عندما وصف وزير الخارجية اليوناني الاتفاق البحري مع إيطاليا بالتاريخي، قال إن بلاده ستوقع اتفاقية مماثلة مع مصر، وجاء إلى القاهرة بالفعل، لكن الاتفاقية لم تتم، فما قصة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين؟ وهل الأفضل لمصر الآن اعتماد الرؤية اليونانية التي رفضتها على مدار عقود؟
الجولة 12 من المفاوضات
جولة المفاوضات الحالية بين مصر واليونان هي رقم 12 في ماراثون التوصل لاتفاق حول شرق المتوسط، وانتهت تلك الجولة أيضاً دون اتفاق، حيث فشلت المفاوضات الفنية على هامش المباحثات بين وزيري خارجية مصر واليونان، سامح شكري ونيكوس دندياس، بشأن مسألة تعيين الحدود البحرية دون اتفاق، وفي فقرة تذيلت بيان المحادثات جاء أنه "تم مواصلة العمل بين الجانبين للتوصل إلى اتفاق يحقق مصالح البلدين الصديقين".
صدر بيان الخارجية المصرية، الخميس 18 يونيو/حزيران، عقب ساعات من توقعات إعلامية بإمكانية توقيع اتفاق بين القاهرة وأثينا؛ لتقليل فرص تركيا في الحصول على حقوقها بمنطقة شرق البحر المتوسط. وعلى هذا النحو سار بيان يوناني تحدث أيضاً عن استئناف المفاوضات فقط، وبعد أن عاد من القاهرة بخفي حنين، زاد دندياس بقوله عبر تويتر: "المحادثات لم تنتهِ بعد".
رغم أنه كانت تنازعه قبل أيام آمال أدلى بها لوسائل إعلام بتوقيع "نتيجة مماثلة" لاتفاق بلاده مع إيطاليا بشأن ترسيم مناطق بحرية، ومن دون أن يقدم سبباً لعدم الاتفاق مع مصر، ذهب دندياس بـ"حسابات خاطئة"، ليتحدث عن أن الاتفاق التركي – الليبي بشأن مناطق النفوذ البحرية، الموقع في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، سيكون بلا أثر، حال تغيير الحكومة الليبية الحالية (المعترف بها دولياً). رغم أن خارجية مصر قالت، عقب وقت قصير من توقيع الاتفاق، إنه "لا يمسّ مصالحها"، بحسب تقرير للأناضول اليوم الإثنين 22 يونيو/حزيران.
سمير فرج، وهو خبير مصري مقرّب من النظام، قال لوسائل إعلام إماراتية إن "بعض الأمور الفنية تتطلب مزيداً من الوقت للدراسة"، متوقعاً بدبلوماسية أن يُوقع الاتفاق بين القاهرة وأثينا "قريباً جداً"، وبهذا التأجيل، يتأكد أن اليونان تواصل حساباتها، إزاء قراءة المشهد المصري والتركي معاً في شرق المتوسط، وتجعل من فرص تقارب أنقرة والقاهرة أمراً ممكناً، رغم تعقيدات سياسية.
من المهم أن نذكر أن اليونان تسعى منذ عهد مبارك لترسيم حدودها البحرية مع مصر وفقاً للرؤية اليونانية، ولكن مصر لم ترسم حدودها البحرية مع اليونان مطلقاً، وظل الأمر معلقاً بسبب إدراك مصر أن طريقة ترسيم الحدود اليونانية سيكون نتيجتها خسارة مصر مساحة كبيرة من المناطق الخالصة، ورغم أن أثينا تحاول استغلال توتر العلاقات بين القاهرة وأنقرة لتوقيع الاتفاقية، يبدو حتى الآن أن مصر تضع مصلحتها أولاً وهو ما أخّر توقيع الاتفاقية حتى الآن.
معارك على أكثر من جبهة
إمكانية التقارب التركي المصري يدعمها أن القاهرة لن تخوض حرباً دبلوماسية خشنة ولا ناعمة على جبهتين في آن واحد، في ظل ذهابها إلى مجلس الأمن الدولي، لبحث أزمة مفاوضات سد "النهضة" الإثيوبي، مع تمسك أديس أبابا بالملء المنفرد للسد، في يوليو/تموز المقبل، وإقرار القاهرة الضمني بأن اتفاق أنقرة – طرابلس "لا يمسّ مصالحها"، وبالتالي فإن معركة "شرق المتوسط ملف "ثانوي" حالياً.
