على مدى أكثر من نصف قرن تعرضت منطقة الخليج لأزمات مالية واقتصادية هزت في بعض السنوات مراكزها المالية بشدة، وسببت عجزاً حاداً في موازنتها العامة، صحيح أن معظم أسباب تلك الأزمات التي حدثت لدول المنطقة كانت تأتي من الخارج، وتحديداً من عامل واحد هو تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية باعتبار أن الخام الأسود والغاز هما المصدر الأساسي لمعظم إيرادات دول الخليج من النقد الأجنبي.
لكن في بعض الحالات كانت الضربة تأتي من عوامل أخرى منها مثلاً الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في الولايات المتحدة عقب انهيار بنك ليمان برازرز العملاق في صيف العام 2008 وامتدت لأسواق واقتصادات العالم، وكان حصادها خسائر بمليارات الدولارات تكبدتها البورصات الخليجية والمستثمرون الخليجيون في البورصات العالمية ومنها "وول ستريت" بالولايات المتحدة والبورصات الأوروبية والآسيوية. وهناك أيضاً أزمة النمور الآسيوية التي أطاحت بدول جنوب شرق آسيا وعملاتها في العام 1997 وأثرت سلباً على دول الخليج.
كما جاءت ضربات دول الخليج الاقتصادية في بعض الأوقات من المخاطر الجيوسياسية والحروب والتوترات السياسية والأمنية في داخل المنطقة نفسها، مثلاً حرب الخليج الأولى أو الحرب العراقية الإيرانية في 1980، احتلال العراق للكويت 1990، حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت) عام 1991، التوترات المستمرة بين إيران من جهة والغرب والولايات المتحدة من جهة أخرى، حرب اليمن وضرب الحوثيين لأرامكو عملاق النفط السعودي.
لكن الضربات الاقتصادية القوية التي تعرضت لها منطقة الخليج كانت تأتي غالباً من تهاوي أسعار النفط، خاصة أن دول المنطقة تعتبر من أكثر المناطق إنتاجاً للنفط في العالم، إذ يوجد فيها أكثر من نصف احتياطيات النفط العالمي. والسعودية هي أكبر منتج للنفط وإنتاجها في 2018 بلغ نحو 12.2 مليون برميل يومياً، وهو الأضخم عالمياً، وبالتالي فإن أي هزة في الأسعار تؤثر سلباً على هذه الدول، وتدفعها إلى اتخاذ إجراءات تقشفية عادة ما تكون موجهة بشكل أساسي نحو العمالة الوافدة.
مثلاً تعرضت دول الخليج لهزة اقتصادية في ثمانينات القرن الماضي حيث تهاوت أسعار النفط بسبب الحرب العراقية الإيرانية، فقد بلغ سعر البرميل 39 دولاراً في العام 1980 رغم اندلاع حرب الخليج الأولى وزيادة المخاطر الجيوسياسية في المنطقة ليتدهور في بداية عام 1982 إلى نحو 14 دولاراً ثم 10 دولارات في عام 1986، وهذا الرقم قد لا يغطي تكلفة استخراج النفط في بعض الدول.
وترتب على ذلك تعرض دول الخليج لخسائر تقدر بمليارات الدولارات في ذلك الوقت، وهو ما دفع منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" إلى خفض الإنتاج للحفاظ على سعر برميل النفط عند 18 دولاراً للبرميل، ومع هذا الخفض فقدت دول الخليج الكثير من إيراداتها حيث كانت الضربة مزدوجة من تهاوي الأسعار وخفض الإنتاج معاً، وزاد من العبء المالي في ذلك الوقت تحمل دول الخليج جزءاً من تكلفة الحرب على إيران عبر دعم المجهود العسكري للعراق .
أزمة النمور الآسيوية
في عامي 1997 و1998 أدت الأزمة المالية التي ضربت دول جنوب شرق آسيا إلى تهاوي سعر البرميل إلى ما بين 10 و11 دولاراً خلال العامين بسبب التراجع الشديد في الطلب على النفط الخام حينئذ، وهو ما انعكس سريعاً على الأسعار.
وتكرر المشهد، ولكن بدرجة أقل، مع اندلاع الأزمة المالية العالمية في العام 2008 حيث تراجعت أسعار النفط إلى نحو 40 دولاراً للبرميل بعد أن شهد قفزات في الفترة من بداية من عام 2000 وحتى 2008 حيث بلغت الأسعار نحو 147 دولاراً للبرميل قبيل اندلاع الأزمة مباشرة.
ولم تقتصر خسائر الخليج من الأزمة المالية العالمية على تراجع أسعار النفط، وبالتالي تراجع إيراداتها النفطية، بل شهدت البورصات الخليجية ما يشبه الانهيارات في العام 2009، وحسب الأرقام فإن البورصات الخليجية السبع فقدت حوالي نصف تريليون دولار من قيمتها السوقية منذ شهر سبتمبر/أيلول 2008 وحتى شهر يونيو/حزيران 2009.
