تكررت في الآونة الأخيرة مواقف تطبيعية من جانب سعوديين وإماراتيين تجاه إسرائيل أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط العربية، لكن كيف يرى الإسرائيليون ذلك "التقارب"، وماذا يريدون من ورائه؟
موقع صحيفة The Jerusalem Post العبرية نشر تقريراً بعنوان: "التفاعل الإسرائيلي-السعودي: إسرائيل تبالغ بشأن أي تقارب خليجي.. التلُّ لا يُخفي بالضرورة وراءه جبلاً"، غاص في تلك القصة من وجهة النظر الإسرائيلية.
مبالغة بشأن مقالة بحثية لسعودي
في بيان صحفي أصدرته جامعة تل أبيب يوم الإثنين 13 يوليو/تموز، جاء العنوان المُحتفي حابساً للأنفاس: "لأول مرة"، هكذا قال العنوان، "باحث سعودي بارز يشارك بمقالة بحثية في دورية أكاديمية إسرائيلية".
وقال البيان: "يأتي العدد الأخير من دورية (كيشير) Kesher العلمية، وهي دورية أكاديمية تصدر عن معهد شالوم روزنفيلد لأبحاث الاتصال والإعلام اليهودي بجامعة تل أبيب، في افتتاحيته بمقال بحثي فريد من نوعه ولأول مرة في مجلة أكاديمية عبرية".
ويستكمل البيان: "في مقاله الأول بالعبرية، يزعم الأستاذ محمد إبراهيم الغبان، رئيس قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى والدراسات العبرية في كلية اللغات الحديثة والترجمة بجامعة الملك سعود، أن النبي محمد [صلى الله عليه وسلم] كانت له علاقات جيدة مع اليهود، وأنه اشتبك معهم فقط لأسباب سياسية، وليس على أسس دينية".
المقال البحثي جاء تحت عنوان: "إسهامٌ لتحسين صورة النبي محمد [صلى الله عليه وسلم] في عيون الرأي العام الإسرائيلي: تحالفات محمد [صلى الله عليه وسلم] ومراسلاته مع اليهود في شبه الجزيرة العربية" Contribution to Prophet Muhammad's Image Improvement in the Eyes of the Israeli Public: Muhammad's Alliances and Mail Exchanges with Jews from the Arabian Peninsula، وتأتي الورقة البحثية وسط دعوات متزايدة في السعودية وجامعة الدول العربية للاستعانة بوسائل دعم التفاهم ما بين الأديان لتعزيز التعاون مع اليهود وإسرائيل، سعياً لتحقيق السلام، بحسب البيان.
جمهور منبهر، ولكن!
أولئك الذين كتبوا العنوان الرئيسي لهذا البيان يعرفون جمهورهم الإسرائيلي جيداً، ومن الواضح أنهم كانوا يتوقعون ردَّ فعل منبهراً و"يا إلهي!" من القارئ، لأنه في الماضي، كان هذا هو الرد بوجه عام كلما كان هناك أي تبادل طبيعي بين إسرائيل ودول الخليج.
ويلتقي اللواء السعودي السابق أنور عشقي علناً في واشنطن مع دوري غولد في عام 2015 قبل أيام فقط من تولي غولد منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، فيكون رد الفعل: "يا إلهي!".
السعودية تسمح لرحلات طيران الهند المتجهة إلى إسرائيل بالتحليق فوق أجوائها في عام 2018: يا إلهي!. مدون سعودي يزور إسرائيل في 2019 ويكتب تغريدات عن رحلته: يا إلهي!
كل خطوة من هذه الخطوات تُوصف بأنها غير مسبوقة، ويتعامل معها الإسرائيليون بوصفها علامةً على أنهم في طريقهم نحو علاقات طبيعية مع السعوديين، حتى إنه سيكون بإمكانهم تناول الشاورما في شوارع الرياض قريباً!
تقارب في الخفاء
ولا يقتصر هذا على التفاعل مع السعودية فحسب، إذ لمّا كانت إسرائيل متعطشة للقبول على أي نحو، فإن أي فُتات أو فضلات طعام تلقى إليها من إحدى دول الخليج بات يتحول في إسرائيل -وأيضاً من جانب العديد من يهود الخارج- إلى وجبة كاملة، وظل هذا سارياً لسنوات، وتعود جذوره إلى المسار متعدد الأطراف لمفاوضات السلام التي أعقبت مؤتمر مدريد 1991-199، والتي انتهت إلى لا شيء بعد ذلك بعدة سنوات.
وفي حين أنه صحيح أنه خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية أُلقي عدد متزايد من تلك النوعية من الفتات إلى إسرائيل، فإن الدولة العبرية لا تزال بعيدة عن الجلوس إلى مائدة واحدة مع دول الخليج وتناول الطعام معاً في وليمة فخمة وفي حفل مفتوح بطريقة عادية.
إسرائيل لا تتمتع بعلاقات طبيعية مع الدول العربية، إذ لطالما ذكّرتها تلك الدول مراراً وتكراراً بأنها لن تصل إلى هناك ولن تكون العلاقات على هذا النحو، حتى يتم التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين.
