يعني الفشل الذي انتهت إليه المفاوضات بشأن سد النهضة الإثيوبي أن التعبئة الأولية للسد الكهرومائي المقام على النيل الأزرق بتكلفة 4 مليارات دولار ستبدأ على الأرجح دون اتفاق بين السودان ومصر وإثيوبيا.
ستحاول مصر استدعاء ضغوط دولية على إثيوبيا تؤمّن لها الحصول على ضمانات بعدم تأثير السد الجديد العملاق على التدفق المنتظم لمياه نهر النيل، التي تعد مصدر المياه الرئيسي لمصر.
ولكنَّ تقريراً لموقع Stratfor Worldview الأمريكي يتوقع أن تفشل في الأغلب جهود القاهرة لاستدعاء ضغوط دولية.
مع ذلك، وفي حين أن التنسيق الفني مع مصر بشأن المشروع أمر لا مفر منه، فإن تأثير القاهرة المتضائل على توزيع المياه في شمال إفريقيا سيجعل موقفها العام وحصتها من مياه النيل أقل أماناً بمرور الوقت.
موقف إثيوبي متشدد
لما كانت إثيوبيا هي الطرف الرئيسي في النزاع، فقد أصبح بإمكانها اتخاذ موقف متشدد حيال المحاولات المصرية لفرض قواعد على عمليات المشروع، وقد قررت بالفعل الشروع في ملء السد بمجرد بدء موسم الأمطار.
منذ عام 2011، أخذت إثيوبيا تبني سد النهضة على النيل الأزرق بالقرب من حدودها مع السودان. وبمجرد إنشائه وتشغيله بالكامل، سيكون السد لديه القدرة على توليد 6450 ميغاوات من الكهرباء، لاستخدامها بالدرجة الأولى في إثيوبيا. ويعد السد مشروعاً حاسماً في خطة أديس أبابا الرامية إلى زيادة النسبة المئوية لسكانها الذين يحصلون على الكهرباء، من 45% الحالية إلى 100% خلال العقد المقبل، من خلال تعزيز القدرة الإجمالية لتوليد الطاقة في البلاد بمقدار 25 ألف ميغاوات.
تأمل إثيوبيا في ملء خزان السد بـ 4.9 مليار متر مكعب هذا العام، وهو أقل من 10% من متوسط التصريف السنوي للنيل الأزرق الذي يبلغ نحو 50 مليار متر مكعب، لاختبار تشغيل التوربينيْن الأولين لتوليد الطاقة. كما تخطط إثيوبيا لملء الخزان إلى 18.4 مليار متر مكعب العام المقبل لاختبار بقية التوربينات.
أي تأخير، ولو بسيط، في الجدول الزمني الآن يمكن أن يؤدي إلى تعطيل المشروع لسنوات، نظراً إلى أن هطول الأمطار في حوض النيل الأزرق شديد الموسمية (80% من هطول الأمطار السنوي في المنطقة يحدث في المدة ما بين يوليو/تموز وأكتوبر/تشرين الأول).
"إنه سدِّي".. سد النهضة أصبح قضية قومية
كما أن السد قد أصبح قضية قومية في إثيوبيا، وانتشر وسم "إنه سدِّي" #ItsMyDam على وسائل التواصل الاجتماعي وفي كل مكان في إثيوبيا.
تعتبر إثيوبيا مطالب مصر بخصوص السد وتصورها على أنها تكريس لاتفاقيات الحقبة الاستعمارية مع السودان والمملكة المتحدة، وهي التي منحت تاريخياً القاهرة حصة كبيرة بدرجة غير طبيعية -في رأي إثيوبيا- من مياه النيل. كما أن إثيوبيا لم تكن طرفاً في الاتفاقيات الموقعة في عامَي 1929 و1959، ومن ثَم فهي لا تعترف بها.
كيف ردَّت القوى والمنظمات الدولية على طلب التدخل المصري؟
لمّا كان القلق المصري شديداً من فقدان الوصول إلى مصدر البلاد الحيوي للمياه، فإن مصر ستحاول حشد الدعم الدولي للضغط على إثيوبيا للموافقة على آلية تسوية للنزاعات، بالإضافة إلى جدول زمني ممتد لملء السد. وذلك على الرغم من أن المحاولات السابقة للوساطة الدولية فشلت إلى حد كبير، وأن الأمر ينطوي على مخاطرة بجعل إثيوبيا أشد تمسكاً بموقفها والمضي قدماً فيه.
بالنظر إلى الفشل المستمر للمحادثات على مستوى مجلس الوزراء في التوصل إلى توافق في الآراء بشأن المسائل السياسية والقانونية العالقة ذات الصلة بالسد، فإن السودان –الدولة الأخرى الواقعة على مسار النهر- يقترح الآن إجراء محادثات على مستوى أعلى بين إثيوبيا وقادة مصر و/أو رؤساء الوزراء (وهو ما رفضته إثيوبيا).