وفي معادلات المصالح والحقوق بمنطقة شرق المتوسط، ستكون تلك الأطراف البارزة الثلاثة (أنقرة والقاهرة وأثينا) أمام سيناريوهات أقربها للتحقق هو حدوث تقارب مصري – تركي، في ظل جمود يوناني، وذلك على النحو التالي:
أولاً: اليونان.. "حسابات خاطئة"
تحاول اليونان أن تسابق الزمن لإقرار ملفات نجاح لمصالحها في شرق المتوسط، ضمن معارك إعلامية عادة ما تفرض واقعاً غير حقيقي، آملاً في فرضها بجدول أي مفاوضات بحرية في تلك المنطقة التي تتزايد فيها اكتشافات الغاز الطبيعي.
وهذا واضح مع ترويج دندياس مؤخراً لاتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إيطاليا، غير معلوم التفاصيل رسمياً، على أنه "تاريخي"، وتكرار حديثه عن حقوق أنقرة في شرق المتوسط، وهذا ليس بعيداً عن الأزمة التاريخية بين اليونان وتركيا بشأن قبرص المقسمة بين تركية ورومية.
وبالنظر لـ"حسابات خاطئة" أخرى لأثينا، وقعت اليونان في 2 يناير/كانون الثاني 2020 مع قبرص الرومية وإسرائيل اتفاقاً لمد خط أنابيب "شرق المتوسط" (إيست ميد) تحت البحر بطول 1900 كلم، لنقل الغاز الطبيعي من شرق المتوسط إلى أوروبا، مع غياب مصر ذات العلاقات المتميزة مع تلك البلدان.
وتدرك اليونان أن "إيست ميد"، وفق تقارير، يمسّ مساعي وخطط ومشاريع القاهرة لتحويل مصر إلى منصة إقليمية لتصدير الغاز في شرق المتوسط في المدى البعيد، بجانب حديث مراقبين عن أنه سيواجه عوائق وتحفظات من تركيا وروسيا وإيطاليا، فضلاً عن جدواه الاقتصادية الضعيفة ومخاطره الكبيرة.
ولم تضع أثينا مصالح القاهرة في الاعتبار، متعلقة بسردية أزمتها مع أنقرة، وبالتالي سيكون "إيست ميد" ملفاً سياسياً أقرب منه اقتصادياً، ولن تكون اليونان رابحة فيه بشكل مجدٍ، في ظل تعقيدات شرق المتوسط.
فضلاً عن أن عدم قدرة أثينا على حسم مفاوضاتها مع القاهرة، في جولتها الثانية عشرة، يكشف عن تشبث اليونان بأطروحات غير قابلة للتنازل، وهو ما سيؤخر حسم أي اتفاق مع القاهرة، التي تبحث بلا شك عن مصالحها.
ولا يغيب عن هذا النطاق، ما أوردته حصرياً قناة "الجزيرة مباشر" القطرية، في 4 ديسمبر/كانون الأول 2019، من وثيقتين، لم تعلق عليهما القاهرة ولا أثينا، تتحدثان عن توصية مصرية برفض الطرح اليوناني لترسيم الحدود، لتمسّكه بمواقف قد تؤدي لخسارة مصر مساحات من مياهها الاقتصادية، مع استمرار المفاوضات للتوافق والاستفادة من الموارد.
وتشير وثيقة إلى تقرير للخارجية المصرية، في 2017، يتحدث عن عن لجوء أثينا إلى "مغالطات وادعاءات وأساليب ملتوية" في المفاوضات عن تعمد "استغلال التوافق السياسي بين البلدين لإحراج فريق التفاوض المصري".
وبعيداً عن صحة الوثيقتين من عدمهما، فإن أثينا تبحث دائماً عن "انتصارات أحادية" تعزز الجبهة الداخلية وتخصم نقاطاً من حقوق تركيا على حساب مصر، وتقوى تحركاتها المستقبلية في أي مفاوضات.
ويبدو أن الأمر سيظل في إطار "حسابات خاطئة"، إلا إذا غيرت اليونان وجهتها، وهذا غير متوقع إلى وقت قريب.
