..والعلماني هو مَن يتبنى هذا المبدأ ويلتزم به رأياً وفعلاً، ويتخذ مواقفه على أسس العقل والإرادة الحرة والضمير الإنساني المرتبط جوهرياً بمفهوم الخير الإنساني. وهذا يعني أن العلمانية تقف من حيث المبدأ موقف الحياد الإيجابي من وجود الدين، فهي ليست معه وليست ضده، ولا تسعى إلى إلغائه أو إلى فرضه، ولكنها تترك الحرية للناس في أن يختاروا الدين الذي يريدونه أو الإلحاد إن أرادوا
دراسة رسلان عامر، مؤمنون بلا حدود، قسم: الدين وقضايا المجتمع الراهنة
رغم الكلام الذي يُكتب حول براءة العلمانية من الاستبداد وتنميط المجتمعات وقذفها في مستنقع الفوضى، ورغم إضفاء العقلانية على الممارسة العَلمانية، فإن الأيام تأبى إلا أن تدحض هذه الادعاءات. ففي جانب تحولت العلمانية في أوروبا والغرب عموماً إلى وحش يلتهم الحياة الإنسانية ويحل محلها الأصنام المادية "الأسواق، السلع، الدولة، اللذة.. إلخ". وأضحت العلمانية العربية محط استهجان الكل خاصة بعد ثورات الربيع العربي، ففي مصر لم تدخل القوى العلمانية الساحة إلى متأخرة، بل طائفة كبيرة منها كانت ضد الثورة ولا زالت. وهي مَن دعمت الانقلاب العسكري، ولعل الوجوه التي تظهر على الشاشات المصرية خير دليل؛ ولك أن تحكم بنفسك.
أما في تونس فقد كان الموقف واضحاً منذ البداية، وذاك لأن النظام المخلوع كان نظاماً علمانياً حكم العباد بالحديد والنار، ولما خلعته الإرادة الشعبية، أقسم أتباعه على الانتقام من الثورة بثورة مضادة.
من كارل ماركس إلى عبير موسى
حين انتقل كارل ماركس إلى باريس بعد أن أغلقت صحيفته وطُرد في ألمانيا، تزامن ذلك مع اشتعالٍ للثورات الأوروبية، أو ما يُعرف بربيع الشعوب "1848"؛ ولما استقر به المقام انضم لثوريين ألمان، وأثناء اللقاءات السرية التقى بصديقه فريدريك إنجلز، هو أحد أبناء البرجوازية الألمانية ممن تمتلك مصانع في بريطانيا، وسرعان ما امتزج الاثنان، فعلَّم ماركس إنجلز مبادئ الاقتصاد السياسي، وفَهم ماركس من إنجلز أُسس التنظيم العمالي في بريطانيا، وعشية الثورة الباريسية كتبا الصديقان تحت طلب المؤتمر الشيوعي السري كتابهما "البيان الشيوعي"، ليصبح مذ ذاك دستوراً للحركة العمالية في العالم.
يتحدث ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي عما يُسمى "البروليتاريا الرثة"، ويقصد بها مجموع قطّاع الطرق والجهّال ممن هم في الأصل بروليتاريا "طبقة كادحة"، لكن لكونهم رعاعاً، تتخذهم البرجوازية سلاحاً هجومياً ضد البروليتاريا التي هي فئتهم الأصلية، وقد استعملهم البرجوازية في ثورات "1948" الأوروبية.
ويبدو أن البروليتاريا الرثة لم تعد مرتبطة بالطبقة الكادحة بل تعدتها إلى "المثقفين". ففي تونس تقود المدعوة عبير موسى حملة هوجاء ضد برلمان وطنها. فقد حدث أن قاطعت جلسات البرلمان مرات عدة، وتدخلت لخلق البلبلة والفوضى داخل الحرم البرلماني، بل ووصفت زملاءها البرلمانيين بالدواعش والإرهابيين، ولم تدخر جهوداً في إظهار العداء للرئيس المدني قيس سعيد في أكثر من مرة. هذا وأكثر فعلته موسى أمام مرأى ومسمع التونسيين والعالم، وهذا وهي تدعي كونها تمثل التيار العَلماني التقدمي، تقدمي نحو الهاوية على ما أظن.
والآن.. هل نصدق الأستاذ رسلان عامر الذي يحاول أن يخبرنا بأن العلماني شخص عقلاني يبحث عن مصلحة الإنسان، ويحترم اختيارات الكل، ونحن بين أيدينا نموذج عبير موسى وحزبها؟
قطعاً لن نصدق الرجل، خاصة أن المنبر الذي يتحدث منه والذي يسمى زوراً "المؤمنون بلا حدود"، تابع لدولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة التي أفسدت على الشعوب العربية فرحتها كما فعلت النمسا مع الشعوب الأوروبية في 1848.
