الاستقطاب الحاد في حياتنا لم يعد مقصوراً على الانتماءات السياسية أو الدينية، أو حتى الاجتماعية، بل امتد إلى كل شيء، سواء كان كبيراً أو صغيراً كلياً أو جزئياً، ضرورياً أو كمالياً بلا استثناءات، ففريق يرى أن ساره حجازي لا تستحق الترحم عليها، وفريق يراها بطلة، فهل الحل لمن يريد الابتعاد عن الجدل غير المجدي هو أن يعيش بلا فيسبوك أو تويتر؟
مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام أصبحت ساحة نقاش ضخمة ومفتوحة ومتاحة للجميع، وزادت أهميتها بصورة خاصة في زمن البقاء في المنزل هرباً من عدوى وباء كورونا، لكن أحياناً يجد الشخص نفسه أمام سؤال يتعلق بعلاقاته مع أشخاص في محيطه يعرفهم بدرجات متفاوتة، هل أردّ على تعليقات أو منشورات لا تتفق مع قناعاتي أملاً في توصيل رسالة ما، أم أن الأفضل تجاهل الأمر تماماً؟
تريندات يومية متنوعة
الحديث هنا ليس عن ناشط أو أحد مشاهير السوشيال ميديا، بل يخص الأشخاص العاديين الذين يدخلون على حساباتهم الشخصية لمتابعة ما ينشره الأصدقاء لديهم، سواء كانت القائمة تضم أصدقاء افتراضيين لا يوجد سابق معرفة معهم أو معارف وأصدقاء وزملاء عمل سابقون مثلاً، ومن الطبيعي أن يحدث تفاعل من وقت لآخر حول "التريند" وقت التفاعل.
والتريند هو تلك القصة التي تحظى بالتفاعل الأكبر بين مستخدمي منصات التواصل كل يوم، وليس بالضرورة أن تكون تحظى القصة نفسها باهتمام الشخص، لكن رغم ذلك قد يجد منشوراً بشأنها عند أحد الأصدقاء في قائمته، ويجد تعليقات من أشخاص يعرفهم افتراضياً أو في الواقع، فيتوقف أمام المنشور أو التعليق مصدوماً أحياناً، لأن المنشور نفسه أو التعليق قد أصاب وتراً حساساً لديه يخص معتقداً دينياً أو مبدأ عاماً في الحياة، فهل يكتب تعليقاً على المنشور أو يرد على التعليق؟
وكمجرد أمثلة فقط للتوضيح، قصة الشكوى التي كانت قطر قد تقدمت بها ضد السعودية، بسبب حقوق بث مباريات كرة القدم عبر BEIN، وانتهاك الرياض لتلك الحقوق من خلال BEOUT، وصدور الحكم في القضية لصالح قطر، وكذلك انتحار سارة حجازي، وما نتج عنه من جدل حول جواز الترحم على المنتحر وأمور أخرى، وهناك أيضاً قضية العنصرية التي فجّرها مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصل إفريقي، على أيدي الشرطة، والتي تفاعل معها عالمنا العربي بشكل مكثف أيضاً.
لماذا قد أرغب في مناقشة صديق؟
تلك الأمثلة مجرد نماذج بالطبع، وربما لا يكون أي منها ضمن اهتماماتك أو اهتمامات أي من الموجودين في قائمة أصدقائك، لكن التريند لا يعرف حدوداً، فأي شيء مهما كان صغيراً أو شاذاً عن المألوف يصبح ترينداً في وقت ما، وبالتالي لا يوجد شخص لديه حساب على الفيسبوك أو تويتر -الأكثر انتشاراً في المنطقة العربية- إلا وتعرض لهذا الموقف مراراً وتكراراً؛ يكتب تعليقاً فيأتيه رد أو ردود تنتقد ما كتب، فيرد هو أو هي، ويتحول الأمر لجدال ربما لا ينتهي.
البعض منا يشعر أن واجبه هو تصحيح مفاهيم الآخرين بدافع محاربة ما يراه "جهلاً أو قلة وعي"، أو بدافع ما يراه "كفراً أو تعدياً على عقيدته"، أو بدافع ما يراه "عنصريةً ويمينية متطرفة ترفض الليبرالية"، أو بدافع ما يراه "خيانةً للوطن"، والأمثلة لا تنتهي، والبعض الآخر يرى نفسه صاحب مبدأ وموقف يستحق أن يُدافع عنه، وهكذا تتعدد الدوافع وصولاً لمن ليس لديه شيء آخر يفعله في تلك اللحظة.
