احتفل جوجل قبل عدة أيام بذكرى ميلاد الزعيمة الإصلاحية هدى شعراوي، رحمها الله، فذهب البعض إلى ترديد أحاديث وقصص تاريخية، لو عدنا إليها وتثبتنا منها لوجدنا الحقائق غير تلك التي نعرفها بكثير.
إحراق الحجاب
من أكثر هذه القصص غير الصحيحة والمتداولة منذ سنوات عديدة هي قصة إحراق هدى شعراوي الحجاب أثناء مظاهرة النساء ضد الإنجليز في ثورة ١٩١٩.
يجب أن نوضح أن هذه القصة عن هدى شعراوي لم يروها إلا محمد قطب في كتابه "واقعنا المعاصر" في صفحة ٢٤٣.
ولك أن تعجب حين تعلم أنه لم يذكر تلك القصة أيٌّ من المؤرخين الذين تطرقوا إلى الثورة، مثل محمد محمد حسين في اتجاهاته، أو عبدالوهاب النجار في مذكراته، أو عبدالرحمن الرافعي أو حسين مؤنس أو سواهم.
ومن المضحك أن محمد قطب يذكر في كتابه ص٢٤٢ أن هدى شعراوي سافرت إلى فرنسا لتتعلم وهي محجبة، ثم عادت سافرة، وكان أبوها في ميناء الإسكندرية لاستقبالها، فلما رآها سافرة احمرّ خجلاً وغضباً، وانصرف دون أن يحييها! وردد هذه القصة أبوإسحق الحويني في إحدى خطبه المزمجرة.
وهذا النص على قِصَره ظلمات بعضها فوق بعض!
فلا هدى شعراوي سافرت إلى فرنسا لغرض العلم، ذلك لأنها تزوجت صغيرة وعمرها ١٣ سنة، كما في مذكراتها ص٦١، فلم تتعلم تعليماً عالياً أصلاً، بل كان يؤتى لها بمعلمة تعلّمها اللغة الفرنسية.
نعم، هي سافرت إلى فرنسا وغيرها بعد ذلك للنزهة وحضور المؤتمرات النسائية.
ولا هي كشفت عن وجهها شابة؛ لأنها كشفته عند عودتها من مؤتمر روما، وكان عمرها حينذاك ٤٤ سنة، كما صرّحت هدى شعراوي نفسها في مقابلة مع مجلة الهلال سنة ١٩٢٧.
ولا كان أبوها (محمد سلطان باشا) في استقبالها؛ لأنه ببساطة مات مريضاً في النمسا وهي طفلة عمرها خمس سنوات فقط! ومحمد سلطان باشا من رجال مصر المشهورين وليس من المغمورين، وقد مات سنة ١٨٨٤م، كما في مذكرات هدى شعراوي ص١٢.
نعود إلى قصة إحراق الحجاب في الميدان: هذه القصة ما إن أشاعها محمد قطب في كتبه ومحاضراته حتى انتشرت انتشار النار في الهشيم، وتلقفتها ألسنة (الإسلاميين)، فساقها سيد العفاني في "أعلام وأقزام" ١/١٠٥، وبكر أبوزيد في "حراسة الفضيلة" ص١٠٧، لكنه هذه المرة جعل إحراق الحجاب من فعل صفية زغلول!
والحقيقة التي يجب أن تُعلم: أن هدى شعراوي لم تحرق الحجاب قط، وأن نزعها للبرقع كان بعد تلك المظاهرة بأربع سنوات، وتحديداً عند رجوعها من مؤتمر روما سنة ١٩٢٣.
أما غطاء الرأس الذي أجمع الفقهاء عليه فلم تحاربه هدى شعراوي يوماً، كيف وقد كانت هي نفسها لا تتحاشى من غطاء الرأس والشعر في كهولتها وشيخوختها كما تظهر بعض صورها؟ فلو كانت ترى في غطاء الرأس تخلفاً أو رجعية لما لبسته البتة.
وأنا لا أدعي أن هدى شعراوي وغيرها كنّ ملائكة مطهرين، لكنني بصدد نفي محاربتها لما أجمع عليه المسلمون من الحجاب وغيره.