وكانت محادثات أجريت في وقت سابق من هذا العام بين مصر والسودان وإثيوبيا -توسطت فيها الولايات المتحدة- قد أسفرت عن مسودة اتفاق بشأن السد، لولا تراجع أديس أبابا عن توقيع الاتفاق في اللحظة الأخيرة.
كما أن التواصل المصري مع الأطراف الإقليمية، مثل الاتحاد الإفريقي ومجلس التعاون الخليجي، للمساعدة في التوسط في المفاوضات مع إثيوبيا، لم يحظَ إلا بقليل من الإقبال على التوسط من تلك الأطراف.
مَن هي الدولة التي يرجح أن تستخدم الفيتو ضد طلب مصر تدخُّل مجلس الأمن؟
في 19 يونيو/حزيران، دعت مصر مجلس الأمن الدولي إلى التدخل.
لكن من المؤكد أن الصين، وهي أحد أقرب شركاء إثيوبيا الاقتصاديين، ستستخدم حق النقض على أي قرار أساسي من الأمم المتحدة يهدف إلى وقف عملية ملء السد من خلال التلويح بعقوبات أو غيرها، حسبما يرى الموقع الأمريكي، علماً بأن الصين لديها علاقات وثيقة أيضاً مع مصر.
وللمضي قدماً، لن يكون أمام مصر سوى خيارات قليلة للضغط على إثيوبيا لكي تتعاون فيما يخص المسائل الفنية، حتى وإن بقيت الخلافات السياسية معلقةً دون حل.
حتى لو لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق مؤقت أو دائم، ستظل مصر وإثيوبيا بحاجة إلى التعاون بشأن المسائل اللوجيستية كلما استدعت الضرورة، من أجل إدارة تدفق المياه بين مراحل الإطلاق للمياه فيما بين سد النهضة الإثيوبي والسد العالي في مصر.
هل تلجأ القاهرة للخيار العسكري؟
ومن المتوقع أن يحافظ المسؤولون المصريون، لا سيما مسؤولي الجيش ووزارة الخارجية ووزارات الري والزراعة، على موقف متشدد ضد أديس أبابا، مدفوعاً بمخاوف بشأن قدرة مصر على المدى الطويل فيما يتعلق بالتحكم في إمدادات المياه.
مع ذلك، وفي حين أن القاهرة قد تهدد بعمل عسكري ضد إثيوبيا، فإنه من المستبعد أن تلجأ مصر إلى وسائل كهذه بسبب التحديات التي تفرضها محاولة غزو بلد لا تجمعها معه حدود مشتركة، وإلى جانب ذلك حاجتها إلى إعطاء الأولوية لمسائل أمنية أهم في المنطقة، مثل الحرب الأهلية في ليبيا المجاورة لها.
إلى جانب ذلك، فإن فقدان مصر سلطتها السياسية الإقليمية يعرض للخطر حصتها وقدرتها على الوصول إلى مياه نهر النيل على المدى الطويل، كما أنه سيؤدي إلى تفاقم مشاكل ندرة المياه الحالية في مناطقها الصحراوية.
وتخشى مصر من أن الاستسلام لمطالب إثيوبيا بشأن كيفية ملء السد وتشغيله يمكن أن يشكّل سابقةً تجرّئ أديس أبابا ودولاً أخرى من دول حوض نهر النيل على بناء مزيدٍ من السدود وبقدرات أكبر.
مشكلة القاهرة الكبرى ليست السد.. ولكن في المحاولات الإثيوبية التي ستليه
كما تشعر القاهرة بالقلق من أن إثيوبيا ودول المنبع الأخرى في شرق إفريقيا قد تعرّض حصتها لخطر وجودي أكبر مع مرور الوقت، إذا بدأت في استخدام المياه المخزنة في الخزانات للري بدلاً من توليد الطاقة الكهرومائية لتلبية احتياجات سكانها المتزايد عددهم.
وقد فاقم من هذه المخاوف عدد السكان المتزايد بسرعة كبيرة في مصر أيضاً، بالإضافة إلى التهديد الذي يلوح في الأفق بسبب مواسم الجفاف الأطول والأكثر تواتراً بفعل التغير المناخي وزيادة مستويات التبخر على طول النهر (على الرغم من أن أديس أبابا تجادل بأن تخزين المياه في إثيوبيا يقلل من فاقد المياه بالتبخر).
ومع ذلك، فإن فشل مصر المستمر في منع أديس أبابا من الاستمرار في بناء سد النهضة لا يظهر لأي مدى يمكن أن تثير تصرفات دول منبع حوض النيل القاهرة بشأن إمدادات المياه.