ينتصب برج الجزيرة وسط سماء حي الزمالك في وسط القاهرة، بوصفه أطول مبنى في مصر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، لكنّه يظّل بناءً مهجوراً وغير مُكتمل الإنشاء. ويتميّز بتصميمٍ يُشبه الأسطوانة المليئة بالنوافذ المُقوّسة على الطراز الإسلامي في الطوابق العلوية، لتصنع شكلاً أشبه بالتاج باهظ الثمن على رأس المدينة، وكأنّه مُضيفٌ يستعد للترحيب بضيوفه الذين لن يصلوا أبداً.
تقول صحيفة The Guardian البريطانية: بدأ بناء برج الجزيرة في السبعينيات، وكان من المخطط أن يستضيف -بارتفاع 166 متراً- فندقاً فخماً يتألّف من 450 غرفة، إلى جانب المطاعم والمتاجر والملهى الليلي. وكان يُفترض بالبرج أن يُمثِّل الجزء الأوّل من مشروع "مانهاتن الجديدة في مصر"، وهو عبارةٌ عن مجموعة من ناطحات السحاب التي تخيّل الرئيس أنور السادات تنصيبها في جزيرة الزمالك وسط النيل، للدلالة على مكانة القاهرة في الساحة الدولية. لكن المشروع توقّف في أعقاب اغتيال السادات عام 1981.
وفي عهد الرئيس التالي حسني مبارك، خاضت شركة التطوير العقاري معاركها من أجل الحصول على التصاريح والتراخيص اللازمة، ليشهد مشروعه يعلق وسط الدعاوى القضائية التي أوقفته في النهاية. ويقبع الهيكل شاهق الارتفاع خالياً منذ ذلك الحين، مع صالة عرض واحدة مُؤثّثة، وبعض المصابيح، وتلفاز قديم يعرض مشاهد خافتة عجيبة من حلمٍ بعيد المنال.
على الطريقة المصرية في إدارة الأمور
يقول محمد الشاهد، مُؤلّف الدليل المعماري الجديد "القاهرة منذ عام 1900": "يُلخِّص هذا المبنى الطريقة المصرية في إدارة الأمور. إذ تحصل شركة تطويرٍ عقاري على تصريحٍ مُباشر من رئيس الجمهورية، ثم يأتي رئيسٌ آخر بدائرته الخاصة من رجال الأعمال الذي يُريدون قطعةً من الكعكة. فيرفض المستثمر الأصلي ذلك. ويُهجَر المشروع. أيّ نوعٍ من المدن يسمح أن تتشكّل بيئة البناء بهذه الطريقة؟".
ويُقدّم دليل الشاهد مثالاً رائعاً على هذا النموذج بعد عدة سنوات من البحث في الأرشيفات العشوائية. إذ يشمل 226 مبنى بعضها لم يكتمل بناؤه، وبعضها جرى هدمه، وبعضها لم يبدأ بناؤه من الأصل. وتبدو الكثير من تلك المباني وكأنها عادية ولا شيء يُميِّزها، أو ليست من النوع الذي قد يعتبره المؤرخون جديراً بالتقدير. وهذا هو الغرض من الفكرة أساساً. إذ يقول الشاهد، المُهندس البارع والمؤرخ المعماري الذي أطلق مُدوّنة Cairobserver: "لا يهدف الكتاب فقط إلى توفير عينة عن القاهرة بشكلها الحالي، بل يُقدِّم أيضاً سجلاً لما كانت عليه المدينة في الماضي، وما كان يُمكن أن تتحوّل له. إذ جرى هدم الكثير من أجزاء المدينة قبل أن نكتشفها أو نُوثِّقها حتى. وهذا يعني أنّ القاهرة ليست مكاناً يُمكنك التجوّل فيه والشعور بعبق التاريخ فعلياً، أو معرفة تاريخ كل منطقة وبناء، رغم أجيالٍ من التطوّر. الأمر مُشوّشٌ للغاية".