وأنا أشكر في هذا الصدد الشيخ عبدالله رشدي؛ لأنه من القلائل الذين تنبهوا إلى هذه الحقيقة.
سعد زغلول وكشف البرقع
أما ثانية الأكاذيب، فهي ادعاء أن سعد زغلول هو الذي كشف برقع هدى شعراوي بيده حين رجع من المنفى! (حراسة الفضيلة ص١٠٧).
نعم، كان سعد يشجع على سفور المرأة عن وجهها فقط، ويحضّ عليه، لكن نزعه لبرقع هدى شعراوي لا يثبت، فقد نزعته هي بنفسها كما سبق، وكانت قد التقت بسعد في طريق عودتها من مؤتمر روما، ورجعا في باخرة واحدة.
وذكرت هدى شعراوي في مذكراتها ص٢٤٣ أن سعد زغلول لما رآها كاشفة عن وجهها سُر بذلك، ثم طلب من زوجته صفية أن تكشف عن وجهها، فلم تفعل، وقالت: (ليس لي إلا زوج واحد).
فإذا كان سعد لم يملك إجبار زوجته على خلع برقعها حينذاك فهل كان يملك ذلك من سائر النساء؟ أما كون صفية خلعت حجابها بعد ذلك بإرادتها فهي قضية أخرى.
النشأة الإسلامية
وثالثة الأثافي التي رُميت بها هدى شعراوي: أنها لم تكن تنطلق في دعوتها من أي منطلق إسلامي، وأنها كان لها صالون يتحلق فيه حولها الرجال لكتابة الخطب التي تلقيها في الاحتفالات!
أطلق هذا الاتهام أنور الجندي في كتابه "حركة تحرير المرأة في ميزان الإسلام" ص٣٨، وتبعه محمد قطب وغيره.
والحق أن هذا اتهام عريض ليس له أي حظ من الصدق، فإن هدى شعراوي نشأت نشأة دينية، وختمت القرآن وهي في التاسعة من عمرها (مذكرات هدى شعراوي، ص٣٢).
ولم يكن لهدى شعراوي أي صالون تجتمع فيه بالرجال، واللتان اشتهرتا بالصالونات هما نازلي فاضل، وميّ زيادة.
وقد سعى الاتحاد النسائي الذي أنشأته سنة ١٩٢٣ إلى تحسين وضع المرأة، وتخليصها من القيود التي ألصقت بالإسلام، وليست منه، كمنعها من العلم والعمل، وإيجاب تغطية الوجه عليها، دون نظر إلى الرأي الفقهي الآخر الذي يجيز لها ذلك، وإجبارها على الزواج، وغير ذلك.
وكان الاتحاد النسائي مفتوحاً لكل امرأة في مصر، فضمّ المسلمة المحجبة، مثل نبوية موسى، والحاسرة، مثل درية شفيق، والمسيحية، مثل استر فهمي.
ولكن الاتحاد مع ذلك -بوصفه كياناً جمعياً- لم يكن يتجاوز حدود الإسلام، بل كان يصدر عن أوامره وتعاليمه، لا عن مفرزات الحضارة الغربية.
