويساومونهم مقابل السماح لهم بإدخالها، لكن مكمن الخطورة الأكبر في الموضوع هو في البضائع المحرمة قانونياً كالمخدرات والأدوية الفاسدة والسلع منتهية الصلاحية، وهو ما يعرض حياة المواطن العراقي للخطر".
مخاوف قبل عملية استعادة السيطرة
وتعهد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بتنفيذ حملة لاستعادة السيطرة على المنافذ الحدودية في البلاد في خطوة جريئة وضعت آمال الشعب على إعادة مقدرات الدولة وتوزيعها بشكل عادل على المواطنين.
جاء ذلك في بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء قال فيه: "نتكبد خسائر بمليارات الدولارات سنوياً في المنافذ من قبل عصابات وجماعات وقطّاع طرق وأصحاب نفوذ يسيطرون في بعض الأحيان على المنافذ الحدودية".
يُذكر أن جهات سياسية عراقية حذّرت من إمكانية حدوث توتر أمني كبير مع بدء رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تحركه لاستعادة السيطرة على المنافذ البرية والموانئ من يد الجماعات المسلحة، خصوصاً تلك المدعومة من إيران، والتي باتت تمتلك نفوذاً كبيراً داخلها، وتستحوذ على واردات ضخمة فيها.
بهذا الصدد يقول عضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر لـ عربي بوست: "يفقد العراق 10 مليارات دولار سنوياً سبب الفساد في المنافذ الحدودية وسيطرة الأحزاب وعناصرها العسكرية على الحدود والعمليات التجارية".
ويكشف كوجر عن أن التقديرات الجزافية تشير إلى أن ايرادات المنافذ الحدودية العراقية تصل إلى 16 مليار دولار سنوياً، لكن ما يصل إلى خزينة الدولة أقل من 6 مليارات. وهذا سيضع الحكومة في مواجهة الخطيرة مع الفصائل المسلحة التي لن تستسلم وتتنازل عن حقها من هذه المنافذ الحدودية حتى وإن كانت المواجهة بالسلاح والقتال.
من جانبه يؤكد مصدر في جهاز الاستخبارات لـ عربي بوست أن هذه الفصائل المسلحة المسيطرة على المنافذ الحدودية لا تعمل بشكل منفرد، وإنما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بزعامات سياسية وقادة كتل وأحزاب، وبالتالي فإن استهدافها يعني استهداف تلك الكتل في البرلمان.
ما يعني أن رئيس الوزراء سيكون هدفاً سهلاً لهذه الفصائل، التي تمتلك أذرعاً سياسية، تحميها من أي استجواب أو استهداف".
يتابع المصدر أن أبرز هذه الأذرع هو مجلس القضاء الأعلى الذي يرفع قضايا الفساد ويبت فيها، وكثيراً ما يُبرىء المتورطين لعلاقتهم بالأحزاب التي تسيطر على المنافذ الحدودية.
وبحسب المصدر الاستخباراتي، فإن تلك الفصائل معروفة لدى الجهات الأمنية مثل الشرطة المحلية وهيئة المنافذ الحدودية، وهي مشخصة بشكل واضح، لكن المأزق يكمن في التعامل معها، والقدرة على ردعها وضبطها، وإيقافها عن ممارسة هذا الابتزاز، أو اعتقال أفرادها.
ملف الفساد في المنافذ الحدودية يضع الدولة في موقف المواجهة الخطيرة، حيث أُسندت مهمة إخضاع المنافذ الحدودية إلى جهاز مكافحة الإرهاب ووحدة عمليات خاصة تابعة لاستخبارات وزارة الداخلية، والتي ربما ستدفع إلى صدام مسلح بين قوات الأمن العراقية وعناصر الميليشيات المسلحة التي تخترق الدولة وتعبث بمقدرات البلاد.
ويبقى هذا التحرك الخطير بمثابة خطوة مهمة لتوحيد أجهزة الدولة الأمنية وإعلان قوة القانون، وإذا ما تم فعلاً ضبط ومراقبة المنافذ الحدودية من قبل الحكومة العراقية سيؤدي ذلك إلى إعادة ثقة الشعب بالسلطة، وسيكسر فساد الميليشيات التي تنهش بالدولة وتنهب حقوق المواطنين منذ 17 عاماً، أما إذا انتهت الإجراءات دون محاسبة الفاسدين، فستضاف هذه الكارثة إلى قائمة معاناة العراقيين.