حرب الإمارات المقدسة
ناقشت منذ مدة طويلة مجلة "لوب لوج" الأمريكية الحرب التي تشنها الإمارات على ثورات الربيع العربي، وخاصة حركات "الإسلام السياسي"، ودعمها للثورات المضادة في كل من مصر وليبيا وتونس، وتدخلاتها في الشأن الداخلي لمعظم الدول العربية، خصوصاً في كل من السودان والجزائر بعد الاحتجاجات الأخيرة.
إن الدولة التي يكبرها أبي بحوالي 10 سنوات وجدي بـ30 سنة، ما فتئت تتدخل في شؤون الدول العربية وتتحرش بحكوماتها وتتطاول على الرؤساء والملوك العرب، ولا أحد استطاع إيقافها، هذه الدولة التي أدارت الانقلاب العسكري بالريموت كنترول في مصر، ودعمته بالمال والعتاد، وهي نفسها التي تدعم حفتر، وتخلق الرعب في اليمن وتسعى لاستيلاء على سقطرى.
ومنذ فترة ليست بالطويلة قادت حملة عشواء على المغرب، بعد أن رفض المغرب الرضوخ لها والعمل تحت إمرتها، ووقف منها موقفاً واضحاً بعد أن سجل العاهل المغربي الملك محمد السادس أكثر من مرة تأكيده على ضرورة احترام الدول العربية بعضها لبعض والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وهو الأمر الذي لا تعرفه الإمارات. فهي ماضية في مشروعها التخريبي، تقود هذه الأيام المرة هجوماً شرساً على الثورة التونسية، مستفيدة من فلول المخلوع بن علي والمتمثلة في حزب الدستوري الحر الذي عوّض في ما يبدو حزب نداء تونس، الحزب الذي تقوده المرأة التي أصيبت بعدوى المراهقة السياسية. والتي تدعي كونها علمانية تؤمن بالحرية والديمقراطية، لكنها وللأسف تتواطأ مع جهات خارجية على مستقبل تونس وأمنها، وتقدم مصلحتها الشخصية على مصلحة وطنها تونس، وتسعى لعرقلة الانتقال الديمقراطي وضرب أصوات الشباب التونسي الذي راهن على الرئيس الحالي ودعمه بالمال والوقت والجهد، وتخطط لتسليم تونس مرة أخرى للبرجوازية الطفيلية بقيادة رجل بن علي ومهندس انقلابه عام 1987، كامل عبداللطيف.
ربما يدافع الأستاذ رسلان عن طرحه ودراسته؛ بكون عبير موسى ومن معها لا يمثلون العلمانية كما لا يمثل تنظيم داعش الدين الإسلامي، وهذه ورقة مهمة جداً بإمكان أي علماني الرمي به إذا ما احتدم النقاش. ولكننا نقول إن جلّ تجربة العلمانيين في بلداننا هكذا، تراهم مستعدون للتحالف مع الشيطان لمنع حزب إسلامي من الحكم، ولو بتعريض أوطانهم للخراب كما حدث في مصر وليبيا.
بعد أن فشلت التجارب العَلمانية العربية بجميع تياراتها في بناء دول قوية؛ وبعد أن أدت سياساتهم إلى تعطيل التنمية لعقود بل وإلى إفلاس الحكومات كما حدث في تركيا وتونس، لم يبقَ لهم من حل، وبالتالي عادوا "علمانيين بلا حلول". ولما تأكد فشلهم في الانتخابات في كل شبر من العالم الإسلامي، بات همُّهم الوحيد عرقلة الانتقالي الديمقراطي السلمي وجرَّ البلاد نحو مستنقع الفوضى، وتصفية الجو للدول والشركات المتربصة للانقضاض على خيرات البلدان، كما حدث في مصر ببيع تيران وصنافير، ومنح حقوق غاز المتوسط لشركات إيطالية. ولهذا فالعلمانيون في العالم العربي "علمانيون بلا حلول"، ولا مشروع لديهم سوى عرقلة مشروع الإسلاميين، هذا لا يعني أنني مع النهضة أو غيرها من الحركات الإسلامية، بل على العكس، فلست أتفق معهم، لكنني أتفق مع الشعوب وحقها في أن تصوّت للإسلامي أو اليساري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.