وكتابه هو عبارةٌ عن صيحة ودعوة للنظر من زاويةٍ أخرى إلى النسيج اليومي لهذه المدينة الغنية بالطبقات. إذ تكشف تشكيلة المباني عن مجموعةٍ مُذهلة من الطُرز المعمارية التي استُخدِمت بكل حرية على مرّ القرن الأخير، بسبب القادة السياسيين المتعاقبين ورغباتهم في استبدال بصمة من سبقوهم. فهناك الحلوى المعمارية النيو-مملوكية المزخرفة من أوائل القرن العشرين (التي صمّمها عادةً معماريون أوروبيون يعملون في القاهرة مُحاولين "الالتزام بالسياق")، والتجارب الجريئة في العمارة الحداثية والخمومية العالمية خلال الخمسينيات والستينيات خلال عهد الرئيس عبدالناصر، ثم البحث المُتجدّد عن الهوية في السبعينيات مع إعادة إحياء العمارة العامية التي أعقبها تضخُّمٌ في هياكل ما بعد الحداثة المُتخفيّة في ثياب مصر القديمة الفاخرة. وفي النهاية، هناك مجموعةٌ من مشاريع الخيال العلمي التي لم تتجاوز لوحات رسوم المعماريين. وهي مشاريع تمنح عينك تجربةً مُتداخلة ومسعورة أشبه بتجربة التجوّل بشوارع القاهرة المُفعمة بالحياة.
ويبرز لنا من هذه المعركة المعمارية سيد كريم، مُصمّم نحو 30 بناءً في كتاب الشاهد. فبعد دراسته في سويسرا، عاد كريم إلى مصر لتأسيس مجلة العمارة عام 1939، أول مجلة معمارية ناطقة باللغة العربية في العالم. كما تزعَّم الدفاع عن نوعٍ من العمارة الحديثة المُتجذّرة في السياق المصري.
ويقول الشاهد: "المعماريون الحداثيون في مصر لم يكونوا مهووسين بفكرة الطراز على غرار نظرائهم الغربيين، بل كانوا مهتمين باستخدام المواد وتقنيات البناء المتوافرة في مصر، بدلاً من تطبيق نمط مأخوذ عن كتاب الطُرز. وفي مجلة العمارة، لم تكُن كلمة "مُعاصر" تُشير إلى الطراز تحديداً، بل كانت تُستخدم في الإشارة إلى أحدث التطوّرات المعمارية ومواد البناء". كما يرى أنّ الافتقار إلى عقيدة نقية في ما يتعلّق بالطرز المعمارية هو سبب تجاهل هذا النوع من العمارة تحديداً.
العمارة الشاذة للقاهرة
هناك عددٌ من المباني الشاذة الغريبة في الكتاب أيضاً، والتي يبدو أنّها تتحدّى أعراف المُصمّمين بالكامل. إذ تنتصب فيلا بدران للمهندس جمال بكري، المبنية عام 1971، وكأنّها مُتمرّد سمين ضد انتشار العمارة الحداثية المُخفّفة في جميع أنحاء العاصمة. إذ تُمثّل الفيلا مزيجاً من طرازات منازل الرسوم المتحركة الشهيرة فلينستون وباربا الشاطر، ويتمتّع بإطلالةٍ معمارية مونوليثية أصلية تتألّف من أشكال صخرية تُشبه البصل وتتّصل بشرفات مزروعة بالأزهار. كما تحظى كنيسةٌ من الخرسانة المُسلّحة، صمّمها صديق شهاب الدين عام 1955، بمظهرٍ يحمل نفس الأصالة ويُشبه البدن المُضلّع لقاربٍ مقلوب رأساً على عقب.
وهناك أيضاً مسجد الرحمة الغامض، في مدينة نصر، الذي بناه حسن رشدان عام 1982. فهو على شكل سفينة فضاء متقاطعة مع جبل، كما يضُمُّ هرماً ثمانياً تعلوه قُبة. وفي الوقت ذاته بلغت إعادة الإحياء المصرية القديمة ذروتها العالية في صورة مبنى المحكمة الدستورية العليا، الذي صمّمه أحمد ميتو عام 1999 (ويزعم أنّه جرى تعديله كثيراً عن التصميم الأصلي)، ويضم أعمدة معبد ضخمة كرتونية الشكل التي تنتصب فوق أساسٍ من البوابات المُدرّجة. ويمنحنا الكتاب قائمةً طويلة لنختار منها ما نشاء، لكنّنا سنجد فجوةً واضحة حين يتعلّق الأمر بأمثلةٍ بارزة على العمارة المعاصرة.
ويقول الشاهد: "نشهد اليوم مُعدّلات غير مسبوقة من الإنشاءات في مصر. إذ نبني عاصمةً جديدة ومُدناً تابعة جديدة، ولكن المفارقة تكمُن في انعدام أيّ وجود للمهندسين المعماريين في الحياة العامة. وهناك فجوةٌ واضحة للغاية بين من يستطيعون الحصول على خدمات المعماري وبين من يعجزون عن ذلك -في حين أنّ شريحة المجتمع التي تستطيع فعل ذلك تُخبّئ نفسها خلف أسوارٍ عالية. ومع تراجع النُخب وتخفّيها وسط المجتمعات المُسوّرة؛ اختفت العمارة من الشارع المصري".