السلام شرط التطبيع الرسمي
وبما أن إسرائيل ليست قريبة على أي نحو من التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن إسرائيل ليست مستعدة للاستسلام لجميع المطالب الفلسطينية، فإن التطبيع مع الدول العربية لن يحدث في أي وقت قريب.
هذا لا يعني أنه لن تكون هناك اتصالات متبادلة، ولن تكون هناك روابط تجارية وأمنية واستخباراتية. سيكون هناك، لكن هذه الاتصالات لن تحقق إنجازاً كبيراً حتى تتوصل إسرائيل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، وإذا كان اتفاق السلام هذا يبدو غير قابل للتحقق في المستقبل المنظور، فسيتعين على إسرائيل أن تتعايش مكتفية بالعلاقات غير الرسمية، أي تحت الطاولة وبعيداً عن الأنظار مع تلك الدول العربية التي لا تربطها بها علاقات كاملة.
ليس نهاية العالم
لسنوات، جادل دعاة حل الدولتين بأنه حتى وإن نشأت دولة فلسطينية على طول خطوط 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، فإن إسرائيل ستظل معزولة في المنطقة.
ومع ذلك، لقد أثبت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن هذا الافتراض خاطئ، إذ لم يحدث تقدم ولو بمقدار بوصة إلى الأمام في المفاوضات مع الفلسطينيين خلال السنوات الـ11 التي كان فيها نتنياهو في منصبه، لكن ذلك لم يمنع جميع الأنشطة والعلاقات البعيدة عن الإعلام مع الدول العربية من الحدوث والاستمرار، ولكن ما حال عدم التقدم في المفاوضات دون حدوثه هو إضفاء الطابع الرسمي على كل هذا النشاط في العلاقات بواسطة إظهاره في العلن.
وكان نتنياهو قد أمل أنه حتى بدون اتفاق سلام مع الفلسطينيين، يمكنه تطبيع العلاقات مع العالم العربي. ولطالما كان مدافعاً عن نهج الانفتاح على الدول العربية وتبادل المصالح لصنع السلام: تلك الفكرة القائلة بأن السلام مع دول الخليج سيجعل من السهل بعد ذلك التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى قدرتهم على دفع الفلسطينيين لكي يكونوا أكثر تقبلاً للمساومة وأكثر واقعية في مطالبهم.
هذا أيضاً ثبت أنه وَهْم
ومن ثم فإن ما تبقى للإسرائيليين هو مكان في المنتصف بين هذا وذاك، لا سلام مع الفلسطينيين ولا علاقات رسمية مع العالم العربي –باستثناء الأردن ومصر- ومع ذلك وفرة من النشاط تحت الطاولة، وفي الشرق الأوسط، غالباً ما يكون تحت الطاولة مكان مزدحم للغاية.
ما يعنيه كل هذا أنه في حين أنه من الجيد أن يكتب أكاديمي سعودي يدرّس العبرية في جامعة سعودية مقالة بحثية بالعبرية في دورية جامعية إسرائيلية، فإنه ليس حدثاً كبيراً، ولا ينبغي تحويله أو التعامل معه على أنه حدث كبير.
عنوان المقال البحثي ذاته يقول إن هدفه هو الإسهام في تحسين صورة محمد [صلى الله عليه وسلم] في أعين الجمهور الإسرائيلي. إذن، أين يجدر بهذا الأستاذ تقديم ورقة بحثية كهذه؟ دورية في جامعة ولاية كانساس الأمريكية؟ أم جامعة ييل؟! لا، جامعة تل أبيب هي المنبر الطبيعي لموضوع كهذا.
وفي الشهر الماضي، كتب يوسف العتيبة، سفير الإمارات في واشنطن، مقالةً افتتاحية في صحيفة Yediot Ahronot العبرية تستهدف الجمهور الإسرائيلي، محذراً فيها من خطط ضم أراضي الضفة الغربية. وقد احتفت الأوساط الإسرائيلية بهذا أيضاً باعتباره حدثاً كبيراً. ومع ذلك، فإن هذا المقال أيضاً، بدا أن منبراً عبرياً كصحيفة Yediot Ahronot هو المكان الطبيعي لنشره، والأمر أنه إذا أراد شخص ما الوصول إلى الجمهور الإسرائيلي، فمن الطبيعي أن يكتب وينشر في منبر يتابعه الجمهور الإسرائيلي.
يجب أن يرى الإسرائيليون هذه التبادلات كما هي عليها: تفاعلات طبيعية تُظهر أن مصائر إسرائيل والدول الأخرى في المنطقة متشابكة، وأن مصالحها تتداخل في بعض الأحيان، وأنه من وقت لآخر سيكون هناك تفاعل وتبادل.
الأمر ليس طفرة في العلاقات، وليس علامة على أن هناك شيئاً أكبر يكمن في الزاوية. هذا هو ما عليه الأمر: أستاذ سعودي يدرّس العبرية يريد إقناع الإسرائيليين بأن تصوّرهم عن مواقف النبي محمد [صلى الله عليه وسلم] تجاه اليهود غير صحيح. لا أكثر ولا أقل. فالتلُّ ليس شرطاً أن يخفي وراءه جبلاً.