الأحداث مشتعلة ولا تهدأ بين الجارتين كوريا الشمالية والجنوبية؛ تبادل لإطلاق النار في المنطقة منزوعة السلاح التي تفصل بين الدولتين، وتفجير كوريا الشمالية مكتب الاتصال مع جارتها الجنوبية، ثم أحداث استفزازية أخرى أقل وطأة مثل إطلاق بالونات دعائية أو زجاجات بلاستيكية عبر الحدود، كل ذلك في أقل من شهرين يوحي ببادرة حرب مع اجتماع مجلس الأمن في محاولة لحل الأزمة.
لكن في الحقيقة، الحرب بين البلدين لم تنته منذ 70 عاماً. ففي الخامس والعشرين من يونيو/حزيران عام 1950 أشعل الاعتداء المباغت الذي شنته كوريا الشمالية على شقيقتها الجنوبية فتيل حربٍ بين الشيوعيين والرأسماليين للسيطرة على شبه الجزيرة الكورية، وقد خلفت الحرب الكورية التي دارت رحاها بين عامي 1950 و1953 ملايين القتلى، وقًسمت الكوريتان على نحوٍ دائم.
نشأة الجارتين كوريا الشمالية والجنوبية بسبب صراع أمريكا والاتحاد السوفييتي
بالرغم من أنها لُقبت في الولايات المتحدة بـ"الحرب المنسية" نظراً لقلة الاهتمام الذي حظيت به أثناء وبعد النزاع، لكن إرث الحرب الكورية يضرب في العمق: فهي لا تزال تشكل أحد أهم القضايا الجيوسياسية التي لم تنته فعلياً حتى الآن، كما أنها مثلت سابقةً مكنت الرؤساء الأمريكيين من الحروب دون موافقة الكونغرس.
ترجع جذور الحرب بين الجارتين الكوريتين إلى فترة الاحتلال الياباني لكوريا بين عامي 1910 و1945. فعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وتفكيك قوات الحلفاء للإمبراطورية اليابانية، أصبحت كوريا ورقة تفاوضٍ بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.
لم يكن الحليفان السابقان يثقان في بعضهما البعض، لذلك في عام 1948 وبغرض التحقق من تأثير بعضهما البعض أسستا دولتين كوريتين منفصلتين (يفصلهما خط العرض 38) تفصلهما شبه الجزيرة. قاد كيم إل سونغ كوريا الشمالية لتكون دولةً شيوعيةً، ويدعمها الاتحاد السوفييتي، أما كوريا الجنوبية فقامت دولةً رأس ماليةٍ بقيادة سينغمان ري، وتدعمها الولايات المتحدة.
لكن كل دولة لم تر جارتها شرعية، فبدأت الحرب والتدخل الخارجي
كان الأمل أن تعادل الدولتان ميزان القوى في شرق آسيا، لكن سرعان ما اتضح أن أياً من الدولتين لم تر شقيقتها شرعيةً. وبعد سلسلةٍ من المناوشات الحدودية احتلت كوريا الشمالية جارتها الجنوبية في يونيو/حزيران عام 1950. أشعل ذلك الاحتلال حرباً بالوكالة بين القوتين النوويتين، وأول حرائق الحرب الباردة.
ضغطت الولايات المتحدة على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة -حديث التشكل وقتها- للتصريح باستخدام القوة في مساعدة كوريا الجنوبية، وخصص الرئيس الأمريكي هاري ترومان قواتٍ للقضية، دون طلب موافقة الكونغرس، الذي يملك وحده سلطة إعلان الحرب.
كانت تلك المرة الأولى التي تدخل فيها أمريكا نزاعاً كبيراً خارج حدودها دون إعلان حربٍ رسميٍ، وفق الأرشفة التاريخية لمجلة National Geographic الأمريكية. (في حين أن الحرب الكورية خبت في ذاكرة الأمريكيين، وطغت عليها ذكريات الحرب العالمية الثانية، وحرب فيتنام، فإن السابقة التي مثلتها أفعال ترومان في كوريا قد استخدمها الرؤساء التالون للولايات المتحدة كتبريرٍ للتدخل العسكري في فيتنام، والعراق، وأفغانستان، ومهام الأمم المتحدة في البوسنة وهاييتي).
التدخل الأمريكي والروسي في نزاع الكوريتين والحرب غير المعلنة
في التاسع والعشرين من يونيو/حزيران 1950 قال ترومان للصحافة: "لسنا في حربٍ، هوجمت كوريا الجنوبية بشكلٍ غير قانونيٍ من قِبل مجموعةٍ من قطاع الطرق المجاورين لكوريا الشمالية". ورغم وجود تساؤلاتٍ حول ما إذا كان الرئيس قد تجاوز سلطاته، فقد اعتُبر التدخل الأمريكي في الصراع رسمياً "عملاً شُرطياً".