ثانياً: مصر.. لا تخوض معركتين ومصالحها أولاً
لن تغامر مصر بخوض معركة "شرق المتوسط" حالياً بحسم؛ لأمرين مهمين: الأول هو أنها لا تزال على جبهة معركة سد "النهضة" الإثيوبي، وقدمت طلباً إلى مجلس الأمن ليتدخل بشكل حاسم، خاصة أن إثيوبيا مُصرة على الملء المنفرد للسد، الشهر المقبل، باتفاق أو بلا اتفاق.
فضلاً عن أن مصالح مصر حالياً، لا تمَسّ بالاتفاق الليبي – التركي المزعج لليونان، وبالتالي لن تخوض معركة لصالح أثينا، كما أن سياسات القاهرة الخارجية في السنوات الأخيرة تركز على تعظيم مصالحها، وبالتالي لن تقبل بخسارة في مفاوضاتها مع اليونان.
إن موقع مصر الجيو-استراتيجي يجعلها، مع اعتبار أن الوقت في صالحها، من أبرز المستفيدين من حقوقها بشرق المتوسط، ولن تقدم على اتفاق ترسيم حدود بحرية أو مناطق بحرية على نحو ما حدث مع قبرص الرومية، في 2014، وذلك لاعتبار أهم.
والاعتبار الأهم هو أن موقف مصر التفاوضي مع اليونان أصبح أقوى بعد الاتفاق التركي – الليبي، وهو ما يجعل القاهرة أقرب إلى أنقرة وليس أثينا.
نعم الاتفاق التركي – الليبي رُفض مصرياً بشكل رسمي، لكن لأسباب معروفة مرتبطة بالتحالف مع اليونان وقبرص الرومية، والخلاف السياسي مع أنقرة، لكن مصر لم تغلق الباب كاملاً منذ أزمة 2013، إذ إن المسارات الاقتصادية لا تزال نشطة بين أنقرة والقاهرة.
وبافتراض أن مصر وتركيا لن تذهبا إلى اتفاق مكتوب بديلاً عن اليوناني المحتمل، في ظل ما سبق ذكره، فإنه على الأقل سيبقى التقارب الصامت موجوداً، في ظل قناعة مصر بأن الاتفاق التركي – الليبي ليس مُضراً بمصالحها.
وسيمثل هذا الاتفاق أحد أدوات القاهرة للحفاظ على مكاسبها والضغط في أي جولة مفاوضات، كي تتراجع اليونان عن توسّعاتها غير القانونية بشرق المتوسط، على حساب المصالح المصرية، خاصة أن المعارضة المصرية في الخارج تردد أن النظام سيخسر مساحة من المياه الاقتصادية لصالح أثينا.
ولن تقطع مصر "شعرة معاوية" مع تركيا، ومصالحهما الاقتصادية، من أجل صراع أثينا مع أنقرة، ولن تتنازل عن مصالحها في "شرق المتوسط"، مع آمالها في التحول لمنصة إقليمية للغاز، خاصة مع تحرك منفرد لليونان وقبرص الرومية وإسرائيل بمشروع "إيست ميد" مسّ بمصالحها، وهو ما لم يفعله الاتفاق التركي – الليبي.
ثالثاً: تركيا.. حق سيادي وباب مفاوضات لم يُغلق بعد
من المعروف أن تركيا هي المركز الإقليمي للطاقة في أوروبا، بفضل موقعها الجغرافي بين الدول المصدرة للغاز في آسيا والسوق الأوروبي، وامتلاكها شبكة واسعة من خطوط أنابيب الغاز الطبيعي، وفي مطلع ديسمبر/كانون الأول 2019، بعد 4 أيام من توقيع الاتفاق بين أنقرة وطرابلس، جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تأكيده على أن الاتفاق حول تحديد النفوذ البحري في البحر المتوسط مع ليبيا هو "حق سيادي" للبلدين.
آنذاك، أعلن متحدث الخارجية التركية، حامي أقصوي، في بيان، أن تركيا دعت الأطراف (بلاد شرق المتوسط)، قبل توقيع الاتفاق، إلى مفاوضات للتوصل إلى تفاهم عادل، وأن تركيا لا تزال مستعدة للتفاوض، وفيما تؤكد أنقرة أن باب التفاوض لم يُغلق في منطقة شرق المتوسط، يبدو أن قطار التفاهمات ربما يتحرك في أقرب فرصة ممكنة نحو تقارب مصري – تركي يتجاوز، بلغة المصالح، "الحسابات الخاطئة" لأثينا.