ففي مؤتمر روما أكدت هدى شعراوي أن الدين الإسلامي منح المرأة حقوقاً كثيرة، إلا أن جهل المرأة وسوء تعليمها هو سبب سكوتها عن هضم تلك الحقوق. (مذكرات هدى شعراوي، ص١٨٢)
وقد دعم الاتحاد النسائي دعوة شيخ الأزهر (أبو الفضل الجيزاوي) الحكومة إلى منع المسكرات، بل زاد فدعاه إلى محاربة محلات البغاء أيضاً. (مذكرات شعراوي ص١٨٣)
وكانت هدى شعراوي -مع دعوتها إلى سفور الوجه- تنكر تعرّي بعض النساء وتبرجهن، وإظهارهنّ مفاتنهنّ، ورقصهنّ مع الرجال، صرحت بذلك للشيخ الأديب عبدالعزيز البشري لما زارها في بيتها، ونقل الشيخ عنها قولها: "إن دعوة السفور ما كانت يوماً لتنطوي على هذا التبرج، وهذا السلوك الذي تنكره وننكره كلنا معك، فإذا ظن ظانّ أن من السفور ما تفعل بعض سيداتنا، مع كثير من الأسف، من الابتذال في مجالس الرجال والرقص ونحوه فهو في أشد الضلال، وإذا كان بعض السيدات قد تطرّفن في سلوكهن، فما كان ذلك إلا نتيجة التطور الاجتماعي، ونحن إذا دعونا إلى السفور، وعملنا بجهدنا على تحقيقه، فإنما نفعل ذلك لنكبح جماح هذا التطور، ونسير بالمرأة الشرقية في الطريق النافع المأمون). (في المرآة، لعبدالعزيز البشري، ص١٠٤)
ولما طالب سلامة موسى بمساواة المرأة والرجل في الميراث، رفضت ذلك هدى شعراوي، وعلّلته بقولها: "لا أظن أن النهضة النسوية في هذه البلاد، لتأثرها بالحركة النسوية بأوروبا، يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها، وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده، وليس ما يصلح في بعضها يصلح في الآخر". (مذكرات هدى شعراوي، ص٣٠٠)
وأكدت درية شفيق أن الإسلام كفل حقوق المرأة، وكانت ترجع في تقييد تعدد الزوجات إلى اجتهاد الشيخ محمد عبده، الذي رأى أن للحاكم منع هذا الأمر بسبب انتشار الجور والعسف في تطبيقه. (المرأة المصرية من الفراعنة إلى اليوم، لدرية شفيق، ص٣٣)
وقد كان للاتحاد النسائي أياد بيضاء في تشغيل النساء وتعليمهنّ، وإنشاء مصانع النسيج والخزف، وتقديم المعونات الخيرية، والمطالبة بحقوق المرأة السياسية.
بل امتدّ دور الاتحاد للمساهمة في قضايا الأمة، فشارك في بعثة الهلال الأحمر المصري إلى سوريا سنة ١٩٤٥ إثر الاعتداء الفرنسي على دمشق، وأمدها بالطبيبات والممرضات، وساهم في إنشاء مستشفى ميداني هناك. (أنا والشرق، لحواء إدريس، ص١٤)
وبعث الاتحاد وفداً إلى فلسطين سنة ١٩٤٦ لدعم الثوار الفلسطينيين. (المرجع نفسه، ص١٥)
وفي مؤتمر الهند ألقت حواء إدريس (عضو الاتحاد) كلمة في الرد على مزاعم الصهاينة بحقهم في فلسطين، رغم اعتراض الوفد المصري على ذلك. (المرجع نفسه، ص١٦)
وقدم الاتحاد الدعم الطبي والمادي للمقاومة في قناة السويس ضد الإنجليز، سنة ١٩٥١.
ولسائل أن يسأل: من أين بدأ الانحراف إذاً؟
والجواب: أن الانحراف بدأ منذ ثورة يوليو عام ١٩٥٢، حيث بدأ تأميم العمل الأهلي والأوقاف، ونشأ ما يسمى "نسوية الدولة"، وهو الاتحاد النسائي التابع للدولة، وبعض من شارك فيه كنّ في اتحاد هدى شعراوي سابقاً، مثل أمينة السعيد، التي سخرت قلمها ومجلتها "حواء" لمحاربة الإسلام، وكانت هي ملهمة نوال السعداوي.
أما الاتحاد النسائي الذي أنشأته هدى شعراوي -التي كانت توفيت سنة ١٩٤٧- فقد أصدر عبدالناصر قراراً بتغيير اسمه إلى "جمعية هدى شعراوي" وسُمح له بتقديم الخدمات الصحية والتعليمية فحسب، وأُقصي مَن لم يرضَ بالسقف الذي حدده النظام من قادته، فأُرغمت سيزا نبراوي على الاستقالة واتهمت بالشيوعية، وفُرضت الإقامة الجبرية على درية شفيق واتُّهمت بالعمالة، وتركها زوجها، وضُيّق عليها حتى اضطرت إلى الانتحار. (المرجع نفسه، ص٢٠)
والخلاصة: أن ما نراه اليوم من انسلاخ بعض النسويات من مبادئ الإسلام هو التطور الطبيعي لما أفرزته ثورة يوليو، ولم يكن من فكر هدى شعراوي وجماعتها في شيء، وهذه هي الحقيقة التي غابت عن وعي كثير من الإسلاميين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.