افترضت الولايات المتحدة أن الحرب ستُحسم سريعاً، لكن سرعان ما ثبت خطأ ذلك الافتراض. في الأيام الأولى من الصراع تقدمت قوات الأمم المتحدة في أراضي كوريا الشمالية وباتجاه الصين الاشتراكية، التي استجابت بنشر أكثر من ثلاثة ملايين جنديٍ داخل كوريا الشمالية. وفي الوقت نفسه كان الاتحاد السوفييتي يزود بالعتاد والتدريب القوات الصينية والكورية الشمالية، ويُرسل طيارين لشن هجماتٍ على قوات الأمم المتحدة.
بحلول صيف 1951 كانت القوات قد استقرت في مأزقٍ خطرٍ قرب شبه الجزيرة الفاصلة بين الدولتين. ارتفع عدد الضحايا. وبدأت المفاوضات في يوليو/تموز، لكن كلا الطرفين تعثر على طاولة المفاوضات حول مصير أسرى الحرب.
ورغم أن عدداً من أسرى الحرب الذين أسرتهم قوات الولايات المتحدة لم يكونوا يرغبون في العودة لبلادهم، إلا أن الصين وكوريا الشمالية أصرتا على استرداد أسراهما كشرطٍ لإحلال السلام. وخلال سلسلةٍ مضطربةٍ من عمليات تبادل الأسرى قبل هدنة عام 1953 أُعيد أكثر من 75 ألف سجينٍ شيوعيٍ، وانشق أو طلب اللجوء أكثر من 22 ألف سجينٍ آخرين.
توقف القتال لكن الحرب لم تنته
في السابع والعشرين من يوليو/تموز 1953 وقعت كوريا الشمالية، والصين، والولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية هدنةٍ.
غير أن كوريا الجنوبية اعترضت على استكمال تقسيم كوريا ولم توافق على الهدنة أو توقع اتفاقية سلامٍ رسميةٍ. لذا، فإن الحرب لم تنته فعلياً، وإن كان القتال قد توقف.
فيما لا يزال عدد القتلى الذين خلفتهم الحرب الكورية غير معلوم. خسرت القوات الأمريكية نحو 40 ألف جنديٍ، وخسرت كوريا الجنوبية نحو 46 ألفاً. لكن أعداد الضحايا كانت أكبر في الشمال، إذ تُقدر بنحو 215 ألف كوريٍ شماليٍ، ونحو 40 ألف جنديٍ صيني.
لكن أغلبية القتلى، 70% منهم تقريباً، كانوا من المدنيين. ويُعتقد أن الحرب خلفت نحو 4 ملايين قتيلٍ مدنيٍ، وخسرت كوريا الشمالية بالتحديد الكثير من مواطنيها عبر القصف والأسلحة الكيماوية.
وآلاف في عداد المفقودين
فيما ظل عدد كبير من القوات في عداد المفقودين منذ انتهاء الحرب. إذ حُبس أكثر من 80 ألف جنديٍ جنوبيٍ في كوريا الشمالية عندما توقفت المعارك. ومع أن كوريا المالية أنكرت أسرهم، يقول المنشقون والمسؤولون في كوريا الجنوبية أن أولئك الجنود المحبوسين سيُستغلون كقوىً عاملةٍ.
ولن يُعرف أبداً مكان بقايا أغلب أولئك الأسرى. ومع ذلك، في يونيو/حزيران 2020، تعرفت الولايات المتحدة على هوية وأعادت 147 من أسرى الحرب الكوريين الجنوبيين الذين سلمت كوريا الشمالية رفاتهم في 2018 بعد سنوات من محاولة التعرف على هويتهم. وفي الوقت الراهن يظل أكثر من 75 ألف جنديٍ في عداد المفقودين.
انقسام مستمر بعد 70 عاماً من اندلاع الحرب
لا تزال الكوريتان منقسمتين بعد سبعين عاماً من اندلاع الحرب، لكن آمال الوحدة ظهرت عام 2000، حين أصدرت الدولتان إعلاناً مشتركاً ينص على أنهما سيُطلقان "جهوداً منسقةً" لإعادة الاتحاد، ومجدداً عام 2018 بعد قمةٍ تصافح فيها زعيما البلدين وتعانقا.
لكن تلك الآمال سرعان ما خبت، مع تفجير كوريا الشمالية مكتباً مشتركاً كان يُمثل سفارةً مشتركةً بين الدولتين، في يونيو/حزيران 2020، والأحداث الاستفزازية السابقة واللاحقة التي أشعلت الأزمة بين البلدين من جديد.