كما أشارت تقديرات إلى أنّ الصناديق السيادية الخليجية خسرت ما بين 450 مليار دولار إلى 600 مليار دولار نتيجة لزلزال الأزمة المالية العالمية الذي امتد وقتها إلى كل أسواق العالم ليطيح ببنوك وشركات وبورصات كبرى. أمّا التوظيفات الخليجية في سندات الخزانة الأمريكية فقد خسرت ساعتها حوالي 5.6 مليار دولار خلال أربعة أشهر فقط.
3 سنوات من الهبوط
عقب الارتفاعات التي شهدتها أسعار النفط في الفترة من 2011 إلى 2014 عقب اندلاع ثورات الربيع العربي وما أعقبها من توترات أمنية في بعض الدول النفطية كما حدث في ليبيا والعراق، أو حروب عنيفة كما حدث في سوريا، بدأت الأسعار في الانخفاض في نهايات 2014 لتصل إلى 57 دولاراً للبرميل، ليستمر في التراجع حتى يصل في نهاية 2015 عند 30 دولاراً للبرميل، وواصل هبوطه بداية 2016 إلى حدود 27 دولاراً، وهو أدنى مستوى منذ 12 عاماً، وخلال تلك السنوات الثلاث شهدت الموازنات الخليجية عجزاً كبيراً دفع الحكومات إلى تطبيق إجراءات تقشفية وزيادة الأسعار وبيع بعض أصول الدولة.
حرب الأسعار
في شهر مارس/آذار 2020 قادت السعودية حرب أسعار شرسة ضد روسيا في محاولة لإلحاق خسائر فادحة بها بسبب رفض موسكو المشاركة في خفض الإنتاج النفطي والتعاون مع منظمة البلدان المنتجة للنفط (أوبك) التي تقودها الرياض.
وأدت الحرب إلى حدوث انهيار في أسعار النفط، ففي يوم 9 مارس/آذار 2020 انهارت أسعار النفط فجأة، بنسبة 30% لتصل إلى نحو 32 دولاراً للبرميل، وخلال الربع الأول من عام 2020 فقدت الأسعار نحو 70% من قيمتها، وهو ما هز ميزانيات دول الخليج ودفعها إلى التوسع في الاقتراض الخارجي، أو السحب من احتياطيات النقد الأجنبي التي تديرها الصناديق السيادية في الخارج.
واللافت أنه في كل الأزمات الاقتصادية السابقة التي تعرضت لها دول الخليج بسبب تهاوي أسعار النفط لم يصاحبها هجوم شرس على العمالة الوافدة كما حدث مع الانخفاض الحالي، ولم تشهد حالات تسريحات جماعية وتفنيشات ضخمة للعمالة العربية والأجنبية العاملة في منطقة الخليج كما يحدث الآن، ولم تشهد دول المنطقة حملات شيطنة ضخمة ضد العمالة الوافدة وصلت إلى حد ارتكاب ممارسات عنصرية ضدها خلال الفترة الماضية وصلت إلى حد معايرتها بأنها هي من نقلت فيروس كورونا للشعوب الخليجية، وأنها وراء جرائم نشر المخدرات والدعارة وغسل الأموال داخل دول المنطقة، وأنها وراء تهديد الأمن القومي والاجتماعي والثقافي الخليجي، وزيادة نسب البطالة بين شباب الخليج، وأن دولها ترفض استقبالها، فما الذي تغير هذه المرة عن الأزمات السابقة؟
7 أسباب
هناك عدة أسباب وراء الهجمة الخليجية الشرسة ضد العمالة الوافدة في منطقة الخليج أبرزها:
أولاً: تتعرض دول الخليج حالياً لأزمة مزدوجة ومركبة، مزدوجة من حيث الأسباب، فيروس كورونا وتهاوي أسعار النفط، ومزدوجة من حيث النوع حيث إنها أزمة صحية، وفي نفس الوقت أزمة مالية واقتصادية، ومزدوجة من حيث التداعيات والتأثيرات، فهناك تراجع ضخم في الإيرادات النفطية، وكذا تراجعات ضخمة أيضاً في إيرادات الأنشطة الاقتصادية والتجارية والخدمية الأخرى مثل الحج والعمرة في السعودية، السياحة في الإمارات، والطيران والسفر والخدمات في كل دول الخليج، والاستثمارات الأجنبية.
ثانياً، أن الأزمة الحالية صاحبتها مظاهر أخرى، فلم تقتصر على تراجع إيرادات النفط، بل شملت تراجع إيرادات كل القطاعات الاقتصادية والتجارية والصناعية والخدمية والسياحية بسبب تأثر الأنشطة التجارية بفيروس كورونا، وإغلاق المحال والمتاجر والأسواق، وتوقف حركة السفر والطيران، وتوقف الأنشطة الصناعية بسبب حظر التجوال أو الحجر الصحي الاختياري، وفرض قيود على حركة العمال، مع زيادة تكلفة القطاع الصحي.