ماذا يقول المتخصصون؟
عالم النفس الاجتماعي الدكتور كيون ويست يقول إن الأمر في هذه الحالات مرهون بما يريد الشخص تحقيقه من خلال التفاعل مع شخص آخر كتب تعليقاً عنصرياً أو فيه تنمر أو ما شابه، وأضاف في تحقيق نشرته هيئة الإذاعة البريطانية BBC: "إذا كنت تريد أن تحافظ على صحتك العقلية فحسب، فنصيحتي أن تتحاشى هذا الشخص، ولا أعتقد أنك ستشعر بالراحة بعد التفاعل مع أناس يتصرفون بعنصرية، بل ستشعر بالغضب على أغلب الظن".
لكن ماذا لو كان الشخص الذي نتحدّث عنه هنا تربطك به علاقة شخصية -أحد أفراد الأسرة أو صديق مقرب- فأنت تمتلك فكرة كافية عنه أو عنها، تجعلك تشعر بالقدرة على أن تساعده على فهم القضية بصورة أوسع، وبالتالي فتح الباب أمامه أو أمامها لتغيير مفاهيم خاطئة.
في هذه الحالة يرى ويست أنه إذا كان هدفك هو تذكير الشخص "بأن الضوابط الاجتماعية لا تسمح بهذه التصرفات، فأنصح بمحاورة هذا الشخص، فحتى إذا لم ينجح هذا الأسلوب في تغيير وجهة نظره فقد يمنحه نظرة مختلفة لما يعتبر تصرفاً مقبولاً".
ماذا عن أصحاب النفس الطويل؟
بعض الناس يتمتعون بقدرة عالية على تقبُّل المختلفين معهم ومحاورتهم، والبعض من هذه النوعية يتملكهم إحساس بالقدرة على إحداث تأثير في الآخرين، ومن هذه النوعية الممثلة الكوميدية والمؤلفة إنجامبي مكغراث، التي شاركت تجربتها حينما قرّرت التحاور مع رجل تعتبره عنصرياً، ولكنها تعتقد أن التفاعل معه قد يجعله يعيد النظر فيما يشعر به الآخرون.
مكغراث قالت لبي بي سي: "إذا عاد إلى منزله في ذلك اليوم، وحتى إذا كان متمسكاً بمواقفه، فسيعرف أن أحدهم قد أثار مسألة مهمة"، رغم اعترافها بأن الموضوع قد يكون "مرهقاً" بعض الشيء.
وكاسيا وليامز التي تعرض زوجها للعنصرية نموذج آخر، حيث تشعر أنه من الضروري لها أن ترد عندما ترى أي مداخلات عنصرية في فيسبوك، وتقول "لا أستطيع التزام الصمت والتغاضي عن ذلك. استمع العديد من الناس إلى الرسالة التي أبعث بها، وقالوا 'شكرا لمشاركتك هذه المعلومات' ومضوا لتثقيف آخرين، وهذا أمر أعتقد أنه مهم"، "ولكن لسوء الحظ، هناك أناس لا يريدون الاستماع لما يقال، ولذا بدأت بالشعور بأن الأمر عبارة عن مضيعة للوقت".
لا تتوقع أن تغير قناعات أحد
لكن في كل الأحوال يرى أغلب المتخصصين أنه حتى "أصحاب النفس الطويل" عليهم ألا يتوقعوا الكثير، ويقول الدكتور ويست إنك "لو ردَدت على ما يكتبه الآخرون فلا تتوقع أن يتخلوا عن عنصريتهم"، مضيفاً: "إذا اعتقدت أنك لو تحاورت معهم من خلال الإنترنت فسيجعلهم أقل تعصباً، فالبحوث تشير إلى عكس ذلك. ولكنهم قد يستوعبون أن الآخرين لا يتقبلون تصرفاتهم. هناك الكثير من السبل لتثقيف الناس، ولكن هذه السبل تتطلب الكثير من الوقت، ولا تشمل تبادل الشتائم في الإنترنت".
وهذه النقطة الأخيرة بالتحديد "تبادل الشتائم في الإنترنت" يجب الانتباه إليها جيداً، فكيف تتوقع أن تُقنع شخصاً يوجّه لك السباب وترد عليه أنت أيضاً السباب، أن يقتنع بتغيير قناعاته ويتبنى قناعاتك أنت، أو على الأقل يراجع نفسه؟
الخلاصة هنا، بحسب التجربة وآراء المتخصصين في علمَي النفس والاجتماع، هي أن الطريقة الأفضل بالنسبة للشخص العادي أن يبتعد قدر المستطاع عن الدخول في "جدال" عبر الإنترنت مع آخرين يتبنون مواقف متناقضة مع قناعاته بصورة جدية وألا ينجر إلى نقاشات لن يجني من ورائها على الأرجح سوى مشاعر سلبية متنوعة.