ثالثاً، أن الأزمة المزدوجة الحالية أربكت صانع القرار الخليجي مع استمرارها وعدم وجود أفق زمني لحلها، وبالتالي عمقت الأزمة المالية في الخليج، خاصة على مستوى عجز الموازنات وزيادة أعباء الخزانة العامة، ودفعت الحكومات إلى السحب من أرصدة النقد الأجنبي، كما حدث مع السعودية التي سحبت نحو 50 مليار دولار من الاحتياطي الأجنبي في الخارج، وطبقت إجراءات تقشفية منها إلغاء بدل غلاء المعيشة وزيادة ضريبة القيمة المضافة ورفع أسعار البنزين. وسمحت الحكومة للقطاع الخاص بخصم نحو 50% من الرواتب.
تكرر المشهد في الكويت بصورة أعنف خاصة مع فقدان احتياطي البلاد نحو نصف قيمته خلال شهور قليلة، وتهاوي إيرادات النفط، حيث تم تسريح عشرات الآلاف من العمالة الوافدة، وتطبيق إجراءات تقشفية غير مسبوقة لمعالجة تداعيات الأزمة المالية، وإلغاء بند المكافآت والامتيازات التي يحصل عليها العاملون في كافة الجهات الحكومية، وخفض النفقات غير الضرورية في الميزانية الجديدة بنحو 35%.، وكذا وقف التعيينات الجديدة وإلغاء وتأجيل العديد من المشروعات التنموية.
رابعاً، جاءت الأزمة المالية والاقتصادية الحالية بعد 3 سنوات من التراجع في أسعار النفط؛ وعقب ضغوط متواصلة من إدارة دونالد ترامب على دول الخليج بخفض أسعار النفط، وبالتالي خفض كلفة المشتقات البترولية من بنزين وسولار على الناخب الأمريكي، مع تعويض النقص في الأسواق الدولية الناتج عن فرض عقوبات أمريكية على النفط الإيراني ومنع طهران من تصدير خامها الأسود، إذ بدأت الأسعار في الانخفاض نهاية عام 2014 لتصل إلى 57 دولاراً للبرميل، لتستمر في التراجع حتى تصل في نهاية 2015 إلى 30 دولاراً للبرميل، وواصل السعر هبوطه مطلع 2016 إلى حدود 27 دولاراً، وهو أدنى مستوى منذ 12 عاماً. وهذا السعر لا يغطي إلا جزءاً يسيراً من نفقات حكومات دول الخليج وكلفة استخراج النفط.
خامساً، أن الحملة الحالية ضد العمالة الوافدة في منطقة الخليج رافقها مرور الدول مستقبلة العمالة بأزمات مالية واقتصادية " دول الخليج"، ومرور الدول المصدرة للعمالة بأزمة اقتصادية وتراجعات حادة في إيرادات النقد الأجنبي بسبب شلل الأنشطة المدرة للنقد الأجنبي، السياحة كما هو الحال في مصر وتونس والمغرب، وتحويلات المغتربين كما هو الحال في مصر والسودان والأردن ودول المغرب العربي، وكذا من الاستثمارات الأجنبية والتصدير.
سادساً، أن الأزمة المالية والاقتصادية المزدوجة الحالية صاحبتها حملة إعلامية شرسة من الجانبين، دول الخليج والدول المصدرة للعمالة معاً وصلت إلى حد التراشق، ليس فقط على صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات، بل داخل البرلمانات كما حدث داخل مجلس الأمة الكويتي عند مناقشته أزمة العمالة المصرية في الكويت، ومن هنا كان رد الفعل عنيفاً من قبل بعض دول الخليج تجاه العمالة الوافدة.
سابعاً، أن بعض الدول المصدرة للعمالة رفضت استقبال مواطنيها العائدين من دول الخليج بسبب الظروف الاقتصادية التي تمر بها، أو خوفاً من انتقال فيروس كورونا من خلال العمالة العائدة، وهو ما أثار غضب بعض دول الخليج ودفعها إلى شن حملة شرسة ضد العمالة الوافدة.
الهجمة الخليجية الشرسة ضد العمالة الوافدة ستتواصل خلال الفترة المقبلة مع استمرار فيروس كورونا وتهاوي أسعار النفط، وهو ما دعا مؤسسة الأبحاث البريطانية "أكسفورد إيكونوميكس" إلى أن تتوقع قبل أيام مغادرة نحو 1.7 مليون عامل من العمالة الأجنبية السعودية، و900 ألف عامل الإمارات، وأن تشهد منطقة الخليج انخفاضاً في التوظيف قد يصل إلى 13%، وأن يتراجع عدد السكان في بعض دول الخليج بنسبة تصل إلى 10%، مع فقدان عمال أجانب وظائفهم بسبب آثار وتداعيات فيروس كورونا على الأنشطة التجارية والاقتصادية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.